إلى نهاية حرب أكتوبر المجيدة 1973 كانت دار الإذاعة الإسرائيلية (الآن اسمها صوت إسرائيل) تقدم برنامجًا في الثامنة مساءً كل يوم باسم "حديث العم حمدان" تسبقه بأغنية لأم كلثوم حتى تسيطر على آذان المستمعين المصريين والعرب لحين أن يطل عليهم بلهجته الصعيدية بجملة "إخواني ولد مصر الطيبين" التي يفتتح بها كلامه.
كان بعض المستمعين مغرمًا بالاستماع إليه بدافع التسلية والضحك. يبدو عارفًا بكل شيء حتى بالقرى والنجوع الصغيرة. يتناولها بالتهكم والسخرية بطريقة حواديت المصاطب، إلا أنه محترف في صناعة أكاذيبه بعكس البرامج الحوارية في الفضائيات حاليًا. مقدموها هواة بالمقارنة به، فهو يلتقط جزءًا صحيحًا ويبني عليه قصة كاذبة، فلا تنهار سريعًا كقصصهم.
له حكاية تخصني، فقد كتب الأستاذ فايز بقطر وكان مدير مكتب جريدة الأخبار في قنا موضوعًا عني عندما حصلت على المركز الأول في المحافظة بالشهادة الابتدائية وذهبت للمحافظ الفريق محمد عبد السلام توفيق ليمنحني مكافأة التفوق وكانت عشرة جنيهات، ما يزيد قليلًا عن دولار واحد بأسعار الصرف هذه الأيام، لكني رفضت المكافأة وطلبت بدلًا منها إدخال المياه النقية للقرية وإعادة بناء مدرستها التي أكلها النمل الأبيض فهددت حياتنا طوال دراستي الابتدائية بها.
الأستاذ فايز بقطر كتب قصة الحوار الذي جرى بيني وبين الفريق توفيق بعنوان "الطفل النابغة يرفض مكافأة المحافظ ويطلب أن تدخل المياه البركة" قاصدًا اسم القرية "نجع البركة". استدعاني وزير التربية والتعليم وقتها الدكتور علي عبد الرازق فذهبت إلى القاهرة لأول مرة في حياتي لحضور حفل أوائل الجمهورية، وحين بدأ يخطب فيهم ذكر قصتي وطلب مني الصعود إلى المنصة.
إلى هنا والاهتمام غير عادي من الحكومة رغم أنها كانت تعيش أجواء الاستعداد للحرب، لكن "العم حمدان" جعل مما حدث عنوانًا للبؤس والفقر والإهمال في "نجع البركة" وكيف يشرب أهلها من مياه الترعة وتملأهم الأمراض ويعيشون في منازل مهددة بالانهيار فوق سكانها بسبب النمل الأبيض وأن هذا نموذج لكل أرياف مصر بسبب الحروب ضد إسرائيل التي تريد لهم الصحة والرفاهية والسلامة وتحريرهم من الاحتلال السوفييتي الذي تذهب إليه خيرات بلدهم، على حد ما كان يبثه من أكاذيب. وهكذا يكرر حملاته النفسية كل يوم بالبناء على جزء من حدث حقيقي في أعماق المجتمع.
أتذكر "حديث العم حمدان" عندما أسمع الإشاعات اليومية التي تبثها الفضائيات والصحف في حروبها اليومية على أداء رئيس الجمهورية. أمس الأول استقبلت عودته من البرازيل بفيديو عن قيام المروحيات الليبية بضرب قافلة لمصريين على الحدود مع مصر جنوبي بنغازي فقتلت 50 شخصًا أظهر الفيديو جثثهم المتناثرة.
قبل أن يذيع المتحدث العسكري المصري وكذلك المتحدث باسم رئاسة الأركان الليبية نفيًا قاطعًا للخبر، لاحظت أنني شاهدت الفيديو منذ وقت بعيد، فبحثت عنه في اليوتيوب وعثرت عليه بالفعل وكان عن مذبحة وقعت على طريق أجدابيا في العام الماضي وعليها تاريخ سبتمبر 2012، لكن صناع الإشاعة حذفوا التاريخ وقدموه للناس على أنه "حدث اليوم".
سقط خيري رمضان في الفخ وأعلن بصوت حزين أن المصريين يموتون بقنابل الطائرات الليبية ومن دولة يحكمها إسلاميون وحاكم مسلم ينطق الشهادتين، وبالمرة عرج على الحكم الإسلامي في مصر من باب التأكيد على المهانة التي يلقاها المصريون في عهدهم.
ثم بدأت مواقع التواصل الاجتماعي التباكي على شرف المصريين الذي أضاعه مرسي وكيف صارت دماء شعبه رخيصة على يده التي قرعت كأس رئيسة البرازيل!... دخل مدرب رياضي على الخط فنشر على صفحته وهو يغلي بالأسى أن السادات ثأر لكرامة مصر فورًا فأرسل قوات الصاعقة إلى قرب بنغازي مهددًا القذافي بأنه سيحضره من خيمته إن اضطر إلى ذلك، فأين مرسي من 50 مصريًا قصفتهم الطائرات الليبية بدم بارد؟!
ومع أنهم قسموا مصر إلى ثلاث دول إمعانًا في الكيد.. دولة القوات المسلحة بقيادة السيسي الذي يمنحونه التوكيلات ودولة شيخ الأزهر ودولة مرسي، تجاهلوا أن كذبتهم تستهدف الحط من كرامة الجيش وكفاءة قائده العام السيسي، فاقتراب الطائرات الليبية من الحدود المصرية وتنفيذ هجومها الجوي بتلك السهولة معناه أنها مرحت قرب مجالنا الجوي فيما طائراتنا تغط في نوم عميق.
الخبر الكاذب المكذوب مع الفيديو الفضيحة سقطا بسرعة البرق. سارعت القوات المسلحة إلى نفيه جملة وتفصيلًا وكشف حقيقة الفيديو، وقامت أكثر من جهة في ليبيا بتكذيبه منها قيادة قاعدة طبرق التي أكدت عدم إقلاع أي مروحيات في ذلك اليوم.
عدت إلى خيري رمضان لأرى تأثير افتضاح الخبر الكاذب وكان يستضيف شيخًا أزهريًا، فقرأ بعد حين تصريحات المتحدث العسكري المصري من غير اعتذار عن بثه خبرًا لم يتحقق من صحته بل تورط زيادة عليه بتعليق مستهجن لما فعلته ليبيا كأنه حدث فعلًا.
قلت إن حديث العم حمدان كان يبني أكاذيبه على جزء من الحقيقة بأسلوب جوبلزي محترف، لكن بني جلدتنا يبثون إشاعاتهم دون أي أساس فتسقط خلال دقائق.
