رابطة النهر الخالد
كَم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي
في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ
إِنّي لَأَحمِلُ في هَواكِ صَبابَةً
يا مِصرُ قَد خَرَجَت عَنِ الأَطواقِ
لَهفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً
يَحمي كَريمَ حِماكِ شَعبٌ راقي
كَلِفٌ بِمَحمودِ الخِلالِ مُتَيَّمٌ
بِالبَذلِ بَينَ يَدَيكِ وَالإِنفاقِ
إِنّي لَتُطرِبُني الخِلالُ كَريمَةً
طَرَبَ الغَريبِ بِأَوبَةٍ وَتَلاقي
وَتَهُزُّني ذِكرى المُروءَةِ وَالنَدى
بَينَ الشَمائِلِ هِزَّةَ المُشتاقِ
رابطة النهر الخالد
كَم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي
في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ
إِنّي لَأَحمِلُ في هَواكِ صَبابَةً
يا مِصرُ قَد خَرَجَت عَنِ الأَطواقِ
لَهفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً
يَحمي كَريمَ حِماكِ شَعبٌ راقي
كَلِفٌ بِمَحمودِ الخِلالِ مُتَيَّمٌ
بِالبَذلِ بَينَ يَدَيكِ وَالإِنفاقِ
إِنّي لَتُطرِبُني الخِلالُ كَريمَةً
طَرَبَ الغَريبِ بِأَوبَةٍ وَتَلاقي
وَتَهُزُّني ذِكرى المُروءَةِ وَالنَدى
بَينَ الشَمائِلِ هِزَّةَ المُشتاقِ
رابطة النهر الخالد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (4)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد الحصري




عدد المساهمات : 219
تاريخ التسجيل : 21/12/2011

مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (4) Empty
مُساهمةموضوع: مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (4)   مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (4) Emptyالخميس يناير 31, 2013 10:15 am

مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (4)
الوضع الاجتماعي - البناء القبلي للمجتمع العربي في العصر الجاهلي




يُقسِّم علماءُ الأَنْساب القبائلَ العربية في الشمال إلى قسمين كبيرَيْن: قِسْم عدناني مُضَري، وهم عرَبُ الشمال الَّذين انْحدَروا من عدنان ونِزار ومُضَر، وقسم قَحْطاني ينحدر مِن قحطان من الجنوب.



وهذا القسم الجنوبِيُّ في الشمال قد هاجرَ من اليمَن وحضرموت، وعاش بين العرب الشماليِّين.



ومَن يرجع إلى الشِّعر الجاهلي يَجِد فيه الفخرَ بالعدنانيَّة والمُضَرية، والقحطانيَّة واليمنيَّة، ويَجِد العصبيَّات مشتعلةً بين القبائل على أساس الاشتراك في الدَّم، وفي أبٍ واحد، وأمٍّ واحدة.



وقد اختلفَ النسَّابون في أصل بعض القبائل العربيَّة؛ مثل: خُزَاعة وقُضاعة وخثعم، على أنَّ الرأي الصحيح أنَّ هذه القبائل قحطانيَّة؛ فمِن الثَّابت أن القحطانيِّين هاجَروا إلى الشمال في ظروفٍ مُختلفة، وأنَّ هذه الهجرات قد بدأت منذ أزمانٍ مُبكِّرة، فقد كان المعينيُّون يَصِفون حاميات في طُرق قوافلهم التِّجارية، وبعد ضعف الدَّولة الحميريَّة هاجرَ كثيرٌ من الجنوبيِّين إلى الشمال، ومن ذلك أنَّنا نجد للقبيلة الواحدة فروعًا وشُعبًا مختلفة في الجزيرة العربيَّة؛ فكِنْدة هاجرَتْ إلى الشمال، وأسَّست لها مَمْلكة في شمالي نَجْد - كما مرَّ بنا - ثم عادَتْ بقاياها مرَّة ثانية إلى الجنوب؛ لِتَلْحق بِمَن بَقي منها في الجنوب بعد انتِهاء مَمْلكتها في بداية القرن السَّادس الهجريِّ، وكانت عشائِرُ من إياد لا تَزال تَنْزل شمالِيَّ نَجْران، بينما هاجرَتْ عشائرُ أخرى إلى منطقة الفرات شمالَ الجزيرة.



