حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته"، والتي تحدَّث فيها عن النعمة العُظمى على الناس، وهي: بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام -، وذكرَ ما يجبُ على المسلمين من حقوقٍ تجاهَه - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن علامات ودلالات محبَّته - عليه الصلاة والسلام -، ثم ختمَ خُطبتَه بذِكر بعض الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها كل مسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّته، وقد أوردَ جُملةً من الآيات والأحاديث والآثار الدالَّة على ذلك.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أحمده - سبحانه - والحمدُ حقٌّ واجبٌ له في كل حين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحبُ الشفاعة العُظمى والمقام المحمود يوم الدين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن آله وصحابتِه أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ يا رب العالمين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أيها المسلمون:
لئن كثُرت نِعمُ الربِّ على عباده، وتنوَّعَت مِنَنُه، وعظُمَت آلاؤُه، فاستوجَبَت شُكرًا يُعقِبُ المزيد، وحمدًا يُورِثُ رِضًا من عزيزٍ حميد؛ فإن النعمةَ العُظمى التي لا تعدِلُها نعمة: هي المِنَّةُ الربانيَّةُ الكريمة ببِعثة هذا النبي الكريم البشير النذير، والسراج المُنير، ورحمةِ الله للعالمين، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب: 45، 46]، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
وإن نعمةَ الاستِنقاذ من الهلَكَة والضلال المُورِث شقاءً وخُسرانًا في العاجِلَة، وغضبًا وجحيمًا وعذابًا أليمًا في الآجِلَة؛ لتستوجِبُ لمن أجرَى الله على يدَيْه هذه النعمة حُقوقًا على الأمة يجبُ القيامُ بها، ويتعيَّنُ الوفاءُ بها ورعايتُها حقَّ رعايتِها.
إنها حقوقٌ لهذا النبي الكريم الذي ضربَ مثلاً لما بعثَه الله به من هُدًى، وما جاء به من إنقاذٍ، بقوله - عليه الصلاة والسلام -: «مثَلِي ومثَلُ ما بعثَني الله كمثَلِ رجُلٍ أتَى قومًا، فقال: يا قوم! إني رأيتُ الجيشَ بعيني، وإني أنا النذيرُ العُريان، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فأطاعَتْه طائفةٌ من قومِه فأدلَجُوا على مهَلِهم فنجَوا، وكذَّبَت طائفةٌ منهم فأصبَحوا مكانَهم، فصبَّحهم الجيشُ فأهلَكَهم واجتاحَهم، فذلك مثَلُ من أطاعَني واتَّبعَ ما جئتُ به، ومثَلُ من عصَاني وكذَّبَ ما جئتُ به من الحق»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
ولا ريبَ أن معرفةَ هذه الحقوق والتذكيرَ بها من أوجبِ الواجِبات؛ إذ هو الدليلُ إلى طريقِ القيامِ بها وأدائِها على وجهِها.
وإن أولَ هذه الحقوق وأهمَّها: طاعتُه - صلوات الله وسلامه عليه -؛ إذ هي من لوازِم الإيمان به، وتصديقِه فيما جاء به، وقد أمرَ - سبحانه - بطاعته، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال: 20].
وأخبرَ تعالى ذِكرُه أن من أطاعَه - عليه الصلاة والسلام - فهو مُطيعٌ لله، ومن عصاهُ فقد عصَى اللهَ - عز وجل -؛ لأنه لا يأمرُ إلا بأمرِه - سبحانه -، ولا ينهَى إلا بنهيِه، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80]، وقال - عزَّ اسمُه -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7].
وإن ثِمارَ هذه الطاعة ونتائِجَها التي رتَّبَها الله عليها لتَجِلُّ عن الحصرِ، وتربُو على العدِّ، منها: أنها سببٌ للهداية إلى صراطِ الله المُستقيم، وإلى سعادة الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور: 54].
ومنها: أن طاعتَه - صلى الله عليه وسلم - سببُ تنزُّل رحمةِ الله على من أطاعَه، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132].
ومنها: أن الله تعالى جعلَ ثوابَ طاعته - صلوات الله وسلامه عليه - دخولَ الجنةِ رِفقةَ المُنعَم عليهم من الأنبياء، ثم من يَليهم في الرُّتبة، وهم الصدِّيقُون الذين بلَغُوا الغايةَ في الصدقِ والتصديقِ بدينِ الله وبكُتبِه ورُسُله، وهم فُضلاءُ أتباع الأنبياء، ثم الشهداء، ثم المُؤمنون الذين صلُحَت سرائِرُهم وعلانياتُهم، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].
ولذا تمنَّى الكفارُ عند تقلُّب وجوههم وعذابِهم في نار جهنَّم لو أنَّهم أطاعُوا اللهَ ورسولَه - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أخبرَ - سبحانه - عن هذا بقولِه: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب: 66]، فتمنَّوا طاعتَه لكن حين لا ينفعُهم التمنِّي شيئًا؛ حيث قد فاتَ زمانُه.
