أَخْبَارُ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ
وَاسْمُهُ: أَصْحَمَةُ، مَلِكُ الحَبَشَةِ، مَعْدُوْدٌ فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم -.
وَكَانَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلاَمُهُ، وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَلاَ لَهُ رُؤْيَةٌ، فَهُوَ تَابِعِيٌّ مِنْ وَجْهٍ، صَاحِبٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى عَلَيْهِ بِالنَّاسِ صَلاَةَ الغَائِبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى غَائِبٍ سِوَاهُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مَاتَ بَيْنَ قَوْمٍ نَصَارَى، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، لأَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِيْنَ كَانُوا مُهَاجِرِيْنَ عِنْدَهُ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ مُهَاجِرِيْنَ إِلَى المَدِيْنَةِ عَامَ خَيْبَرَ.
ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ:
حَدَّثْتُ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ بِحَدِيْثِ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِقِصَّةِ النَّجَاشِيِّ، وَقَوْلِهِ لِعَمْرِو بنِ العَاصِ:
فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِيْنَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، وَمَا أَطَاعَ النَّاسُ فِيَّ، فَأُطِيْعُ النَّاسَ فِيْهِ.
فَقَالَ عُرْوَةُ: أَتَدْرِي مَا مَعْنَاهُ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إِلاَّ النَّجَاشِيُّ، وَكَانَ لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ، لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ مَمْلَكَةِ الحَبَشَةِ.
فَقَالَتِ الحَبَشَةُ بَيْنَهَا: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ، وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ، فَإِنَّهُ لاَ وَلَدَ لَهُ غَيْرَ هَذَا الغُلاَمِ، وَإِنَّ لأَخِيْهِ اثْنَيْ عَشْرَةَ وَلَداً، فَتَوَارَثُوا مُلْكَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَقِيَتِ الحَبَشَةُ بَعْدَهُ دَهْراً.
فَعَدَوْا عَلَى أَبِي النَّجَاشِيِّ، فَقَتَلُوْهُ، وَمَلَّكُوا أَخَاهُ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ، وَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ، وَكَانَ لَبِيْباً حَازِماً مِنَ الرِّجَالِ، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَنَزَلَ مِنْهُ بِكُلِّ مَنْزِلَةٍ.
فَلَمَّا رَأَتِ الحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْهُ، قَالَتْ بَيْنهَا:
وَاللهِ إِنَّا لَنَتَخَوَّفُ أَنْ يَمْلِكَهُ، وَلَئِنْ مَلَكَهُ عَلَيْنَا لَيَقْتُلُنَا أَجْمَعِيْنَ، لَقَدْ عَرَفَ أَنَّا نَحْنُ قَتَلْنَا أَبَاهُ.
فَمَشَوْا إِلَى عَمِّهِ، فَقَالُوا لَهُ:
إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَإِنَّا قَدْ خِفْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا مِنْهُ. (1/430)
قَالَ: وَيْلَكُم، قَتَلْتُمْ أَبَاهُ بِالأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ اليَوْمَ، بَلْ أَخْرِجُوْهُ مِنْ بِلاَدِكُم.
فَخَرَجُوا بِهِ، فَبَاعُوْهُ مِنْ رَجُلٍ تَاجِرٍ بِسِتِّ مَائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَذَفَهُ فِي سَفِيْنَةٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى إِذَا المَسَاءُ مِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَابِ الخَرِيْفِ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ، فَقَتَلَتْهُ.
فَفَزِعَتِ الحَبَشَةُ إِلَى وَلَدِهِ، فَإِذَا هُمْ حَمْقَى، لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ، فَمَرَجَ عَلَى الحَبَشَةِ أَمْرُهُم، فَلَمَّا ضَاقَ عَلَيْهِم مَا هُمْ فِيْهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ:
تَعْلَمُوْنَ -وَاللهِ- أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لاَ يُقِيْمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ، الَّذِي بِعْتُمُوْهُ غُدْوَةً، فَإِنْ كَانَ لَكُم بِأَمْرِ الحَبَشَةِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوْهُ.
قَالَ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، حَتَّى أَدْرَكُوْهُ، فَأَخَذُوْهُ مِنَ التَّاجِرِ، ثُمَّ جَاؤُوا بِهِ، فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ، وَأَقْعَدُوْهُ عَلَى سَرِيْرِ المُلْكِ، وَمَلَّكُوْهُ، فَجَاءهُمُ التَّاجِرُ، فَقَالَ:
إِمَّا أَنْ تُعْطُوْنِي مَالِي، وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ.