أمَّا الأَزْد فقد توزَّعَت عشائِرُها بين شماليِّ اليمن وعمان والمدينة؛ حيثُ الأوسُ والخزرج، وشمالي الجزيرة في الشام؛ حيث الغسَاسنةُ، كما هاجرت تَنوخ إلى البحرين، واستقرَّتْ في جنوبي العراق، حيث أسَّست عشائرها دولةَ المَناذرة اللخميِّين في الحيرة - كما مرَّ بنا - ونزحَتْ قبيلة طَيِّئ إلى الشمال، واستقرَّت في جبلَيْ أجأ وسلمى، كما هاجرَتْ قبائل هَمَذان من حضرموت إلى الجوف اليمنيِّ بين مأرب ونَجْران.



وهاجرَتْ قبائلُ أخرى إلى شماليِّ الحجاز، وانتشرَتْ في منطقة الشَّام، وأهَمُّها قُضاعة وجُهَينة، وبلى وبهراء، وجذام وكلب، وعاملة في مساكن ثمود وحدود فِلَسطين، كما نزلَتْ عذرة في تَيْماء ووادي القرى.



ومِمَّن هاجرَ من الجنوب خُزاعة الَّتي كانت بمكَّة، وبجيلة التي كانت تَنْزل بالطَّائف.



هذا بالنِّسبة للقبائل ذات الأصل القحطاني، أمَّا العرب الشماليُّون فأهَمُّ قبائلِه هم القُرَشيُّون بمكَّة، وثقيف بالطائف، وعبدالقيس في البَحْرين وبنو حَنِيفة في اليمامة، وتميم وضبَّة في صَحْراء الدَّهناء، وبكر ذات العشائر الكثيرة الممتدَّة من الشمال الشرقي للجزيرة إلى اليمامة والبحرين، وإلى بَكْرٍ يرجع بنو حَنيفة، وبنو عِجْل، وشَيْبان، وذُهل.



كذلك من قبائل الشمال تَغْلِب، وأسَد، وكِنانة، وهُذَيل بالقُرب من مكَّة، وقيس عيلان في نَجْد، وأهمُّ عشائرها وقبائلها هوازِنُ وسليم وعامر ومُزَينة وغَطفان، والفرعان الكبيران عَبْس وذُبْيان.



وقد كان العرَب في الجاهليَّة يتمسَّكون بهذا البِناء القبَلي الَّذي يقوم على أساس اشتِراك أبناء القبيلة في أصلٍ واحد وموطنٍ واحد، وهو موطنٌ متنقِّل مع المراعي، كذلك اشتراكها في أعرافٍ وتقاليدَ واحدة تتمسَّك بها تَمسُّكًا قويًّا؛ حيث يوثِّق الصِّلة بين أفرادها العصبيَّة القبليَّة.



وقد كان يَجْمع بين عددٍ كبير من القبائل مُعاهدات الأحلاف الَّتي لعبَتْ دَورًا كبيرًا في تكوين القبائل؛ إذْ كانت العشائر الضعيفةُ تنضَمُّ إلى العشائر القويَّة الكبيرة؛ لِتَحميها وتردَّ عنها العدوان، وعندما تقع الاختلافات والفُرقة في التنافس على الماء والكَلأ في دارٍ مثل هذه التَّحالفات، وتتقوَّى القبائل بعضُها ببعض.



