هموم وطن
لم يعرف العالم دولة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ السحيقة مثل مصر فهي صانعة حضارة منذ آلاف السنين ولا تزال هذه الحضارة تذهل كل المشتغلين بشأنها وما زالت تعجز العالم كله عن إدراك عظمتها فمازالت أسرار بناء الأهرامات والتحنيط وغيرها تأخذ بالألباب وتدهش الأفهام .
ومع تطور الزمان ومرور الأعوام تنتقل مصر من حضارة إلي حضارة فمن الفراعنة إلي الحضارة البطلمية والرومانية التي ما زالت آثارهما شاهدة علي أن مصر ملهمة العباقرة ونيلها النابع من الجنة يختلط بدمائهم فيفجر طاقاتهم المكبوتة فتخرج لنا أرقي وأفضل ما يمكن أن ينتجه العقل البشري .
ولقد وعي الأقدمون والمعاصرون هذا الحقيقة المؤكدة التي لا مراء فيها ولذلك سال لعاب الجميع إما للعيش والمقام في مصر أو للسيطرة علي مصر ومقدراتها ولقد أدرك الصنف الثاني أن السيطرة علي مصر تهبهم وتمنحهم قوة لا تضاهى
أما في الإسلام فقد صارت مصر درة العرب وياقوتة الإسلام وكيف لا وقد نبهنا الله إلى أنها كانت ملاذ الخائفين وموئل الحيارى والهائمين ومثار فخر المالكين لها وما ذكرت فى القرآن إلا بتلك المعانى لذلك أمر النبى أصحابه أن يتخذوا من مصر قوة عندما يفتحها الله لهم فيما أورده العجلونى في كشف الخفاء (2 / 1306 ) إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً فذاك الجند خير أجناد الأرض وعندما سأله أبو بكر عن السبب بين له عليه الصلاة والسلام بأنهم وأزواجهم في رباط إلي يوم القيامة .
ولئن تكلم العلماء في سند هذا الحديث ففي صحيح مسلم ما يعضده ويقويه فعن عبد الرحمن بن شماسه المهري عن أبي ذر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً "
وعندما تمت وتحققت نبؤه محمد صلي الله عليه وسلم صارت مصر قلب العروبة النابض وقوة الإسلام الضاربة .
ولئن كانت الجزيرة العربية هي المهد الأول للعروبة فإن مصر كانت بمثابة النبوع الذي لم يلبث أن تفجر وفاض وانتشر وملأ عالماً فسيح الأرجاء هو الذي يطلق عليه الآن العالم العربي .
ولئن فات مصر أن تكون جزءاً من الجزيرة العربية لم يفتها أن تلاصقها ملاصقة شديدة وتجاورها مجاورة قوية وتتلقي منها فيضاً لا ينقطع من الدماء العربية والتفافات العربية ولقد أصبحت مصر بحكم موقعها الخادم الأمين للعروبة والإسلام ولئن كانت خدمة مصر يعتريها أحيانا القصور بسبب ما تتعرض له من أحداث الزمن وتقلبات الدهر فإن مما يعوض ذلك طول مدة الخدمة وشدة الإخلاص في تأديتها .
ولقد كان الفتح الإسلامي لمصر حادثاً جليلاً في تاريخ العروبة والإسلام فلم يكن مجرد فتح لقطر من الأقطار بل فاتحة لإنشاء وطن عربي إسلامي في القارة الأفريقية ومنه يمتد إلي الأندلس وبلاد المغرب ووسط وجنوب أفريقيا وأصبح الوطن العربي كطائر خفاق يبسط جناحين عظيمين أحدهما يمتد إلي المشرق والآخر يمتد إلي المغرب وظلت مصر نقطة الاتصال بين الجناحين وتميز كل جناح بسمات ومدارس أدبية وفقهية وظلت مصر فريدة بموقعها ومذاهبها وكان العلماء والأدباء والمثقفون لا تكاد أقدامهم تطأ أرض مصر إلا ويكتب لهم الذيوع والانتشار وتتاح لهم فرص لم تكن متاحة لهم في بلادهم والأدلة علي ذلك كثيرة ليس هنا مجال ذكرها ولكنها واضحة لكل ذي عقل ولب منصف .
لكل ما سبق وغيره كثير اقتضت حكمة الله تعالي أن تتلقى مصر الضربات تلو الضربات والطعنات تلو الطعنات لا لشئ إلا لأنها مصر قلب العرب والمسلمين إذا صلحت صلح حال المسلمين وإذا فسدت فسد حال المسلمين وصدق فيها قول المغفور له بإذن الله الإمام عبد العزيز بن سعود وهو يقول :
صونوها إن مصر إن تضع ضاع معها تراث المسلمين
والحملات الصليبية أكبر دليل علي فهم الأعداء لمكانة مصر وكذلك التتار ولئن كانت مصر هي مرمي سهام كل عدو يريد النيل من العرب والمسلمين فإنها أيضاً كانت الصخرة التي تحطمت عليها أطماعهم وكانت مقبرة للغزاة من صليبين وتتار وإنجليز وفرنسيين وغيرهم كثر بل الأمر كان أعظم من ذلك فالخلافة الإسلامية علي اختلاف مسمياتها لم تكن لتصل إلي قمة قوتها إلا بعد انضمام مصر لتكون إحدي ولاياتها ومع سقوط آخر خلافة شهدها العالم الإسلامي " الخلافة العثمانية 1924م " ظهرت حركات إسلامية لإعادة الخلافة مرة أخرى كان أبرزها حركة الشيخ حسن البنا - رحمه الله - في مصر والتي أطلق عليها جماعة " الإخوان المسلمون " ومن أهم تلك الجماعة خرجت جماعات دعوية كثيرة منها الجماعة الإسلامية والجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة والدعوة السلفية والدعوة والتبليغ وكلها جماعات علي مذهب أهل السنة والجماعة إلا أنها تختلف في المنهج الدعوي ولكنها جميعاً تجتمع علي هدف واحد هو تعبيد الناس لله رب العالمين وإقامة شرعة الله علي عباد الله في أرض الله وعندما فتحت الفضائيات الإسلامية كانت مصر سباقة في هذا المجال وكانت قنواتها الفضائية الإسلامية هي الأعظم أثراً في العالم كله ومن قبل عندما قامت حركات التحرر الثوري من الاستعمار الإنجليزي والفرنسى وغيره كانت مصر هي الرائدة في هذا المجال والجميع لها تبع .
ولقد أدرك الاستعمار وأعداء المسلمين والعرب هذه الحقائق كلها فتحولوا إلي نوع جديد من الحروب بعد أن كان نصيبهم الهزيمة في الحروب العسكرية نعم أقول تحولوا إلي حروب من نوع آخر وهي الحروب بالإنابة بل وصنعوا لنا أعداء من بني جلدتنا وأضفوا عليهم صفات البطولة بعد أن صنعوا لهم بطولات مزيفة بعد أن أجروا لهم عمليات غسيل عقول وقلبوا في أذهانهم موازين الحق والخير والجمال فصاروا يرون الحق باطلاً والجمال قبحا والاستبداد عدلاً وتسلطوا علي مقدرات الأمة بل وراحوا يبعدون كل مخلص أمين عن مواقع المسئولية وزجوا بأخلص رجال هذه الأمة في السجون لا لشئ إلا لتنفيذ مخططات الاستعمارالخفية بينما هم يزعمون أنهم يحمون الأوطان من شر الإرهاب وأعداء الوطن ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) وظلت مصر تتدهور ويتراجع دورها العظيم حتى صارت مصر في ذيل الأمم لا قيمة لها اقتصادياً أو سياسياً أو حتى عربياً .
وعندما شاءت إرادة الله أن تقوم مصر وتخرج من كبونها اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتطالب بحق أبنائها في العيش بحرية وكرامة إنسانية وعودة مصر إلي مكانها الطبيعي لتنبض من جديد وتغرد في قلب سربها العربي المسلم إذا بالأعداء يتكالبون عليها من جديد وليس أعداء الخارج فقط بل الخارج والداخل أيضاً .
وإذا بالذين يفترض فيهم أنهم احرص الناس علي نهضتها والذين جمعهم في ميدان التحرير هدف واحد هو إسقاط النظام الذي أدي إلي ما نحن فيه إذا بهم يتصارعون فيما بينهم وتبث بينهم الفتن ويبدأ تخوين بعضهم لبعض والصراع يأخذ أشكالاً متنوعة فتارة تسمع عن الصراع بين الليبراليين والإسلاميين وأخرى صراع بين الإسلاميين أنفسهم فى التيار الواحدوثالثة صراع بين الإسلاميين أنفسهم بتياراتهم المختلفة ولئن كان للصراع الليبرالي الإسلامي ما يبرره فإني والله لا عجب أشد العجب من الصراع بين الإسلاميين أنفسهم وأحياناً تجد الصراع أيضاً بين الليبراليين أنفسهم وهذا إن دل فإنما يدل علي أن في النفوس هوي وإعجابا بالنفس فالمخلصون لأهدافهم لا يهمهم إلا تحقيق أهدافهم سواء علي أيديهم أو أيدي غيرهم المهم أنها تتحقق .
وأنا أدق لهم جميعاً ناقوس الخطر بان سفينة الوطن قد تغرق بنا جميعاً لو ظلوا علي هذه الحال من التشرذم والخلاف .
وأقول لإخواننا العرب في المشرق والمغرب العربي اتقوا الله في مصر فإن مصر منكم وبكم فكونوا عوناً لها للخروج من محنتها فعزة مصر عزة لكل العرب ومجد مصر مجد لكل العرب ومخطئ من ظن غير ذلك .
وأقول للأعداء المتربصين بمصر هيهات فمصر ستظل مصر مقبرة الغزاة ولئن غركم ما ترونه من خلافات بين أبنائها فإن المحن والهدف الواحد والمصير الواحد سيوحدهم وأقول لكم أن ما ترونه إنما هو الظلمة الحالكة التي تسبق شعاع الفجر واليأس الأرضى الذي يتبعه نصر السماء وآلام المخاض التي تسبق روح الحياة
فهل من مدكر ؟ !!
مع تحياتى وتمنياتى الطيبة لكل المصريين والعرب والمسلمين
محمد سعد
المتحدث الرسمى لرابطة النهر الخالد
المكتب الرئيسى – الإسماعيلية - مصر