فَقَالُوا: لاَ نُعْطِيْكَ شَيْئاً.
قَالَ: إِذَنْ -وَاللهِ- لأُكَلِّمَنَّهُ.
قَالُوا: فَدُوْنَكَ.
فَجَاءهُ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ:
أَيُّهَا المَلِكُ! ابْتَعْتُ غُلاَماً مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوْقِ بِسِتِّ مَائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَسْلَمُوْهُ إِلَيَّ، وَأَخَذُوا دَرَاهِمِي حَتَّى إِذَا سِرْتُ بِغُلاَمِي أَدْرَكُوْنِي، فَأَخَذُوا غُلاَمِي، وَمَنَعُوْنِي دَرَاهِمِي.
فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: لَتَعْطُنَّهُ دَرَاهِمَهُ، أَوْ لَيُسَلَّمَنَّ غُلاَمَهُ فِي يَدَيْهِ، فَلَيَذْهَبَنَّ بِهِ حَيْثُ يَشَاءُ.
قَالُوا: بَلْ نُعْطِيْهِ دَرَاهِمَهُ.
قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُوْلُ: مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِيْنَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلاَبَتِهِ فِي دِيْنِهِ، وَعَدْلِهِ فِي حُكْمِهِ.
ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ، كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لاَ يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُوْرٌ.
(المُسْنَدُ) لأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوْبُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ:
لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِيْنِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ -تَعَالَى- لاَ نُؤْذَى، وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرُهُهُ. (1/431)
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيْنَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيْهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ.
فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيْراً، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيْقاً إِلاَّ أَهْدُوا إِلَيْهِ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللهِ بنَ أَبِي رَبِيْعَةَ بنِ المُغِيْرَةِ المَخْزُوْمِيَّ، وَعَمْرَو بنَ العَاصِ السَّهْمِيَّ، وَأَمَّرُوْهُمَا أَمْرَهُم، وَقَالُوا لَهُمَا:
ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيْقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيْهِم، ثُمَّ قَدِّمُوا لَهُ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوْهُ أَنْ يُسْلِمَهُم إِلَيْكُم قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُم.
قَالَتْ: فَخَرَجَا، فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيْقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ، وَقَالاَ لَهُ:
إِنَّهُ قَدْ ضَوَى إِلَى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِيْنَ قَوْمِهِم، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِيْنِكُم، وَجَاؤُوا بِدِيْنٍ مُبْتَدَعٍ، لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُم، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى المَلِكِ فِيْهِم أَشْرَافُ قَوْمِهِم، لِيَرُدَّهُمْ إِلَيْهِم، فَإِذَا كَلَّمْنَا المَلِكَ فِيْهِم، فَأَشِيْرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُم إِلَيْنَا، وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُم أَعْلَى بِهِم عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِم.
فَقَالُوا لَهُم: نَعَمْ.
ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَا النَّجَاشِيِّ، فَقَبِلَهَا مِنْهُم، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالاَ لَهُ:
أَيُّهَا المَلِكُ! إِنَّهُ ضَوَى إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِيْنَ قَوْمِهِم، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِيْنِكَ، وَجَاؤُوا بِدِيْنٍ مُبْتَدَعٍ، لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ أَشْرَافُ قَوْمِهِم مِنْ آبَائِهِم وَأَعْمَامِهِم وَعَشَائِرِهِم، لِتَرُدَّهُم إِلَيْهِم، فَهُمْ أَعْلَى بِهِم عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِم فِيْهِ. (1/432)
قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ وَعَمْرٍو مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلاَمَهُم.
فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا المَلِكُ، فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا.
فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لاَ هَا اللهِ، إِذاً لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلاَ أُكَادُ قَوْماً جَاوَرُوْنِي، وَنَزَلُوا بِلاَدِي، وَاخْتَارُوْنِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُم، فَأَسْأَلَهُم.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ، فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُوْلُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
مَا تَقُوْلُوْنَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوْهُ؟
قَالُوا: نَقُوْلُ -وَاللهِ- مَا عَلِمْنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَائِناً فِي ذَلِكَ مَا كَانَ.