وما أن تَدْخل القبيلة في حِلْف، حتَّى يُصبِح لَها على أحلافها كلُّ الحقوق؛ فهُم يَنْصرونَها على أعدائها، ويَردُّون عنها غائلةَ غيرها مِن القبائل، وقد يَحْدث أن تَنفصِل بعضُ قبائل الحِلْف؛ لتنضمَّ إلى أحلافٍ أخرى، تُحقِّق من خلال ذلك مصلحةً بِعَينها، ومِن ثَمَّ كان هناك دائمًا أحلافٌ تضعف، وتحلُّ محلَّها أحلافٌ أخرى.



وأصل الحِلْف من الحَلِف - بفتح الحاء، وكسر اللام - بِمَعنى اليمين؛ فقد كانوا يُقْسِمون أيمانًا على عهودهم، وكانوا ربَّما غمَسوا أيديَهم في طِيب، أو دمٍ عند عَقْد هذه الأحلاف، ويقولون: "الدَّم الدم، والهَدْم الهدم، لا يَزيد العهد طلوع الشَّمس إلا شدًّا، وطول اللَّيالي إلاَّ مدًّا"، وربَّما أوقدوا نارًا عند تَحالُفهم، ودعَوا الله على مَن ينكث العهد بالحرمان مِن مَنافع الحلف.



ومِن الأحلاف المشهورة في مكَّة: حِلْف المطيبين، وفيه تعاقدَ بنو عبدمناف، وبنو زُهْرة، وبنو تَميم، وبنو أسَد ضدَّ بني عبدالدار وأحلافهم، ويُقال: إنَّهم غمَسوا أيديَهم في جَفْنة مَملوءةٍ طِيبًا.



ومن الأحلاف المشهورة: حِلْف الفضول، وفيه تحالفَتْ قريشٌ بقبائلها على ألا يَجِدوا بمكَّة مظلومًا، إلاَّ نصَروه، وقاموا معه حتَّى تردَّ مظلمتُه، وقد حضرَه النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.



ومن أحلافهم المشهورة: حلف الحمس بين قريش وكنانة وخزاعة وحلف الرباب، بين قبائل ثَوْر وتَيْم وعكل وعديِّ، وحلف عَبْس وعامر ضد ذُبْيان، وأحلافها من تَميم وأسَد.



وقد كان للقبائل العربيَّة مجلسٌ يضمُّ شيوخَ العشائر، يَنْظرون فيه شؤونَ قبيلتِهم، وكل فردٍ يَسْتطيع أن يَحْضره وأن يتكلَّم فيه ولَم يكن له موعدٌ محدَّد ولا مكان محدَّد، وكلَّما حزبَ أمر أو جدَّ شأن، تناقَشوا فيه وتَحاوروا، ورُبَّما قام بعضهم خطيبًا أو شاعرًا أو منشِدًا، وفي أثناء ذلك رُبَّما أدلَى شيوخُهم وحُكَماؤهم بخلاصة تَجاربهم في الحياة.



يقول زهيرُ بن أبي سُلْمى في مدح هرم بن سنان وقومِه، ذاكِرًا منتدى قومه:

وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ
وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ وَإِنْ جِئْتَهُمْ أَلْفَيْتَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ
مَجَالِسَ قَدْ يُشْفَى بِأَحْلاَمِهَا الْجَهْلُ



وما يَصْدر عن هذه المَجالس يُذعِن له أفرادُ القبيلة، ولا يكاد يشذُّ عنهم أحد.



وغالبًا ما يتَقدَّم شيوخَ القبيلة شيخٌ مُجرِّب كبير، هو سيِّد القبيلة، له حِكْمةٌ وحنكة، وسداد في الرَّأي، وسَعَة في الثَّروة، وهو الذي يقود حروبَ القبيلة، ويقسم غنائمها، مستأثِرًا منها بنصيبٍ كبير، يتَناسب مع موقعه، يقول الشَّاعر:

لَكَ الْمِرْبَاعُ فِينَا وَالصَّفَايَا
وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالفُضُولُ



وهذه كلُّها أسماء أقسام الغنيمة الَّتي يَحُوزها شيخ القبيلة.