وإنما تتحقَّقُ طاعتُه بالاقتِداء به، واتباعه، والاهتِداء بهديِه، والاستِنان بسُنَّته، وتقديمِها على آراء الرجال واستِحساناتهم، وبالتحاكُم إليه في كل الأمور، والرِّضا بحُكمه، كما قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158].
وجعلَ - سبحانه - صحةَ الإيمان بالانقِياد له - صلى الله عليه وسلم -، والرِّضا بحُكمه، والتسليم له، وتركِ الاعتِراضِ عليه، والشكِّ أو التردُّدِ فيه، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
وإن أعظمَ آثار هذا الاتباع وأطيبَ ثِمارِه: هي الحظوة بمحبَّة الله لأهل هذا الاتباع لخير الورَى - صلوات الله وسلامه عليه -، وغُفران ذنوبِهم، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
ولذا كان الحِفاظُ على هذه الثَّمرة، واستِبقاءُ هذا الجزاء الضَّافِي، والأجر الكريم يستلزِمُ الحذَرَ مما يُضادُّه أو ينتقِصُ منه بمُخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم -، والإحداثِ في دينِه، وتبديل سُنَّته.
وقد توعَّدَ - سبحانه - من اجترحَ شيئًا منه بالإصابة بالفتنة بالكفر والنفاق في الدنيا، وبالعذاب الأليم في الآخرة، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وفي حديثِ العِرباضِ بن سارِيَة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُوصِيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًّا؛ فإنه من يعِشْ منكم بعدِي فسيرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكُم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديين، تمسَّكُوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأُمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في "سننهم"، وهو حديثٌ صحيحٌ بمجموع طُرقِه.
وبيَّن أن من أحدثَ في الدين، وشرعَ من عندِ نفسِه ما لم يأذَن به الله، فهو مردودٌ عليه، غيرُ مقبولٍ منه، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه الإمام مسلمٌ في "صحيحه" عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ».
عباد الله:
ومن حُقوقِه - صلى الله عليه وسلم - على الأمة: محبَّتُه محبَّةً تفوقُ محبَّة الوالد والولد والناس كافَّة، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الشيخان في "صحيحيهما" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين».
وكما جاء في الحديث الذي أخرجَه الإمام أبو عبد الله البخاري في "صحيحه" أن عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! لأَنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسِي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا والذي نفسِي بيدِه حتى أكون أحبَّ إليك من نفسِك»، فقال له عُمر - رضي الله عنه -: فإنه الآن والله لأَنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الآن يا عُمر».
وإن عِظَم الثوابِ لهذه المحبَّة الصادِقة دالٌّ أبلغَ دلالة على عِظَم مقامِها، ورِفعةِ منزلَتها، وكمال الحثِّ والتشويقِ إلى بُلوغِها، جاء في الحديثِ الذي أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" عن أنس - رضي الله عنه - أن رجُلاً أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: «ما أعددتَ لها؟»، قال: ما أعددتُ لها من كثيرِ صلاةٍ ولا صومٍ ولا صدقةٍ، ولكنِّي أُحبُّ اللهَ ورسولَه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن مع من أحبَبتَ».
ولا ريبَ أن الصادقَ في محبَّته - صلى الله عليه وسلم - لا بُدَّ أن تظهرَ علامةُ صِدقِه، وإلا كانت دعوَى لا بيِّنةَ عليها.
والبيِّنةُ الدالَّةُ على صِدقِ دعوَى المحبَّة تتجلَّى في علاماتٍ وأماراتٍ أوَّلُها وأهمُّها: الاقتِداءُ به والعملُ بسُنَّته، والتأدُّبُ بآدابه في العُسر واليُسر، والمنشَط والمكرَه، وإيثارُ ما صنعَه - صلى الله عليه وسلم - على هوَى النفس، ونُصرةُ دينِه، والذبُّ عن سُنَّته، والذَّودُ عن شرعِه، وكثرةُ ذِكرِه - عليه الصلاة والسلام -؛ فإن من أحبَّ شيئًا أكثرَ من ذِكرِه، وكثرةُ الشوقِ إلى لقائِه - عليه الصلاة والسلام -، كما يحبُّ المُحبُّ لقاءَ حبيبِه والاجتماعَ به.
وكذا الإكثارُ من الصلاة والسلام عليه؛ فإنه من صلَّى عليه صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، كما ثبَت ذلك فيما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم -، لاسيَّما في المواطِن التي يُستحبُّ فيها؛ كأول الدعاء وآخره، وعقِب الأذان، وعن ذِكرِه، وعند دخول المسجد والخروج منه، ويوم الجمعة وليلته، وفي التشهُّد.
ومن علامات محبَّته أيضًا: تعظيمُه وتوقيرُه عند ذِكرِه - صلوات الله وسلامه عليه - وعند قراءَةِ حديثِه، والتسلِّي عن المصائِب والتعزِّي عنها بالمُصابِ بفقدِه.
ومنها محبَّةُ من أحبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من آلِ بيتِه وصحابتِه من المُهاجِرين والأنصار، ومن أزواجِه، ولذا كان الصحابةُ يُحبُّون ما أحبَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى من المُباحات، كما في "الصحيحين" من حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه - أنه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتتبَّعُ الدُّبَّاءَ من حوالَي القَصعة. قال أنسٌ: فما زلتُ أحبُّ الدُّبَّاءَ من يومئذٍ.
وكان ابنُ عُمر - رضي الله عنهما - يلبسُ النِّعالَ السبتِيَّة، ويصبغُ بالصُّفرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلُ ذلك؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
ومنها: بُغضُ من أبغضَه الله ورسولُه، ومُعاداةُ من عاداه، أو خالفَ سُنَّتَه، أو ابتدَعَ في دينِه، أو كرِهَ أو استثقلَ شيئًا من شرعِه.
ومنها: محبَّةُ القرآن الذي جاء به، والاهتِداءُ بهديِه، والعملُ بمُحكَمه، والإيمانُ بمُتشابِهِه، وتلاوتُه، وتدبُّره.
ومنها: الشفقةُ على أمته - صلوات الله وسلامه عليه -، والرحمةُ بهم، والنُّصحُ لهم، والسعيُ في كل ما يُصلِحُهم ويدفعُ المضارَّ عنهم؛ تأسِّيًا به - عليه الصلاة والسلام - الذي كان رؤوفًا رحيمًا بهم، كما قال - عز وجل -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
نفعني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافَّة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن الأدبَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من الحُقوق المُتعيّنة له على أمَّته، ومن الأدبِ معه: ألا يُتقدَّم بين يديَه - صلى الله عليه وسلم - بأمرٍ ولا نهيٍ، ولا إذنٍ ولا تصرُّفٍ، حتى يأمُر هو وينهَى ويأذَن، كما قال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات: 1].
وهو أمرٌ ربَّانيٌّ باقٍ حُكمُه إلى يوم القيامة لم ينسَخْه شيءٌ، ولذا كان التقدُّم بين يدَي سُنَّته بعد وفاتِه - عليه الصلاة والسلام - مثلَ التقدُّم بين يدَيه في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ومنه: ألا تُرفع الأصواتُ فوق صوتِه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه سببٌ لحُبوطِ الأعمال.
فما الظنُّ - كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "فما الظنُّ برفع الآراء ونتائِج الأفكار على سُنَّته وما جاء به؟!".
ومنه: ألا يُجعَل دعاؤُه كدُعاء غيرِه - عليه الصلاة والسلام -، كما قال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) [النور: 63]، إما بأن يُدعَى باسمِه كما يدعُو بعضُكم بعضًا؛ بل قولوا: يا رسول الله، يا نبيَّ الله.
وإما بألا تجعَلوا دعاءَه لكم بمنزلَةِ دُعاءِ بعضِكم بعضًا، إن شاءَ أجابَ، وإن شاءَ تركَ؛ بل إذا دعا - صلى الله عليه وسلم - لم يكُن لأحدٍ بُدٌّ من إجابَته، ولا يسَعهُ التخلُّفُ عنها.
ومن الأدبِ معه أيضًا: أن المُؤمنين إذا كانوا على أمرٍ جامعٍ - من خُطبةٍ، أو جهادٍ، أو رِباطٍ - لم يجُزْ لأحدٍ أن يذهبَ في حاجةٍ له حتى يستأذِنَه، كما قال - سبحانه -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور: 62].
ومنه: ألا يُستشكَلَ قولُه - صلوات الله وسلامه عليه - لآراء غيرِه كائنًا من كانوا؛ بل تُستشكَلُ الآراءُ لقولِه - صلوات الله وسلامه عليه -، ولا تُعارَضُ النصوصُ النبويةُ بأقيِسَةٍ ولا بغيرِها، وألا يتوقَّفُ قبولُ شيءٍ مما جاء به على مُوافقَة غيرِه؛ فإن هذا كلَّه من قلَّة الأدبِ معه - صلى الله عليه وسلم -، والجُرأة المذمومة الباطِلة.
فاتقوا الله - عباد الله -، واجعَلوا من معرفة حقوق رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمة، ومن تدبُّرِها وتفهُّمِها خيرَ باعثٍ على القيامِ بها وأدائِها على الوجهِ الذي تُرضُون به ربَّكم، وتحظَون بمحبَّته وغُفرانِه، ونزولِ جِنانِه.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتَم النبيين، وإمام المرسلين، ورحمة الله للعالمين، فقال - سبحانه - في الكتاب المبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وإحسانِك يا خيرَ من تجاوزَ وعفَا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ، وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ يا مَن إليه المرجعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكَرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم إنا نجعلُك في نُحور أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم احفَظ دماء المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم في جميع ديارهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، وألِّف بينهم يا رب العالمين، وقِهم نزَغَات الشياطين، اللهم قِهِم شُرورَ أنفسِهم وشرَّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين، اللهم احفظ المسلمين في كل ديارهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم أصلِح ذاتَ بينهم يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِم بالباقِيات الصالِحات أعمالَنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمدُ لله رب العالمين.