فَلَمَّا جَاؤُوْهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ:
مَا هَذَا الدِّيْنُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيْهِ قَوْمَكُم، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِيْنِي، وَلاَ فِي دِيْنِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ؟
قَالَتْ: وَكَانَ الَّذِي يُكَلِّمُهُ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ:
أَيُّهَا المَلِكُ! إِنَّا كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ المَيْتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيْءُ الجِوَارَ، وَيَأْكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيْفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُوْلاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُوْنِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيْثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الجِوَارِ، وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّوْرِ، وَأَكْلِ مَالِ اليَتِيْمِ، وَقَذْفِ المُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ.
قَالَتْ: فَعَدَّدَ لَهُ أُمُوْرَ الإِسْلاَمِ.
فَصَدَّقْنَاهُ، وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُوْنَا، وَفَتَنُوْنَا عَنْ دِيْنِنَا لِيَرُدُّوْنَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُوْنَا وَظَلَمُوْنَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِيْنِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا المَلِكُ. (1/433)
قَالَتْ: فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ.
فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْراً مِنْ: {كهيعص}، فَبَكَى -وَاللهِ- النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُم حِيْنَ سَمِعُوا مَا تُلِيَ عَلَيْهِم.
ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوْسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَوَاللهِ لاَ أُسْلِمُهُم إِلَيْكُم أَبَداً، وَلاَ أُكَادُ.
فَلَمَّا خَرَجَا، قَالَ عَمْرٌو: وَاللهِ لأُنَبِّئَنَّهُ غَداً عَيْبَهُم، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ خَضْرَاءهُم.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي رَبِيْعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِيْنَا:
لاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُم أَرْحَاماً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُوْنَا.
قَالَ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُم يَزْعُمُوْنَ أَنَّ عِيْسَى عَبْدٌ.
ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ! إِنَّهُم يَقُوْلُوْنَ فِي عِيْسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيْماً، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِم، فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُوْلُوْنَ فِيْهِ.
فَأَرْسَلَ يَسْأَلُهُم.
قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ القَوْمُ، ثُمَّ قَالُوا:
نَقُوْل -وَاللهِ- فِيْهِ مَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- كَائِناً مَا كَانَ.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُم: مَا تَقُوْلُوْنَ فِي عِيْسَى؟
فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَقُوْلُ فِيْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا، هُوَ عَبْدُ اللهِ، وَرَسُوْلُهُ، وَرُوْحُهُ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ العَذْرَاءِ البَتُوْلِ.
فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ، فَأَخَذَ عُوْداً، ثُمَّ قَالَ:
مَا عَدَا عِيْسَى مَا قُلْتَ هَذَا العُوْدَ. (1/434)
فَتَنَاخَرَتِ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُم سُيُوْمٌ بِأَرْضِي - وَالسُّيُوْمُ: الآمِنُوْنَ - مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرَى ذَهَباً، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلاً مِنْكُم - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِهِم: الجَبَلُ - رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِيْنَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسُ فِيَّ، فَأُطِيْعَهُم فِيْهِ.
فَخَرَجَا مَقْبُوْحَيْنِ، مَرْدُوْداً عَلَيْهِمَا مَا جَاءا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ.
فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ نَزَلَ بِهِ -يَعْنِي: مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ- فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حَرْباً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حَرْبٍ حَرِبْنَاهُ، تَخُوُّفاً أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِي رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ.
وَسَارَ النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيْلِ.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ القَوْمِ، ثُمَّ يَأْتِيْنَا بِالخَبَرِ؟
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا.
وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ القَوْمِ سِنّاً، فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى مَكَانِ المُلْتَقَى، وَحَضَرَ.
فَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُوْرِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِيْنِ لَهُ فِي بِلاَدِهِ، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ أَمْرُ الحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِمَكَّةَ.
سُلَيْمَانُ ابنُ بِنْتِ شُرَحْبِيْلَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ بَشِيْرٍ، وَعَبْدِ المَلِكِ بنِ هِشَامٍ، عَنْ زِيَادٍ البِكَالِيِّ، وَأَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَيُّوْبَ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ جَمِيْعاً:
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَنَّ النَّجَاشِيَّ سَأَلَهُ: مَا دِيْنُكُم؟
قَالَ: بَعَثَ اللهُ فِيْنَا رَسُوْلاً...، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ. (1/435)
تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ: ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَأَمَّا عُقَيْلٌ، وَيُوْنُسُ، وَغَيْرُهُمَا، فَأَرْسَلُوْهُ.
