إن التناسب الصوتي في القرآن الكريم لا يمكن حصره في التوازنات الصوتية الشكلية، التي يمكن عدُّها وقياسها، ولا في تقارب مخارج الحروف وصفاتها كما قد يتراءى لأصحاب النظرة العجلى في البيان القرآني، بل إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير .
لقد اهتم القرآن الكريم بالمناسبة بين المقال والمقام والسياق، وما لذلك من تأثيرفي نفس المتلَقِّين من العرب الفصحاء فوقفوا مشدوهين أمامه لا يؤمنون به ، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون إنكار روعته وجــلاله . و قد استخدم البيان القرآني بدائع بليغة كثيرة ، أعجزتْ مَن عاصروه عن أن يأتوا و لو بأقصر سورة من مثله وأعجزتْ مَن بعدهم و لا زالت تُعجزُ كل عالم بأسرار اللغة إلى يومنا هذا .
و من بين هذه البدائع و الدلائل الإعجازية الجناس الذي وظَّفه القرآن الكريم لتحقيق التوازن الصوتي ، و لملاءمة السياق والمقام . حيث استُعملت هذه الآلية البديعية لِما فيها من جمعٍ بين كلمتين متماثلتين أو متشابهتين من حيث اللفظ ، مختلفتين من حيث المعنى ، مما يُحدثُ من الناحية الصوتية تكرارا منتظما للأصوات ، موافقاً لتوقعات المتلقي، وفي الوقت نفسه متضمِّناً لمعانٍ جديدة ، مما يفسح مجالا رحبا للتأمل والنظر، فيحقق بذلك متعتين : متعة السماع بالتلذذ بما يُحدثه التجانس الصوتي عن طريق استعمال الجناس ، ومتعة العقل بما يفتحه ذلك التعبير من آفاق للتفكر.
كما أن الجناس من الوسائل التداولية الفعّالة، بحَمْلها و تشويقِها المتلقي إلى الإصغاء والانتباه وإعمال الفكر في هذا المتشابِه صوتيا، المختلِف دلاليا.
وقد أكثر القرآن الكريم من استخدام هذه الآلية البديعية بجميع أنواعها ،و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة أنواع من الجناس :
الجناس التام المفرد: وهو ما اتفق لفظاه في نوع الحروف وعددها وترتيبها وهيئتها ( أي حركاتها و سكناتها ) : ومنه قوله تعالى : ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلّب الليل و النهارإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . النور : 43 / 44 ، حيث وردت كلمة الأبصار الأولى للدلالة على جمع (بصر) وهو الحاسة المعروفة، بينما عَنى لفظ الأبصار الثاني جمع (بصيرة) . و قوله : ( و يوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) . الروم / 55 ، فالساعة الأولى يقصد بها يوم القيامة، بينما تعني الثانية القطعة من الزمن أو مفرد "ساعات" ، ذلك أنها تعبر أدق تعبير عن إحساس المجرمين، فهم يحسون أنهم قضوا في حياتهم الدنيا وقتاً وجيزاً هو ساعة من الزمن .
و قوله عز و جل : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد ) . الإخلاص : من 1 إلى 4. فلفظ أحد الثاني غير الأول فالأول بمعنى الواحد أو المتوحد، خاص بالله ، لا يطلق على غيره... وأحد الثاني بمعنى الجمع وهو من الألفاظ التي تستعمل في النفي، نحو : "ما جاءني أحدٌ".
الجناس المغاير: وهو ما تشابه لفظاه في الحروف و اختَلفا في الحركات ، كقوله جل و علا : ( و الجار الجُنُب و الصاحب بالجَنْب) النساء / 36 . فكلمة الجُنُب تعني الذي يقرُب منك و يكون إلى جانبك ، و الصاحب بالجَنْب هو كلّ من صحبَك و كان إلى جانبك إما في السفر، أو بالجوار ، أو في العلم ، أو في مجلس معيّن ، أو في المسجد ، فكلّ هؤلاء لهم حق الجوار . و قوله سبحانه : ( و لقد أرسلنا فيهم مُنذِرين فانظر كيف كان عاقبة المُنْذَرين ) . الصافات / 72 . حيث دلت كلمة المنذِرين على اسم الفاعل الجمع من أَنذَرَ ، بينما دلت المنذَرين على اسم المفعول الجمع من الفعل نفسه .
الجناس الناقص : وهو الذي يختلف رُكناه في عدد الحروف
*سواء كان الحرف المزيد في أول الكلمة ، كقوله عز و جل: ( و التفَّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ). القيامة : 29 / 30 . حيث يتجلى الجناس بين لفظي الساق ، و هي ساق القدَم ، و المساق الذي زيد ت في أوله ميم المصدر ، فهو مصدر ميمي من ساقَ / يسوق / سوْقاً و سِياقاً /
*أم كان الحرف المزيد في وسطها ، أم في آخرها كقوله سبحانه : ( ثم كلي من كلّ الثمرات ). النحل / 69 .
إن ما ذكرناه إن هو إلا غيضٌ من فيضٍ من أنواع الجناس الواردة في القرآن الكريم و هي كثيرةٌ كما أسلفنا منها : الجناس المصَحَّف ، و المَرْفُوّ، و المُذَيَّل ، والمضارع، واللاحق ، و اللفظي، وتجنيس القلب، وتجنيس الاشتقاق، وتجنيس الإطلاق .
إن وجود الجناس في القرآن لا يعني أنه جيء به لأجل التكلُّف كما يفعل الشعراء عادةً حين يستعملون المحسِّنات اللفظية ، و لكن مراعاةً لقوة المعاني وللمقاصد التي يهدِف إليها كتاب الله و يروم تبليغها .