شاعر لم يتوقف عند رؤية الستينات ولا يتجه الى القطيعة مع القيم الانسانية
محمد ابراهيم أبو سنة واحد من ابرز شعراء جيل الستينات في مصر وقد احتفظ بمجموعة من السمات الفنية التي تميز شعره، واستطاع خلال 40 عاماً من الشعر أن يعمق وينمي هذه السمات لتصل الي ما يشبه الكينونة الشعرية الخاصة. ولعل من أبرز هذه السمات في شعره القدرة الهائلة علي الفرح وعلي الحب حتي في أقصي لحظات الغضب والتمرد التي تفور بها الكثير من قصائده. هذا حوار معه حول تجربته الشعرية وعلاقة جيله بالأجيال اللاحقة والسابقة.
* يبدو ديوانك الأخير «موسيقي الأحلام» وكأنه مرثية طويلة لكل شيء، للوطن، للتاريخ، للحب، للموسيقي، وللأحلام ذاتها، ما سبب ذلك؟
* الديوان يعتبر بالفعل مرثية للأحلام علي مستويات كثيرة ابتداء من موسيقي الأحلام ذاتها انطفاء، اللحظة التاريخية على مدارج الصعود، والحوار مع التراث عبر الرثاء ايضا، من خلال مرثية جديدة لمالك بن الريب، لكن هذا لا ينفي أن هناك ومضات تشير الى الولع بالجمال وانتظار الأمل، والنظر الى الهزيمة بقدر من السخرية التي تفتح املاً خافيا مضمرا في قدرات هذه الأمة التي عرفت كثيراً من المواعيد مع البؤس واليأس، ولكنها وفي لحظة ما تستطيع أن تطرحه وراء ظهرها، ورغم اني كتبت كثيرا عن لحظات الهزيمة، لكني لم افقد الأمل مطلقا في اللحظة المعتمة، خاصة بعد هزيمة 1967، والتي تصور بعض الشعراء انها كانت نهاية لمسيرة أمة، وبداية لهبوط حاد في جوف الهاوية. ورغم ذلك، وبعيدا عن هتاف الاعلام فإن أصحاب البصائر وحدهم، يدركون ما هو كامن في قلب هذه الأمة، وليس كامنا فقط، بل ظاهراً، ومتدفقا في دماء الشهداء، وفي شجاعة الأبطال وفي قصائد الشعراء، وفي ضمائر البسطاء الذين يرتكزون علي ايمان قد يكون غيبيا، ولكنه ساطع في قلب التاريخ، هذا الإيمان في كثير من الأحيان عصم هذه الأمة من السقوط في الموت النهائي.
* لكن ألا ترى أن هذا المفهوم يجعل الشعر مرتبطا فقط بالأحداث الخارجية دون الاهتمام بشيء آخر؟
* لا، الشعر لا يحاور الاحداث الخارجية، وانما يحاور الأمشاج العميقة، وفي حركة التقدم في موسيقي الاحلام، هذا الشيخ يطلب من سائله ان يتركه قليلا ليغفو، بينما علي هذا السائل ان ينقب عن الموسيقى في جوهره، في جوهر احلامه، ومعنى هذا ان الشيخ لن ينام أو يموت انما يركن الى غفوة عابرة، وهناك قصائد في الديوان تلتحم بفكرة الموت، ولا تنفصل في نفس اللحظة عن فكرة الحب، ومن هنا فأنا دائما أرى الشعر وهو يفتح الجرح فأنه يبحث عن دوائه في نفس الوقت.
* ألاحظ ايضا تسلل نبرة السخرية عبر احدى القصائد التي تبدو مأساوية في الديوان، فهل، لجأت إلى هذا كنوع من الاقنعة، أم انك قصدت هذا؟
* ليست هذه هي المرة الاولى التي الجأ فيها الى لون من الوان القناع وهو قناع درامي، وليس تاريخيا أو اسطوريا أو تراثيا، كما شهدناه كثيرا في شعر ادونيس والسياب وصلاح عبد الصبور، ورغم انه عند هؤلاء الشعراء يبدو مأساويا، فإن هذا القناع يلجأ الى طريقة عكسية تماما، فهو لا يخفي جوهر الحقيقة، بل يهدف الى العكس تماما، الكشف عنها بطريقة جديدة، وهذا لان الغزاة يسعون الى تحرير الضحية بينما السخرية، تبدو، وكأنها طريق للكشف عن وعي الضحية في مواجهة الغزاة، وان السخرية منهم علي المدى البعيد تفضح وسائلهم، وعبر هذه السخرية ايضا نكتشف امتلاء التراث بكثير من الكذب والخداع وتنتهي القصيدة بنوع من المستحيل، ففي مواجهة هذه المقاومة العاتية تدعو القصيدة إلى تأمل الخلاص الزائف وهو الاستسلام.
* من «نحن غزاة مدينتنا» في الستينات الى «أخي في العروبة» و«بغداد» الآن، هل اختلفت رؤيتك لأثر القصيدة السياسية ورد الفعل عليها؟
* لم أتخل لحظة واحدة عبر تجربتي الشعرية عن الانتباه الى الصياغة الشعرية التي تحفظ للقصيدة عمادها وجوهرها وتأثيرها وبقاءها، فإذا تأملت «نحن غزاة مدينتنا» فسترى انها صياغة لموقف كلي، من افتقاد الحرية، والكذب علي النفس والتحول الى معاداة النفس بدلا من معاداة الأعداء، فالخراب الذي حل بنا في الستينات كان من صنع ايدينا، ولكن صياغة هذه القصيدة ممتلئة بالرموز، وما يسمى بالبناء الذي يعتمد علي المفارقة وليس مجرد طرح الأفكار مباشرة حول المأزق التاريخي، الذي كان بكثافة دخانه، يضللنا بعيدا عن ادراك الحقائق التي صنعت الكارثة، وقد رأت الصديقة صافي ناز كاظم في هذه القصيدة التي نشرت قبل الهزيمة عام 1966 ما يشبه النبوءة لما حدث وليس تعليقا على ما حدث، طبعا الشاعر ليس عرافا، ولكن تعقب الشاعر لهذا البرق الخفي الذي يسري في عروق الأيام وفي قلب الإنسان ايضا يدرك أنه يمكن التنبؤ بالزلازل القادمة والفيضانات الغامرة والكاسحة عبر بعض النسائم والروائح، وربما في أوراق الأشجار، وفي حركة المياه الغامضة، وحتى في ثبات الجبال وقريبا من هذه القصيدة الموقف الذي يذكره البعض في قصيدة الزمان اختلف ورغم أن القصيدة تبدأ بهذا المقطع الصادم فإنها ايضا تلجأ الى صياغة غير مباشرة لتهادي الحلم بعد فالحمام الذي كان يهدل فوق اغصان الطفولة اصبح لا يأتلف.
* سؤال أخير في هذه النقطة، تبدو مصرا على كتابة القصيدة السياسية والتي تبدو أحيانا مباشرة، في الوقت الذي انفقت فيه جميع الاجيال الشعرية من حول هذه القصيدة، لماذا؟
* أنا أختلف معك في توصيف معنى بعض القصائد باعتبارها قصائد سياسية، فأنا أفرق بين القصيدة السياسية، وما يسمى القصيدة الوطنية، السياسية تنظر للحدث وتعالجه من زاوية منحازة لبعض زوايا الحدث السياسي، وبعض زوايا الموقف السياسي. اما ما أكتبه ويدخل مباشرة الى الجرح الوطني او القومي فإن هذه القصائد تتعامل مع الباقي من كياننا، ومن وجودنا، وتعبر عما يسمى بالرؤية الكلية التي تحتوي الماضي والحاضر والمستقبل، وربما يرى البعض في هذه القصيدة نوعا من مناطحة المستحيل، لأنها ما تزال مؤمنة بالتعبير عن القيم التي يراها البعض، قد دفنت في غبار الأحداث، القصيدة الحديثة اتجهت الى الواقع اليومي، وفيها الكثير من اللآلئ الشعرية المتميزة، والكاشفة عن دفء الواقع وتحوله عبر منحنيات التجربة الانسانية، ولكن كثيرا من هذه القصائد أو هذه التجارب تفتقد الى ما نسميه بالرؤية الكلية، لأنه حتى في القصائد الكبرى التي انشغلت بالهم السياسي مثل شعر المقاومة على سبيل المثال في فرنسا في الحرب العالمية الثانية عند اراجون، نرى أن ملامسة الكليات هو ما تبقى منها، وأظن أن كثيرا من قصائدي لا يتجه الى القطيعة مع القيم الانسانية التي تتجاوز فكرة الاحداث السياسية العابرة، أو اللحظات التاريخية، لكي تطمح الى حوار ابقي مع التاريخ لاشرعته التي تطوي وتنشر فوق الماضي والحاضر والمستقبل، وقصيدتي لم تتوقف عند رؤية الستينات وإلا أصحبت جمادا، لاني ارى الواقع برؤية جوهرها القيم الانسانية، حتى الحرب هي قيمة انسانية في المقام الأول.
* جئت في الجيل الذي تلا جيل الرواد في الشعر، هل تعتقد أن هذا كان له اثر سلبي عليك كشاعر منتم لجيل الستينات؟
* كان هناك اثر سلبي، وأثر ايجابي، أما الأثر السلبي فهو أن تقييم النقاد لتجربة جيل الستينات كان يحمل بعض التجاهل والنظر إلى نموذج الريادة باعتباره معياراً للقصائد الشعرية، وللشعراء الذين جاءوا بعدهم، ورغم أنني انظر الى أن الفجوة بين الجيلين لم تكن واسعة وعميقة من الناحية الزمنية، فقد سطع نجم شعراء الجيل الأول، وصكت العملة الشعرية باسمهم، وراجت اسماؤهم، واصبحنا نتملس طريقنا الى الاعتراف بنا وسط غبش المساء، بعد أن حظي جيل الريادة بالشهرة الثقافية، اما العنصر الايجابي فيتمثل في أننا كنا بصدد هذا التجاهل نحاول أن ننقش اسماءنا في الصخر، وأن نسعى الى التميز والاختلاف، الكشف عن الفروق بين تجربتنا الشعرية، وتجارب شعراء الريادة رغم أننا لنا مرجعية كاملة الاختلاف عنهم، وبكل تأكيد استفاد جيلنا من شهرة جيل الرواد والاعتراف بها لاحقا بعد مكابدة ومشقة خاصة أننا جئنا في مرحلة كانت مختلفة تماماً من حيث تفجير الاحداث السياسية، ووصول الحركة الثقافية الى منعطفات حاسمة جعلت جيل الستينات على موعد مع مفارقات فنية وتطور جديد، واستطاع هذا الجيل ان يصمد في المرحلة الحرجة بين جيل تألق ورسخ، وجيل قادم يريد أن يغير المشهد عبر أطروحات جديدة، وهذه هي الحياة.
* هذا يجعلني أسألك، عن حقيقة الصراعات التي كانت تدور بين جيل الستينات وجيل السبعينات الشعرية اللاحق عليه، ما بين الاعتراف، وعدمه؟ وكيف ترى هذه العلاقة الآن بعد ولادة اجيال اخرى؟
* علاقة جيل الستينات بالسبعينات تحمل تصدعات الواقع الشعري والسياسي والفكري، بحيث تبدت هذه العلاقة وكأنها على حافة الزمن، وإذا كانت العلاقة بين السياسيين والمفكرين يمكن أن تتصدع بشكل نهائي إلا أن العلاقة بين الشعراء سرعان ما تلتئم بعد أن يتبدى الابداع الحقيقي للجيل الجديد. اشتبكنا بقدر من الصراع وسوء الهضم، خاصة أن جيل السبعينات بدأ حضوره الشعري بقدر من الصراع ومحاولة لطمس معالم جيل الستينات في مواجهة واقع ملتبس يحمل كثيرا من التشرذم، واعتقد أنه بعد أن انصرم عقد السبعينات اثبتوا قدرتهم على التفوق بشكل مختلف، رغم أنهم في معظمهم اتجهوا لقصيدة النثر، ولكنهم اتجهوا للنضج الواضح واستطيع أن اقول إن عددا من شعراء السبعينات من خلال دواوينهم التي قرأتها، وكنت من أوائل الذين بشروا بهم في مجلة الكاتب. أن هناك عددا من الموهوبين الحقيقيين مثل حسن طلب وجمال القصاص ووليد منير وحلمي سالم وفريد أبو سعده وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان، وهؤلاء الشعراء وصفوا من خلال ابداعهم الشعري ملامح جيلهم، وكما قلت فإن حركة الزمن قادرة دائما على فرز الانماط الحقيقية من الشعر.