وَرَوَاهُ: ابْنُ إِدْرِيْسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ:
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُرْوَةَ، وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَيُرْوَى هَذَا الخَبَرُ عَنْ: أَبِي بُرْدَةَ بنِ أَبِي مُوْسَى، عَنْ أَبِيْهِ، وَعَنْ: عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيْهِ.
وَرَوَاهُ: ابْنُ شَابُوْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِطُوْلِهِ.
أَعْلَى بِهِم عَيْناً: أَبْصَرَ بِهِم.
لاَهَا اللهِ: قَسَمٌ، وَأَهْلُ العَرَبِيَّةِ يَقُوْلُوْنَ: لاَهَا اللهِ ذَا، وَالهَاءُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ القَسَمِ، أَيْ: لاَ وَاللهِ لاَ يَكُوْنَ ذَا.
وَقِيْلَ: بَلْ حُذِفَتْ وَاوُ القَسَمِ، وَفُصِلَتْ هَا مِنْ هَذَا، فَتَوَسَّطَتِ الجَلاَلَةَ، وَنُصِبَتْ لأَجْلِ حَذْفِ وَاوِ القَسَمِ.
وَتَنَاخَرَتْ: فَالنَّخِيْرُ: صَوْتٌ مِنَ الأَنْفِ.
وَقِيْلَ: النَّخِيْرُ: ضَرْبٌ مِنَ الكَلاَمِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ.
وَقَوْلُهَا: حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ: عَنَتْ نَفْسَهَا وَزَوْجَهَا.
وَكَذَا قَدِمَ الزُّبَيْرُ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَطَائِفَةٌ مِنْ مُهَاجِرَةِ الحَبَشَةِ مَكَّةَ، وَمَلُّوا مِنْ سُكْنَى الحَبَشَةِ.
ثُمَّ قَدِمَ طَائِفَةٌ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا عَرَفُوا بِأَنَّهُ هَاجَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ، ثُمَّ قَدِمَ جَعْفَرٌ بِمَنْ بَقِيَ لَيَالِيَ خَيْبَرَ. (1/436)
قَالَ أَبُو مُوْسَى الأَصْبَهَانِيُّ الحَافِظُ: اسْمُ النَّجَاشِيِّ: أَصْحَمَةُ.
وَقِيْلَ: أَصْحَمُ بنُ بُجْرَى.
كَانَ لَهُ وَلَدٌ يُسَمَّى: أُرْمَى، فَبَعَثَهُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَاتَ فِي الطَّرِيْقِ.
وَقِيْلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ رَفِيْقَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: عُمَارَةُ بنُ الوَلِيْدِ بنِ المُغِيْرَةِ المَخْزُوْمِيُّ.
فَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ آدَمَ المِصِّيْصِيُّ:
حَدَّثَنَا أَسَدُ بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بنَ العَاصِ، وَعُمَارَةَ بنَ الوَلِيْدِ بِهَدِيَّةٍ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى النَّجَاشِيِّ.
فَقَالُوا لَهُ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ: قَدْ جَاءَ إِلَيْكَ نَاسٌ مِنْ سَفِلَتِنَا وَسُفَهَائِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا.
قَالَ: لاَ، حَتَّى أَسْمَعَ كَلاَمَهُمْ...، وَذَكَرَ نَحْوَهُ.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَمَرَ مُنَادِياً، فَنَادَى:
مَنْ آذَى أَحَداً مِنْهُم، فَأَغْرِمُوْهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمٍ.
ثُمَّ قَالَ: يَكْفِيْكُم.
قُلْنَا: لاَ.
فَأَضْعَفَهَا.
فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى المَدِيْنَةِ، وَظَهَرَ بِهَا، قُلْنَا لَهُ:
إِنَّ صَاحِبَنَا قَدْ خَرَجَ إِلَى المَدِيْنَةِ وَهَاجَرَ، وَقُتِلَ الَّذِي كُنَّا حَدَّثْنَاكَ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَرَدْنَا الرَّحِيْلَ إِلَيْهِ، فَزَوِّدْنَا.