كما أنَّ شيخ القبيلة يَستقبل الوفود، ويَعقِدُ الصُّلحَ والمُعاهداتِ والأحلافَ، ويُقيم ولائم الضِّيافة، على أنَّ سيادة شيخ القبيلة لَم تكن سيادةً واسعة، وإنَّما هي سيادة رمزيَّة، ولكنه - على أيِّ حال - شخصٌ ألْمعِي، حنَّكَتْه التَّجارب، وغالِبًا ما ورث سيادتَه عن آبائه حتَّى يتمَّ له الحسَب الرَّفيع، وليس له أيُّ حقوقٍ سوى توقيره.



وأمَّا واجبات شيخ القبيلة وصِفاته، فهي كثيرة، ومنها: الكرَم والشَّجاعة والنجدة، وإعانة الضَّعيف والجار، وهو يتحمَّل أكبر قسطٍ من ضرائر القبيلة، وما تتحمَّله من الدِّيات، كما أنَّ عليه أن يتَّصف بصفة الحِلْم والصَّفح والتَّسامُح مع أفراد قبيلته؛ يقول معاويةُ سيِّدُ بني كلاب، واصِفًا نفسه كسَيِّد:

إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ مَشْهُورَةٍ
حُشُدٍ لَهُمْ مَجْدٌ أَشَمُّ تَلِيدُ أَلْفَوْا أَبَاهُمْ سَيِّدًا وَأَعَانَهُمْ
كَرَمٌ وَأَعْمَامٌ لَهُمْ وَجُدُودُ إِذْ كُلُّ حَيٍّ نَابِتٌ بِأَرُومَةٍ
نَبْتَ العِضَاهِ فَمَاجِدٌ وَكَسِيدُ نُعْطِي العَشِيرَةَ حَقَّهَا وَحَقِيقَهَا
فِيهَا وَنَغْفِرُ ذَنْبَهَا وَنَسُودُ وَإِذَا تُحَمِّلُنَا العَشِيرَةُ ثِقْلَهَا
قُمْنَا بِهِ وَإِذَا تَعُودُ نَعُودُ وَإِذَا نُوَافِقُ جُرْأَةً أَوْ نَجْدَةً
كُنَّا - سُمَيَّ - بِهَا العَدُوَّ نَكِيدُ بَلْ لاَ نَقُولُ إِذَا تَبَوَّأَ جِيرَةٌ
إِنَّ الْمَحَلَّةَ شِعْبُهَا مَكْدُودُ



وكلُّ أفراد القبيلة جميعًا يضَعون أنفسهم في خدمتها وخِدْمة حقوقها، كما أنَّ القبيلة من جانبها تُعطي لأبنائها نفْسَ الحقوق؛ فهي تَنْصرهم ظالِمين أو مَظْلومين، وتَسمع لهم في شكواهم دون طلبِ البُرهان على ما يقوله ابنُ القبيلة، وما يدَّعيه من حقوقٍ لغيره:

لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ
فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا



ولِهذا فحَسْب أحدِهم أن يَستغيث بقبيلته، فإذا السُّيوف مشرَّعة، وإذا الدِّماء تَسْفح لأبسط الأسباب وأهوَنِها.



وقد تَحوَّلوا - بسبب اختِصامهم على المراعي - إلى كتائب حربيَّة؛ فكلُّ قبيلة مستعدَّة للحرب والإغارة والغَزْو على مَن حولَها مِن القبائل؛ ولذلك كانت الشَّجاعة مثَلَهم الأعلى؛ فهم دائمًا يفتخرون ببطولاتهم، وبِعَدد مَن قُتِلوا في حروبِهم؛ مِمَّا يَدور في أشعارهم.



وفي شعر الجاهليَّة تجد الاعتداد بالسُّيوف والرِّماح، والقسي والدُّروع والتُّروس، كما تجد فيه كلامًا عن أيَّامهم الحربيَّة مِمَّا عرف باسم: "أيَّام العرب"؛ حيث كانوا يسمُّون حروبَهم أيَّامًا؛ حيث كانوا يُحاربون نهارًا، ويَسْكنون ليلاً، حتى يطلع الصباح، فيَستأنفون القتال من جديد.



وأيَّام العرَب وحروبُهم كثيرة جدًّا، وهي موجودةٌ في كتب الأدَب والتَّاريخ؛ مثل: كتاب أبي عُبَيدة المُتوفَّى سنة 211 الذي كان عَددُ أيَّام العرب فيه على ما يقال ألفًا ومائتَيْ يومٍ من أيَّامهم، وقد قيل كذلك: إنَّ كلَّ من جاء بعد أبي عُبيدة اعتمد على هذا الكتاب الَّذي لَم يَصِل إلينا.



وقد ذُكِر عدَدٌ كبيرٌ منها في شَرْح نقائض جرير والفرَزْدق، وفي كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وفي شرح "حماسة أبي تمام" للتبريزي - كثيرٌ حول أيَّام العرب، كما تناول الميدانِيُّ في الفصل التَّاسع والعشرين من كتابه: "مَجْمع الأمثال" مائة وثلاثين يومًا من أيَّام العرب، ضبطَ أسماءها، وذكَر القبائل التي اشتركَتْ في كلٍّ منها.



وتُسمَّى هذه الأيام غالبًا بأسماء البِقاع والآبار التي نشبَتْ بِجانبها؛ مثل يوم عين أباغ عند عين أباغ بين المَناذِرَة والغَساسِنة، ومثل يوم ذي قار، وكان بين بكرٍ والفُرْس، ويوم شِعْب جبلة بين عبْسٍ وذُبْيان.



وقد تُسمَّى بأسماء ما أحدث اشتعالها؛ مثل حرب البسوس باسم ناقة البسوس خالة جسَّاس بن مُرَّة، الَّتي قتلَها كليبُ بن ربيعة، فاشتعلَت الحرب بسببها، عندما ثار جسَّاس بن مرَّة، وسنحَتْ له فرصةُ قتل كُلَيب، فقتَلَه، فاهتاجَت الحرب بين بَكْر وتغلب.



ومثل حرب داحس والغَبْراء الَّتي نَشِبَت بسبب النِّزاع الذي دار على إثر سِبَاق بين "داحس" فرَسٍ لِقَيس بن زهير سيِّد عبس، و"الغَبْراء" فرسٍ لِحُذيفة بن بدر سيِّد ذُبْيان، حيث أوشكَ داحس أن يَفوز، غير أنَّ رجلاً من ذُبْيان كان قد كمن له فاعترضَه ونفَّرَه، فعدَل عن الطَّريق، وبذلك سبقَتْه الغبراء، فأبَى قيسٌ أن يَعْترف بهذا السَّبْق، وطلب الرهان المَضْروب، وحدثَ صِدامٌ بين الفريقين، ثُم لَم تلبث الحربُ أن اندلعَتْ على إثر ذلك، وظلَّت سنوات طويلة.



ومن أيَّام العرب المشهورة كذلك: يوم خزاز، وكان بين ربيعة واليمَن من مذحِج، وغيرهم، ويوم طخفة بين المُنْذِر بن ماء السَّماء، وبني يربوع، ويوم أدارة الأوَّل بين المنذر بن ماء السماء وبين بني بكرٍ، ويوم أدارة الثاني بين عمرِو بن هندٍ وبين بني تَمِيم، ويوم الكلاب الأول بين بني بكرٍ وعشائر من تميم وضبَّة بقيادة شُرَحبيل بن الحارث الكِنْدي، ويوم حوزة الأوَّل بين سليم وغَطفان، ويوم اللِّوى بين غطفان وهوازن، ويوم الفجار الأوَّل بين كنانة وهوازن، وكان في الأشهُر الحرُم؛ لذلك سُمِّي بيوم الفجار، ثم يوم الفجار الثاني بين كنانة وقريشٍ من جانب، وبني عامر من جانبٍ آخَر.



على أنَّه يَجِب أن نتذكَّر أنَّ تكوين القبيلة يَعْتمد على الأسرة؛ ذلك أنَّ المثلَ الأعلى للعربي أن يُنجِب أكبر عددٍ من الأبناء الأشِدَّاء حتَّى تُصبِح أسرتُه ذات شأنٍ بين أقاربه، تَجْعلهم يَعدُّونه شيخَهم الأكبر، ومن هنا يصحُّ أن يُقال: إنَّ القبيلة ليستْ سوى أسرةٍ كبيرة الحجم، وبِمُضيِّ الزَّمان قد تنقسم القبيلة مع تكاثُرِها إلى قبيلتين أو أكثر، تضمُّ كلٌّ منها سلالةَ أحد أبناء الجَدِّ الأكبر، متسمِّية باسمه، ثم تنقسم هذه القبائل مرَّة أخرى على أساس القاعدة نفسها.



ولقد عرفَت القبيلة كذلك معنى الوَحْدة والاتِّحاد، وقدَّسَت هذا الأمر أشدَّ التقديس، وترتَّبَتْ عليه مجموعةٌ من التَّقاليد الاجتماعيَّة تعدُّ بمثابة دستورٍ ينظِّم حياتها، ويُحدِّد ما هنالك من حقوقٍ وواجبات على أفرادها.



ومُلخَّص هذا الدُّستور - غير المكتوب - أنَّ على أفراد القبيلة جميعًا - متضامنين - التَّعاوُنَ في الملمَّات، حتَّى ذاع المثل العربِيُّ القائل: "في الجَرِيرة تَشْترك العشيرة".



على أنَّ هذه العلاقة بين الفرد وقبيلته كانت تقوم على أساسٍ عاطفي بَحْت؛ فهي علاقةٌ تَقوم على الحميَّة التي تُجيب دون أن تسأل، وفي سرعةٍ لا تحتمل الانتظار، وبغضِّ النَّظر عن كون السَّائل مُخطئًا أو غير مخطِئ.



وفي مقابل هذا الحقِّ، فعلى الفرد في القبيلة واجبٌ لها منه؛ أن يَحْترم رأيها الجماعيَّ، فلا يخرج عليه، ولا يتصرَّف تصرُّفًا يخرج عن رضاها، أو يكون سببًا في تمزيق وحدتِها، أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل، أو يُحمِّلها ما لا تُطِيق.



فإذا ارتكبَ فردٌ من القبيلة جرمًا خرج به عن إجماع القبيلة رفضَت القبيلة أن تتحمَّل معه نتائجَ هذا الجرم، وإذا أخطأ في حقِّ القبيلة نفسِها فإنَّه يطرد منها، ويُسمَّى هذا الطَّرد خلعًا، ويسمى الطَّريد خليعًا.



وكما آمنَت القبيلة بِوَحدتِها هذا الإيمانَ العميق الذي ترتَّب عليه ظهورُ هذه الطائفة من التقاليد الاجتماعيَّة، آمنَتْ برابطة الدَّم، كما سبق أن أشَرْنا، وهذه الرابطة نَجَم عنها طائفةٌ كذلك من التقاليد، تُنظِّم العلاقات بين الطبقات الاجتماعيَّة في القبيلة.



والنَّاظر في تكوين القبيلة الاجتماعيِّ يميز طبقاتٍ ثلاثًا كبرى:

الأولى: طبَقة الصُّرَحاء، وهم أبناءُ القبيلة ذَوُو الدَّم الخالص منها، الَّذين لا تَشُوب دماءهم شوائبُ مِن غير القبيلة، وهم ينتمون جميعًا إلى أبٍ واحد، هو الأب الأعلى للقبيلة كلِّها، والتي تتسمَّى القبيلة باسْمِه، وتتمثَّل في هؤلاء معاني العصبيَّة القبَلِيَّة بأقوى معانيها.



وتَحْرص هذه الطَّبَقة على أن يظَلَّ دمُها نقيًّا من جهة كلٍّ من الأب والأم.



الطَّبقة الثانية: طبقة العبيد، وهي تتألَّف من عنصرين: عنصر عرَبي، وعنصر غير عربي؛ فأمَّا العنصر العربي من هذه الطبقة فهم الأَسْرى الَّذين كانوا يقَعون في أيدي القبيلة في حروبِها مع القبائل الأخرى.



وأمَّا العنصر غير العربي - وهم الَّذين يُشكِّلون الطَّبقة الثالثة - فهُم أولئك الذين كانوا يجلبون من البلاد المُجاورة للجزيرة العربيَّة.



وقد كانت طبقة العبيد بقِسْمَيْها في حالة سيِّئة بالنسبة لطبقَة الصُّرحاء.



ومع حرص العربيِّ على الشَّرف في كلا طرَفَيْه، كان يَحدث أحيانًا أن يتزوَّج العربِيُّ من أمَتِه، ولكن المجتمع الجاهليَّ كان يرى هذا الزواج زواجًا غير متكافئ، ومن هنا أطلقَ على نتاجه اسمًا خاصًّا، فسُمِّي ابنُ العربي من الأمَة: هَجينًا، وكان ينظر إلى هذه الصِّلَة نظرةً يَشوبُها كثيرٌ من الاحتقار، وعدم الاكتراث.



في هذا الجوِّ القبَليِّ والحياة القبليَّة، نشأ الشِّعر الجاهليُّ ونَما وازدَهَر، فلم يكن الشُّعراء إلا أفرادًا من هذا المُجتمَع القبليِّ، يُمارسون حياتَهم، ويقولون شِعرَهم وفقًا لهذه التقاليد، فعليهم أن يَقفوا فنَّهم الشِّعري على مَجْد القبيلة ومَفاخرِها؛ دِفاعًا عن كرامتها وشرفها، وذَوْدًا عن حِماها وحُرماتِها، وحَطًّا من شأن أعدائها، وهجاءً لَهم يَنْشر مَخازِيَهم في المَحافل وبين القبائل، وكان نتيجة لذلك أنْ قام ما يسمِّيه بعضُ الدَّارسين: "العَقْد الفنِّي" بين الشَّاعر وقبيلته، وهو ما يفرض على الشاعر ألاَّ يتكلَّم في شِعره عن شأنه الخاصِّ إلاَّ بقَدْر ما يكون تَمهيدًا لكلامه عن قبيلته يتحدَّث باسمها، ويجعل من شعره سجِلاًّ لِحياتها، ومن لسانه لِسانًا لها يعبِّر عن آلامها وآمالها، ويسجِّل الخطوطَ العامَّة لسياستها، ويُعلِن عن أهدافها وغاياتها، وفي مقابلِ ذلك تمنحه القبيلةُ لقب "شاعر القبيلة"، فتتحمَّس لشعره وتتعصَّب له وتحرص على حفظه وروايتِه في كلِّ مقام، ومن هنا كانت مَنْزلة الشَّاعر في قبيلته منزلةً رفيعة لا تقِلُّ عن منزلة الفارس فيها؛ ولذلك كان من أرفع التَّمجيد أن يحمل الفردُ في القبيلة لقبَ شاعر القبيلة وفارسها؛ حيث يجمع بذلك أهمَّ مهمَّتين تحتاج إلَيْهما القبيلة.



ومِن هنا ظهرَتْ طائفةُ شعراء القبائل، وكانوا يُشكِّلون الغالبيَّة العُظْمى من شُعَراء الجاهليَّة، ولعلَّ هذا هو ما جعَل القبيلة عندما يَنْبغ فيها شاعرٌ تعيش عيدًا من أعيادها، وعُرسًا من أعراسها، فتمدُّ الولائم وتقدِّم الأطعمة، وتُقام الحفلات، ويتبادل أفرادُ القبيلة التَّهاني، ورُبَّما دعَوا لهذه الحفلات القبائلَ المُجاورة من أحلافهم، حتَّى تكون الفرحةُ عامَّة في وجود هذه الوفود.



عاش الشاعر إذًا في ظلِّ قبيلته دائرًا في ركابها، سائرًا في فلكِها، مُدافعًا عنها، مُحمِّسًا للقتال في أيام القتال، مسجِّلاً انتصاراتها إذا انتصرَتْ، مخفِّفًا عنها لواعجَ الهزيمة إذا هُزِمَت، داعيًا لمعركة الثَّأر، راثيًا لأبطالِها، مُمجِّدًا لهم.



والشَّاعر الجاهليُّ في أثناء ذلك كلِّه ينسى نفسه، ولا يفكِّر في أن يتكلَّم باسم نفسه إلاَّ قليلاً، فكلُّ هَمِّه أن تكون قبيلتُه أمامه دائمًا، يَصْدر في كلِّ ما يقول عنها، حتَّى عندما يقتضيه مجالٌ للقول أن يفرغ لنفسه في شعره، فإنَّه يظلُّ دائمًا يدور في فلَكِ القبيلة، ونادرًا ما يُفْرِد قصيدةً خالصة لتصوير عاطفتِه الشخصيَّة، أو نزعةٍ من نزعاته الفرديَّة.



إنَّه وهو يتغزَّل، ويَذْكر لَهْوَه بالمرأة، وشرْبَه الخمر، يضَع ذلك كلَّه في صورةِ مقدِّمات لِما يقول فيه من المفاخر القبَليَّة.



إنَّه أثناء فخْرِه بشجاعته وفُروسيَّته ومروءته، يضَعها كلَّها في خدمة قبيلته.



وهو إذا ذكَر رأيًا في الحياة أو الموت، أو سجَّل حكمةً أو تَجْرِبة من تجاربِه، يَذْكر ذلك عرَضًا، أو في نهاية القصيدة بعد أن يفرغ من الوفاء بحقِّ القبيلة.



وهذا أشهَرُ مثالٍ لتلك الرُّوح القبليَّة: مُعلَّقة عمرِو بن كلثوم، شاعر تغلب، يبدَؤُها بِمُقدِّمة ذاتيَّة، يختلط فيها الغزَلُ بحديثه عن الخمر، ثم سرعان ما يتوجَّه للحديث عن قومِه، فينسى نفسَه نسيانًا، ويَخْتفي ضميرُ المتكلِّم المفرَد؛ لِيُسيطِر على القصيدةِ كلِّها ضميرُ الجماعة، ويظَلُّ على مدار القصيدة يُشيد بِمَفاخر قومه، حتَّى ينسب لَهم من المفاخر ما ليس له حقيقةٌ واقعيَّة بالفعل.



وهذا ما جعلَ أبناء قبيلة تغلب يفتَتِنون بهذه القصيدة افتِتانًا، حتَّى ليَقول شاعرٌ من غيرهم عن هذه القصيدة:

أَلْهَى بَنِي تَغْلِبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ
قَصِيدَةٌ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ يُفَاخِرُونَ بِهَا مُذْ كَانَ أَوَّلُهُمْ
يَا لَلرِّجَالِ لِشِعْرٍ غَيْرِ مَسْؤُومِ



ومن كلِّ ما سبقَ، نؤكِّد أنَّ قراءة القصيدة الجاهليَّة لا بدَّ أن تُلِمَّ بكلِّ هذه الجوانب القبليَّة؛ لِيَستطيع قارئُ القصيدة أن يَنْفذ إلى ما في بَطْن الشَّاعر الجاهليِّ من المعاني والرُّؤى، ويَطَّلع على خبايا الفنِّ الشِّعري في القصيدة الجاهليَّة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (4)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (1)
» مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (2)
» مدخل لقراءة القصيدة الجاهلية (3)
» قصيدة عن مصر....
» ليبرالية العرب في الجاهلية..( د. إبراهيم بن محمد الحقيل )

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رابطة النهر الخالد :: ادب وفنون :: قطوف الأدب-
انتقل الى: