د. يحيى الرخاوي طبيب بدرجة أديب، وعالم نفس بدرجة شاعر، ينتمي إلى سلالة من الشخصيات الفذة التي تجمع بين العلم والأدب، تلمح في كتاباته فهماً عميقاً للنفس الإنسانية وتعاطفاً بالغاً مع النقص البشرى، كتب القصة القصيرة والرواية والقصيدة وأدب الرحلات مستعيناً بأدوات علم النفس، ويتعامل مع مرضاه في العيادات النفسية بأدوات المبدع الذي يبحث عن أسرار الذات أولاً ؛ فكان لنا هذا الحوار:
- هل تخاف من الأسئلة ؟
أي سؤال له إجابه حاسمة هو سؤال بلا قيمة، فالسؤال الحقيقي يفتح الآفاق للعقل والتأمل، فالأطفال على سبيل المثال هم خير من يسأل، فأسئلتهم ليست فقط في منتهى الذكاء ولكنها ترقى إلى أسئلة الفلاسفة التي لا تحتوى سوى افتراضات لا تتطلب إجابات مباشرة محددة.
- " أنا أعرف نفسى" عبارة يرددها كثيرون.. هل تراها صحيحة؟
بالطبع لا.. لا يوجد شخص يعرف نفسه، لا أنا ولا أنت ولا أي شخص آخر نحن نعرف ما يظهر لنا فقط، وأحياناً ما يظهر للناس ونحن في سعي مستمر لمعرفة أنفسنا.
- " حيرة طبيب نفسى " هو اسم أحد أشهر كتبك، ما الذى يحيرك؟
هذا الكتاب كتبته قديماً حين وجدت مشكلات كثيرة لم تحل ؛ وكل مقولة قابلتها في عملي وجدتها تحتاج إلى إعادة النظر.
- ما الذى أثار حماسك لعالم نجيب محفوظ بحيث وضعت كتاباً كاملاً عنه بعنوان " دورات الحياة وضلال الخلود في حرافيش نجيب محفوظ" ؟
روايته الأولى التي أثارت شهيتى النقدية كانت " الشحاذ " ، حيث وجدت كاتباً يصف الاكتئاب كما لم أدرسه في كتب علم النفس، وقلت ربما كان الأستاذ قد أصيب به فكتب عنه، واكتشفت أنه عرف شخصاً أصيب به فعلاً ؛ لكنه تقمص حالته ثم تكررت أعمالي نقداً لرواياته، التي اعتبرتها أعظم أعماله من حيث الكشف عن خبابا النفس الإنسانية.
- كيف تأصلت علاقتك باللغة العربية؟
والدى كان مدرّسا للغة العربية ، والأهم أنه كان عاشقا لها، أم أن ذلك مرتبط ببيئتى ونشأتي عامّة، علما بأن التداخل بين اللغة العربية، وما هو إسلام هو تداخل شديد التكثيف من خلال القرآن خاصّة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تأثير اللغة التركيبى على التكوين المفاهيمى الخاص بتطورى العلمي والثقافي هو أمر يتعلق بالفصحى والعامية المصرية على حد سواء (ولعل علاقتي بالأمثال الشعبية، وديواني بالعامية خير دليل على ذلك. وبصفة عامة أستطيع أن أجزم أن قوّة اللغة العربية، وإيقاعها الأعمق، وعلاقة ضمائرها بتحديد العلاقة بالموضوع تحديدا متميزا، ورسوخها تاريخا - بسبب حفظ القرآن بها جزئيا- كل ذلك كان دائما محركا ومنظّما لتكوين فكري ، حيث اللغة كيان مباشر في حضور وعيى مع وعي مرضاي، وليس فقط في أن مرضاي كانوا يمرضون بالعربية.
التوحيد والفطرة والغيب
- وماذا عن علاقتك بالإسلام ؟
أحسب أن علاقتى بالإسلام ليست علاقة تقليدية بمعنى أنه معتقد فكري أو ممارسة عبادات، وأظن أن تأثري بالإسلام، فيما يتعلق بمسار حياتي العلمية والمهنية يدور حول ثلاثة محاور: التوحيد، والفطرة - التي هي أبدا ليست مرادفة للبدائية- والغيب. وأعتقد أن التوحيد مرتبط بشكل ما بمنشأ الفكرة المحورية الضامة للأفكار الدائرة في محيطها (تركز ذلك في دراستي للسيكوباثولوجى، عن الفصام خاصة وفي النظرية التطورية الإيقاعية، وكذا بالاقتراب من الظواهر؛ كل ما يتعلّق بالمراجعات المنهجية، وما يتعلق بذلك من ارتباط بالمنهج الفينومينولوجي ؛ وربما من الفطرة زاد ارتباطي بالإيقاع الحيوي ونبض التكوين البشري مع نبض الطبيعة، ومن ثمّ استحالة التكامل البشري ، في أعلى مراتب الصحّة النفسية منفصلا عن التكامل الجدلي مع الطبيعة. فإذا أضفنا إلى ذلك تأكيد الإسلام على ضرورة اليقين بالـ "مابعد" (الغيب) فإننى أحسب أن رفضي لليقين الحسّي كمفسّر مطلق للسلوك البشري كان متصلا بهذا البعد أيضا بشكل أو بآخر. ثم إن انتمائي للإسلام بمعنى الممارسة الشعبية، والجو الأسري قد أتاح لى فرصة خاصّة في طفولتي للاحتكاك بخبرات التصوف شعبية وعائلية، جماعيّة وفردية، سطحية وغائرة. ويبدو أن التصوف كسبيل إلى المعرفة قد أثّر أيضا في موقفي من المنهج.
- وماذا عن التراث والموروث الشعبى؟
كما يبدو أن للنشأة الريفية تأثيرها المباشر وغير المباشر فيما أتاحته لي من جرعة الأغانى، والحواديت، والمواويل الشعبية التي تسللت إلى حافظتى وادراكي ، وما ارتبط بذلك من عادات شعبية عموما، وما تعلّق منها بالمرض النفسي والأسياد أيضا، وقد ظهر هذا التأثير منذ البداية في دراستي الباكرة للحيل النفسية والأمثال الشعبية، وكذا في تأويل أرجوزة "واحد اتنين سرجي مرجي" كما أن أهم مقياس من بين ما أسهمت في إعداده أو ترجمته من مقاييس كان نابعا أيضا من هذا المصدر، لقياس التفكير التجريدي ، وفقر الكلام والأفكاركذلك تأسست رسائل علمية بأكملها لتحقيق فروض في هذا الاتجاه.
- ما مدى تأثير ِالبيئة الإيقاعية بالنسبة لشخص الكاتب والطبيب النفسي ؟
وقد يكون هذا التأثير غير واضح من حيث المبدأ، إلا أننى رجّحت أن طفولتى التى ارتبطت بتوقيت طلوع الشمس وغروبها، كما ارتبطت عباداتي برؤية مباشرة بحركة الشمس، طول النهار إلى الليل حتى الفجر، بما واكب ذلك من توقيت بمواعيد الزراعات، وأحسب أن كل ذلك لم يدعني أستسلم لتشكيل الوقت من خارج علاقتى بالطبيعة، وبالتالى بتشكيل مفروض على الفطرةكما هو الحال في البلاد المظلمة والغائمة والباردة التى استوردنا منها طبــّنا النفسي الحديث.
والفرض الأرجح هنا يقول: إن كل ذلك قد يِكون الأرضية التي انبعث منها انتباهي إلى دوريّة المرض النفسي، حتى اعتبرت إلغاء أو تجاوز هذه الدورة في الصحة والمرض من باب التشويه اللاحق للإنسان، وقد صاغت هذه الدورية (والنوابية) والإيقاع كل فكري بعد ذلك في الطب النفسى حتى أصبح الإيقاع الحيوي وعلاقته بدورات الطبيعة، ودورات المرض، ودورات النمو هو الفكر المحوري لمسارى العلمي والإبداعي عامّة.