قَالَ: نَعَمْ.
فَحَمَّلَنَا، وَزَوَّدَنَا، وَأَعْطَانَا، ثُمَّ قَالَ:
أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُم، وَهَذَا رَسُوْلِي مَعَكَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ، فَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي.
قَالَ جَعْفَرٌ: فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا المَدِيْنَةَ، فَتَلَقَّانِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعْتَنَقَنِي، فَقَالَ: (مَا أَدْرِي أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ، أَوْ بِقُدُوْمِ جَعْفَرٍ).
ثُمَّ جَلَسَ، فَقَامَ رَسُوْلُ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ:
هُوَ ذَا جَعْفَرٌ، فَسَلْهُ مَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُنَا.
فَقُلْتُ: نَعَمْ -يَعْنِي: ذَكَرْتُهُ لَهُ-.
فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَعَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلنَّجَاشِيِّ).
فَقَالَ المُسْلِمُوْنَ: آمِيْن.
فَقُلْتُ لِلرَّسُوْلِ: انْطَلِقْ، فَأَخْبِرْ صَاحِبَكَ مَا رَأَيْتَ. (1/437)
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُعَاذٌ: عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بنِ إِسْحَاقَ:
أَنَّ جَعْفَراً قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! ائْذَنْ لِي حَتَّى أَصِيْرَ إِلَى أَرْضٍ أَعْبُدُ اللهَ فِيْهَا.
فَأَذِنَ لَهُ، فَأَتَى النَّجَاشِيَّ.
فَحَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ العَاصِ، قَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ جَعْفَراً آمِناً بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَسَدْتُهُ، فَأَتَيْتُ النَّجَاشِيَّ، فَقُلْتُ:
إِنَّ بِأَرْضِكَ رَجُلاً ابْنُ عَمِّهِ بِأَرْضِنَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاسِ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ وَأَصْحَابَهُ لاَ أَقْطَعُ إِلَيْكَ هَذِهِ النُّطْفَةَ أَبَداً، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي.
قَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَادْعُهُ.
قُلْتُ: إِنَّهُ لاَ يَجِيْءُ مَعِي، فَأَرْسِلْ مَعِي رَسُوْلاً.
فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ بَيْنَ ظِهْرِيِّ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُم.
قَالَ لَهُ: أَجِبْ.
فَلَمَّا أَتَيْنَا البَابَ، نَادَيْتُ: ائْذَنْ لِعَمْرِو بنِ العَاصِ.
وَنَادَى جَعْفَرٌ: ائْذَنْ لِحِزْبِ اللهِ.
فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَذِنَ لَهُ قَبْلِي...، الحَدِيْثَ.
إِسْرَائِيْلُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً، فَبَعَثُوا عَمْراً وَعُمَارَةَ بنَ الوَلِيْدِ، وَجَمَعُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدِيَّةً.
فَقَدِمَا عَلَيْهِ، وَأَتَيَاهُ بِالهَدِيَّةِ، فَقَبِلَهَا، وَسَجَدَا لَهُ.
ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو: إِنَّ نَاساً مِنْ أَرْضِنَا رَغِبُوا عَنْ دِيْنِنَا، وَهُمْ فِي أَرْضِكَ.
قَالَ: فِي أَرْضِي؟
قَالَ: نَعَمْ. (1/438)
فَبَعَثَ إِلَيْنَا، فَقَالَ لَنَا جَعْفَر:
لاَ يَتَكَلَّمْ مِنْكُم أَحَدٌ، أَنَا خَطِيْبُكُمُ اليَوْمَ.
فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ عَظِيْمٍ، وَعَمْرٌو عَنْ يَمِيْنِهِ، وَعُمَارَةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالقِسِّيْسُوْنَ وَالرُّهْبَانُ جُلُوْسٌ سِمَاطَيْنِ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّهُم لاَ يَسْجُدُوْنَ لَكَ.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا، بَدَرَنَا مَنْ عِنْدَهُ أَنِ اسْجُدُوا.
قُلْنَا: لاَ نَسْجُدُ إِلاَّ لِلِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟
قَالَ: لاَ نَسْجُدُ إِلاَّ لِلِّهِ.
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ فِيْنَا رَسُوْلاً، وَهُوَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيْسَى، فَقَالَ: {يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، فَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ، وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَنُقِيْمَ الصَّلاَةَ، وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرَنَا بِالمَعْرُوْفِ، وَنَهَانَا عَنِ المُنْكَرِ.
فَأَعْجَبَ النَّجَاشِيَّ قَوْلُهُ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرٌو، قَالَ: أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ، إِنَّهُم يُخَالِفُوْنَكَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ.
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِجَعْفَرٍ: مَا يَقُوْلُ صَاحِبُكُم فِي ابْنِ مَرْيَمَ؟
قَالَ: يَقُوْلُ فِيْهِ قَوْلَ اللهِ: هُوَ رُوْحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ، أَخْرَجَهُ مِنَ البَتُوْلِ العَذْرَاءِ الَّتِي لَمْ يَقْرَبْهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ.
فَتَنَاوَلَ عُوْداً، فَرَفَعَهُ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ القِسِّيْسِيْنَ وَالرُّهْبَانِ! مَا يَزِيْدُ عَلَى مَا تَقُوْلُوْنَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ مَا تَزِنُ هَذِهِ، مَرْحَباً بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُم مِنْ عِنْدِهِ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيْسَى، وَلَوْلاَ مَا أَنَا فِيْهِ مِنَ المُلْكِ لأَتَيْتُهُ حَتَّى أُقَبِّلَ نَعْلَهُ، امْكُثُوا فِي أَرْضِي مَا شِئْتُم.
وَأَمَرَ لَنَا بِطَعَامٍ وَكُسْوَةٍ، وَقَالَ: رُدُّوا عَلَى هَذَيْنِ هَدِيَّتَهُمَا. (1/439)
وَكَانَ عَمْرٌو رَجُلاً قَصِيْراً، وَكَانَ عُمَارَةُ رَجُلاً جَمِيْلاً، وَكَانَا أَقْبَلاَ فِي البَحْرِ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَشَرِبَ مَعَ عَمْرٍو وَامْرَأَتِهِ.
فَلَمَّا شَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ، قَالَ عُمَارَةُ لِعَمْرٍو: مُرْ امْرَأَتَكَ فَلْتُقَبِّلْنِي.
قَالَ: أَلاَ تَسْتَحْيِي؟
فَأَخَذَ عُمَارَةُ عَمْراً يَرْمِي بِهِ فِي البَحْرِ، فَجَعَلَ عَمْرٌو يُنَاشِدُهُ حَتَّى تَرَكَهُ.
فَحَقَدَ عَلَيْهِ عَمْرٌو، فَقَالَ لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ، خَلَفَكَ عُمَارَةُ فِي أَهْلِكَ.
فَدَعَا بِعُمَارَةَ، فَنَفَخَ فِي إِحْلِيْلِهِ، فَطَارَ مَعَ الوَحْشِ.
وَعَنْ مُوْسَى بنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
مَكَرَ عَمْرٌو بِعُمَارَةَ، فَقَالَ: يَا عُمَارَةُ! إِنَّكَ رَجُلٌ جَمِيْلٌ، فَاذْهَبْ إِلَى امْرَأَةِ النَّجَاشِيِّ، فَتَحَدَّثْ عِنْدَهَا إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ لَنَا فِي حَاجَتِنَا.
فَرَاسَلَهَا عُمَارَةُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا.
فَانْطَلَقَ عَمْرٌو إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبِي صَاحِبُ نِسَاءٍ، وَإِنَّهُ يُرِيْدُ أَهْلَكَ.
فَبَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى بَيْتِهِ، فَإِذَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِخَ فِي إِحْلِيْلِهِ سَحَرَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي جَزِيْرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ البَحْرِ، فَجُنَّ، وَاسْتَوْحَشَ مَعَ الوَحْشِ.
ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ يَزِيْدَ بنِ رُوْمَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لاَ يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُوْرٌ. (1/440)
فَأَمَّا عُمَارَةُ، فَإِنَّهُ بَقِيَ إِلَى خِلاَفَةِ عُمَرَ مَعَ الوُحُوْشِ، فَدُلَّ عَلَيْهِ أَخُوْهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، وَتَحَيَّنَ وَقْتَ وُرُوْدِهِ المَاءَ، فَلَمَّا رَأَى أَخَاهُ فَرَّ، فَوَثَبَ وَأَمْسَكَهُ، فَبَقِيَ يَصِيْحُ:
أَرْسِلْنِي يَا أَخِي!
فَلَمْ يُرْسِلْهُ، فَخَارَتْ قُوَّتُهُ مِنَ الخَوْفِ، وَمَاتَ فِي الحَالِ.
فَعِدَادُهُ فِي المَجَانِيْنَ الَّذِيْنَ يُبْعَثُوْنَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَهَابِ العَقْلِ، فَيُبْعَثُ هَذَا المُعَثَّرُ عَلَى الكُفْرِ وَالعَدَاوَةِ لِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَسْأَلُ اللهَ المَغْفِرَةَ.
وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
اجْتَمَعَتِ الحَبَشَةُ، فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: فَارَقْتَ دِيْنَنَا.
وَخَرَجُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَهَيَّأَ لَهُم سُفُناً، وَقَالَ:
ارْكَبُوا، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا.
ثُمَّ عَمَدَ إِلَى كِتَابٍ، فَكَتَبَ فِيْهِ:
هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيْسَى عَبْدُهُ، وَرَسُوْلُهُ، وَرُوْحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ.
ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قُبَائِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الحَبَشَةِ، وَصَفُّوا لَهُ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ الحَبَشَةِ! أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيْرَتِي فِيْكُم؟
قَالُوا: خَيْرَ سِيْرَةٍ.
قَالَ: فَمَا بَالُكُم؟
قَالُوا: فَارَقْتَ دِيْنَنَا، وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيْسَى عَبْدٌ.
قَالَ: فَمَا تَقُوْلُوْنَ فِيْهِ؟
قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللهِ.
فَقَالَ - وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى قُبَائِهِ -: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ عِيْسَى لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئاً.
وَإِنَّمَا عَنَى عَلَى مَا كَتَبَ، فَرَضُوا، وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. (1/441)
وَمِنْ مَحَاسِنِ النَّجَاشِيِّ: أَنَّ أُمَّ حَبِيْبَةَ رَمْلَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ الأُمَوِيَّةَ أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ أَسْلَمَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ الأَسَدِيِّ قَدِيْماً، فَهَاجَرَ بِهَا زَوْجُهَا، فَانْمَلَسَ بِهَا إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ حَبِيْبَةَ رَبِيْبَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ثُمَّ إِنَّهُ أَدْرَكَهُ الشَّقَاءُ، فَأَعْجَبَهُ دِيْنُ النَّصْرَانِيَّةِ، فَتَنَصَّرَ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَن مَاتَ بِالحَبَشَةِ.
فَلَمَّا وَفَتِ العِدَّةَ، بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطِبُهَا، فَأَجَابَتْ، فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ النَّجَاشِيُّ، وَشَهِدَ زَوَاجَهَا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَعْطَاهَا الصَّدَاقَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ أَرْبَعَ مَائَةِ دِيْنَارٍ، فَحَصَلَ لَهَا شَيْءٌ لَمْ يَحْصَلْ لِغَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، ثُمَّ جَهَّزَهَا النَّجَاشِيُّ.
وَكَانَ الَّذِي وَفَدَ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِخِطْبَتِهَا: عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ أضمري، فِيْمَا نَقَلَهُ الوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالاَ:
كَانَ الَّذِي زَوَّجَهَا، وَخَطَبَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ: خَالِدُ بنُ سَعِيْدِ بنِ العَاصِ الأُمَوِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهَا لَمَّا قَدِمَتِ المَدِيْنَةَ بِضْعاً وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً.
مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيْبَةَ:
أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَانَ رَحَلَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَأَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا بِالحَبَشَةِ، زَوَّجَهُ إِيَّاهَا النَّجَاشِيُّ، وَمَهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ شُرَحْبِيْلَ بنِ حَسَنَةَ، وَجَهَازُهَا كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ. (1/442)
وَأَمَّا ابْنُ لَهِيْعَةَ: فَنَقَلَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ:
أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا بِالحَبَشَةِ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَهَذَا خَطَأٌ، فَإِنَّ عُثْمَانَ كَانَ بِالمَدِيْنَةِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُ إِلاَّ يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقِيْمَ، فَيُمَرِّضَ زَوْجَتَهُ بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ زُهَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عَمْرِو بنِ سَعِيْدِ بنِ العَاصِ، قَالَ:
قَالَتْ أُمُّ حَبِيْبَةَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ بِأَسْوَأِ صُوْرَةٍ وَأَشْوَهِهِ، فَفَزِعْتُ، فَإِذَا هُوَ يَقُوْلُ حِيْنَ أَصْبَحَ:
يَا أُمَّ حَبِيْبَةَ! إِنِّي نَظَرْتُ فِي الدِّيْنِ، فَلَمْ أَرَ دِيْناً خَيْراً مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكُنْتُ قَدْ دِنْتُ بِهَا، ثُمَّ دَخَلتُ فِي دِيْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَدْ رَجَعْتُ إِلَيْهَا.
فَأَخْبَرَتْهُ بِالرُّؤْيَا، فَلَمْ يَحْفَلْ بِهَا، وَأَكَبَّ عَلَى الخَمْرِ حَتَّى مَاتَ.
فَأَرَى فِي النَّوْمِ كَأَنَّ آتِياً يَقُوْلُ لِي: يَا أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ! فَفَزِعْتُ، فَأَوَّلْتُهَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَزَوَّجُنِي.
فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ انْقَضَتِ عِدَّتِي، فَمَا شَعَرْتُ إِلاَّ وَرَسُوْلُ النَّجَاشِيِّ عَلَى بَابِي يَسْتَأْذِنُ، فَإِذَا جَارِيَةٌ لَهُ يُقَالُ لَهَا: البرهة، كَانَت تَقُوْمُ عَلَى ثِيَابِهِ وَدُهْنِهِ، فَدَخَلَتْ عَلَيَّ، فَقَالَتْ:
إِنَّ المَلِكَ يَقُوْلُ لَكِ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أزوجك.
فَقُلْتُ: بَشَّرَكِ اللهُ بِخَيْرٍ.
قَالَتْ: يَقُوْلُ المَلِكُ: وَكِّلِي مَنْ يُزَوِّجُكِ.
فَأَرْسَلَتْ إِلَى خَالِدِ بنِ سَعِيْدٍ، فَوَكَّلَتْهُ، وَأَعْطَتْ البرهة سِوَارَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، وَخَوَاتِيْمَ كَانَتْ فِي أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا، وَخَدَمَتَيْنِ كَانَتَا فِي رِجْلَيْهَا.
فَلَمَّا كَانَ أتعشي، أَمَرَ النَّجَاشِيُّ جَعْفَرَ بنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ هُنَاكَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، فَحَضَرُوا.
فَخَطَبَ النَّجَاشِيُّ، فَقَالَ:
الحَمْدُ لِلِّهِ المَلِكِ القُدُّوْسِ السَّلاَمِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيْسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (1/443)
ثُمَّ خَطَبَ خَالِدُ بنُ سَعِيْدٍ، وَزَوَّجَهَا، وَقَبَضَ أَرْبَعَ مَائَةِ دِيْنَارٍ، ثُمَّ دَعَا بِطَعَامٍ، فَأَكَلُوا.
قَالَتْ: فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيَّ المَالُ، عَزَلْتُ خَمْسِيْنَ دِيْنَاراً البرهة، فَأَبَتْ، وَأَخْرَجَتْ حُقّاً فِيْهِ كُلُّ مَا أَعْطَيْتُهَا، فَرَدَّتْهُ، وَقَالَتْ:
عَزَمَ عَلَيَّ المَلِكُ أَنْ لاَ أَرْزَأَكِ شَيْئاً، وَقَدْ أَسْلَمْتُ لِلِّهِ، وَحَاجَتِي إِلَيْكِ أَنْ تُقْرِئِي رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنِّي السَّلاَمَ.
ثُمَّ جَاءتْنِي مِنْ عِنْدِ نِسَاءِ المَلِكِ بِعُوْدٍ، وَعَنْبَرٍ، وزبادي كَثِيْرٍ.
فَقِيْلَ: بَنَى بِهَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَنَةَ سِتٍّ.
وَقَالَ خَلِيْفَةُ: دَخَلَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ.
وَأَصْحَمَةُ بِالعَرَبِيِّ: عَطِيَّة.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنَّاسِ: (إِنَّ أَخاً لَكُم قَدْ مَاتَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ).
فَخَرَجَ بِهِم إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَصَفَّهُم صُفُوْفاً، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ.
فَنَقَلَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ، سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ.