حذف حروف المعاني للضرورة
الأستاذ الدكتور: أحمد بن عبدالله السالم[1]
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فقد كان الدافِع وراء هذا البحث النحوي الذي عُنِي بحذف حروف المعاني للضرورة عِدَّة أسباب؛ منها:
1- الوقوف على ما وراء هذا الحذف لهذه الحروف؛ لما عُرِف عن الحذف باعتباره ظاهرة لغوية لقيت اهتمامًا بالغًا من القدماء والمحدَثين، وأنه يكون لأسباب؛ منها: الإيجاز، والاقتصار، والتخفيف، فضلاً عمَّا لقيه عند البلاغيين من اهتمام[2]، وذلك في مقابِل ما هو معروف عن الدور الكبير الذي تؤدِّيه حروف المعاني في اللغة، خاصة وأنها لا تأتي إلا لتأدِيَة معنًى من المعاني.
2- العلاقة بين المعنى الذي يأتي به الحرف من حروف المعاني في حالة ثباته في البيت وفي حالة حذفه للضرورة في البيت الشعري.
3- العلاقة بين الضرورة الشعرية في حالة حذف أحد حروف المعاني وبين اللهجات العربية.
إلى غير ذلك ممَّا أرى أنه كان دافعًا إلى الولوج إلى هذا الموضوع، والذي لقي اهتمام الباحثين من قدماء ومحدَثِين، موجهًا إلى الضرورة الشعرية وقضاياها وأنواعها[3].
ومع تقسيماتهم المتعدِّدة لها لم أقف على دراسةٍ عُنِيت بحذف حروف المعاني للضرورة الشعرية، مع ما لذلك من أهمية ترتبِط بالحرف ذاته، وما يؤدِّيه من معنى مرتبِط بالسياق، فضلاً عن أنَّ ما ورد في ذلك لم يُفرَد له عند القدماء بابٌ أو فصل، وإنما كان متفرِّقًا بين العلماء في ثنايا أقوالهم، فقد يَرِدُ عند أحدهم حرف أو حرفان وعند غيره مثله، ولم يرد عند واحدٍ منهم ذكر ربما لأكثر من حرفين من حروف المعاني في حالة حذفها للضرورة الشعرية.
وذلك في الوقت الذي أرى أن موضوع الضرورة الشعرية بكلِّ ما له وما عليه وبالرغم ممَّا كُتِب عنه وما وردت حوله من دراسات، وما انتهى إليه من معالجات - هو في حاجة ماسَّة إلى دراسة جديدة تستقرئها وتردُّها إلى أصولها، فهذه التي يسمُّونها ضرائر تلجِئ إليها طبيعةُ الشعر، ترتبِط إلى حدٍّ بعيد باللهجات العربية، خاصة إذا رأيت في تناوُلهم لبعض هذه الضرائر تردُّدهم بينها وبين اللهجة، ومن ذلك قولهم في البيت[4]:
فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ
أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُو بِأُمٍّ وَلاَ أَبِ
فالشاهد فيه إسكان الواو في (أسمو) وهو منصوب بأن، فمنهم مَن يجعل ذلك لغة، ومنهم مَن يجعله ضرورة.
أو قولهم في البيت[5]:
أَوْ بَاغِيَانِ لِبُعْرَانٍ لَنَا رَقَصَتْ
كَيْلاَ يَحُسَّانِ عَنْ بُعْرَانِنَا أَثَرَا
قال الأندلسي: "إمَّا أن يُقال: هي (كي) لغة في (كيف) أو يُقال: حذَف (فاء) كيف ضرورة"[6].
بل إن بعضهم يُصَرِّح أن بعض هذه الضرائر لهجات؛ مثلما نجد عند أبي سعيد القرشي في أرجوزته في الضرائر[7]:
وَرُبَّمَا تُصَادِفُ الضَّرُورَهْ
بَعْضَ لُغَاتِ العَرَبِ المَشْهُورَهْ
وهم يعدُّون من الضرائر صرف الممنوع، وقصر الممدود، والوقف على المنوَّن المنصوب بحذف الألف، وحذف النون من اللذَين واللتَين والذين... إلى غير ذلك.
ولسوف يظهر لك أن هذه الظواهر كلها لهجات وردت بها قراءات قرآنية.
ويدعم ما أصبُو إليه ما عُرِف عن النُّحَاة من أنهم لم ينسبوا معظم الاستعمالات اللغوية إلى أصحابها، ولم يحدِّدوا البيئة اللغوية التي يستَقُون منها مادَّتهم العلمية تحديدًا دقيقًا، غاية الأمر أنهم فضَّلوا بعض القبائل على بعضها الآخر؛ لأمورٍ تخضَع لمعيارٍ ذاتي يختلف من شخصٍ لآخر، وهو الفصاحة، كما كانت محاولة طرد القاعدة النحوية وراء كثيرٍ من الأحكام التي أطلَقَها النُّحَاة على بعض الاستعمالات اللهجية؛ كالرداءة، والضعف، والضرورة... إلى غير ذلك.
ولقد كان من الممكن أن يكون هذا التصرُّف مقبولاً لو أنهم قصَرُوا التقعيد النحوي على لغة القرآن الكريم وحده بوصفه ممثِّلاً للغة المشتركة بين العرب جميعًا، ولكن الواقع أنهم يُنكِرون بعض الاستعمالات القرآنية في قراءة الجماعة، فضلاً عن القراءات الأخرى[8]، وعلى ما سيتَّضح من هذا البحث - إن شاء الله.
ولمَّا كنت قد توكَّلت على الله وعقدت العزم على أن تكون بداية رحلتي مع هذه الظاهرة من خلال حذف حروف المعاني للضرورة، فقد رأيت أنَّ أمْثَل طريقةٍ للمعالجة يمكن أن تكون من خلال ما يلي:
1- الضرورة وقضاياها بين القدماء والمحدَثِين:
ويدور البحث فيه حول الضرورة الشعرية وتعريفها، وهل هي رخصة للشاعر، وما ورد من أقوالٍ للغويين والنُّحَاة بصددها، وموقف النُّحَاة من الاستقراء ومصادر الاستشهاد فيما يتَّصل بمواطن الضرورة في شعر الشعراء، وقضايا الضرورة أو أنواعها، على ما ورد في ذلك عند اللغويين والنُّحَاة، والدراسات التي عرَضَت لها عند القدماء والمحدَثِين فيما وقفت عليه.
2- حذف حروف المعاني للضرورة:
ويتناول:
أ- الحروف الأحادية: وهي:
1- الهمزة.
2- الباء.
3- الفاء.
4- اللام: وهي:
أ- لام الطلب.
ب- لام الجواب.
5- النون: وهي:
أ- نون التوكيد.
1- الخفيفة.
2- الثقيلة.
ب- نون الوقاية.
ج- نونَا التثنية والجمع.
6- واو العطف.
ب- الحروف الثنائية: وهي:
1- (أن) الناصبة.
2- (في) الجارة.
3- (لا) العاملة عمل (ليس).
جـ- الحروف الثلاثية: وهي:
1- (إلى) الجارة.
2- (رُبَّ) الجارة.
3- (على) الجارة.
ثم الخاتمة، وبها أهم ما وقفت عليه من نتائج، وبعدها ثبت المصادر والمراجع.
وأُقِرُّ هنا بأنها محاولة، فإن أصبتُ فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى فالكمالُ لله وحده، عليه توكَّلت وإليه أنيب وهو رب العرش العظيم.
أولاً: الضرورة وقضاياها بين القدماء والمحدَثِين:
آثَرت أن يكون حديثي هنا عن الضرورة الشعرية وقضاياها بين القدماء والمحدَثِين في شيءٍ من الإيجاز؛ وذلك لأنه من الأمور التي سبَق أن طرَقَها الباحثون، ووقوفنا عليها لأمرٍ تدعو إليه حاجتنا للقضية التي نحن بصددها، وهي ممَّا لم يُطرَق أو يُعالَج على نحو ما أنا بصدده في هذا البحث، وهو خصوصية القول حول حذف حروف المعاني للضرورة الشعرية، على ما سوف يتَّضح في إطار ما وضعت من تساؤلات حِيال هذا الأمر.
فالضرورة الشعرية في أقرب تعريفاتها: هي الخروج على القاعدة النحوية والصرفية في الشعر خاصة لإقامة الوزن وتسوية القافية.
وقد ذهب البعض إلى أنها تُعَدُّ رخصةً للشاعر، فهذا ابن رشيق القيرواني قد صرَّح بذلك حينما عقد في "عمدته" (باب الرخص في الشعر) وقال: "وأذكر ها هنا ما يجوز للشاعر استعماله إذا اضطرَّ إليه"[9].
وكذلك السيوطي؛ إذ جعل الحكم النحوي ينقسم "إلى رخصة وغيرها، والرخصة ما جاز استعماله لضرورة الشعر"[10].
على أن التعبير بالجواز ابتداءً من سيبويه يُشعِر بالترخيص في ذلك على ما سوف أوضحه - إن شاء الله - ويقول إبراهيم أنيس: "فليست الضرورات الشعرية إلا رخصًا مُنِحَتْ للشعراء حين ينظِمون"[11].
في الوقت الذي نجد من القدماء مَن يرفض الضرورة، وبالتالي لا يعدُّها رخصةً للشاعر على ما سنعرف ممَّا ورد في رأي ابن فارس وغيره.
ومن المحدَثِين مَن صرَّح برفض ما يُطلَق عليه رخصة، ومنهم رمضان عبدالتواب وهو بصدد حديثه عن (ضرورة الشعر والخطأ في اللغة) الذي يقول: "ويهمُّنا في نهاية هذا الفصل أن نؤكِّد أنه لا صحَّة لما يتردَّد على ألسنة القوم من أن الضرورة الشعرية رخصة للشاعر يرتكبها متى أراد؛ لأن معنى هذا الكلام: أن الشاعر يُباح له عن عمدٍ مخالفة المألوف من القواعد، وهو ما يتعارَض مع ما وصَل إلينا من أخبار الشعراء في القديم"[12].
ويُضِيف: "كما يهمُّنا أن نؤكِّد مرَّة أخرى أن هذه الضرورات التي أشرنا إلى أهمها هنا ليست إلا أخطاء في اللغة، وخروجًا على النظام المألوف في العربية، شعرها ونثرها... بدليل ورود الآلاف من الأمثلة الصحيحة لهذه الظواهر في الشعر نفسه"[13].
فالحديث عن الضرورة يقضِي بضرورة التعرُّض للقاعدة بمراحلها المختلفة؛ من استقراء وتقييم، وتجريد وتقعيد، وموقف النُّحَاة من كلٍّ منها حتى تصل إلى قانون عام تندرج تحته مجموعة من الجزئيات المشتَرَكة في الخصائص والسِّمَات، وتخرج عليه بعض الجزئيات الأخرى، والتي يَعُدُّ النُّحَاة بعضها شاذًّا والآخَر ضرورة، إلى غير ذلك ممَّا يتَّصل بالقاعدة.
فالاستقراء هو أوَّل مراحل القاعدة، وكان للنحاة موقفهم منه، وخاصة فيما يتَّصل بمصادر الاستشهاد؛ حيث ضيَّقوا على أنفسهم مصادر الاحتجاج والاستشهاد؛ فوقعوا نتيجةً لذلك في إصدار أحكامٍ بالشذوذ والندرة والضرورة، على ما كان منهم من تخريجهم لكثيرٍ من القراءات القرآنية على أبياتٍ عَدُّوها هم من ضرائر الشعر، وكان الواجب عليهم أن ينظروا إلى هذه الأبيات على أنها ليست من الضرورة؛ لورود الظواهر التي اشتَمَلتْ عليها في أفضل نص وأبلغه وهو القرآن الكريم، ومن الأمثلة على ذلك:
قراءة أبي عمرو بن العلاء[14] لقوله - تعالى -: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ ﴾ [البقرة: 54] بإسكان الهمزة.
تخرج على قول جرير[15]:
سِيرُوا بَنِي العَمِّ فَالأَهْوَازُ مَوْعِدُكُمْ
وَنَهْرُ تِبْرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقول امرئ القيس[16]:
فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
إِثْمًا مِنَ اللهِ وَلاَ وَاغِلِ
وكان الأولى ألاَّ يعد ما في هذين البيتين ضرورة؛ لورود مثله[17] في القراءة القرآنية، عملاً بالمبدأ الذي قرَّروه من جواز الاستشهاد بالقراءات صحيحها وشاذِّها؛ قال السيوطي: "وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذَّة لا أعلم فيه خلافًا بين النُّحَاة"[18].
فموقف النُّحَاة من مصادر الاستشهاد وموقفهم من القاعدة بوجهٍ عام ونظرتهم إليها على أنها قانون يجب أن يلتزِم به المتكلِّمون، ساعدت جميعًا على وجود ما أطلق عليه النُّحَاة أنه ضرورة شعرية، في حين أنه لو نظَر النُّحَاة إلى مصادر الاستشهاد نظرة موضوعية لا تختلف من اتِّجاه ذاتي إلى آخَر مطبِّقين الأصول التي حدَّدوها للاستشهاد، لَمَا كثرت هذه الضرورات تلك الكثرة التي تجعل جزءًا كبيرًا من اللغة خاضعًا لضغوط الوزن واضطرار القافية.
فهي عند سيبويه وإن لم يصرِّح بمصطلح الضرورة إلاَّ أنه اكتفى بتعبيرٍ يؤدِّي إلى معناه دون التصريح باللفظ، وذلك من خلال تناوله لبعض المسائل في "كتابه" من خلال الباب الذي عقَدَه في أوَّل "الكتاب" بعنوان: (باب ما يحتمل الشعر)؛ إذ يقول في أوَّله: "اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف يشبِّهونه بما ينصرف من الأسماء؛ لأنها أسماء كما أنها أسماء، وحذف ما لا يُحذَف يشبِّهونه بما قد حُذِف واستُعمِل محذوفًا"[19].
ويمضي في ذكر أبيات يستشهد بها إلى أن يقول: "وقد يبلغون بالمعتل الأصل، فيقولون رادِد في رادٍّ، وضَنِنُوا في ضنُّوا، ومررتم بجواري قبل"[20].
ثم يقول بعد ذلك: "وجعلوا ما لا يجري في الكلام إلا ظرفًا بمنزلة غيره من الأسماء، وذلك قول المرَّار بن سلامة العجلي[21]:
وَلاَ يَنْطِقُ الفَحْشَاءَ مَنْ كَانَ مِنْهُمُ
إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلاَ مِنْ سَوَائِنَا
وقال الأعشى[22]:
....................................
وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا
وقال خِطام المجاشعي[23]:
وَصَالِيَاتٌ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ
فعلوا ذلك لأن معنى سواء معنى غيرٍ، ومعنى الكاف معنى مثلٍ"[24].
ثم تناوَل بعض أنواع الضرورة بعد ذلك في "باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطرارًا"[25].
ولم يتناوَل سيبويه ضرورةَ الشعر منفصلة في غير هذه المواضع من "كتابه"، ولكن هناك بعض المواضع الأخرى التي تحدِّد موقفه من ضرورة الشعر؛ كقوله: "ولا يحسن في الكلام أن يُجْعَل الفعل مبنيًّا على الاسم، ولا يذكر علاقة إضمار الأول حتى تخرج من لفظ الإعمال في الأول، ومن حال بناء الاسم عليه ويشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه، ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام، قال أبو النجم العجلي[26]:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِيْ
عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
فهذا ضعيفٌ، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسِرُ البيت ولا يخلُّ به ترك إظهار الهاء، وكأنه قال: كُلُّهُ غير مصنوعٍ، وقال امرؤ القيس[27]:
فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ
فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرّْ
وقال النمر بن تولب[28]:
فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا
وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرّْ
سمعناه من العرب ينشدونه، يريدون: نُسَاءُ فيه ونُسَرُّ فيه.
وزعموا أن بعض العرب يقول: "شهرٌ ثَرَى، وشهر تَرَى، وشهر مرعى"[29]، يريد: تَرى فيه، وقال[30]:
ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ قَتَلْتُ عَمْدًا
فَأَخْزَى اللهُ رَابِعَةً تَعُودُ [31]
فمن هذه النصوص حدَّد العلماء رأي سيبويه في ضرورة الشعر[32].
قال أبو حيان: "يجوز للشاعر في الشعر ما لا يجوز في الكلام عند سيبويه بشرطِ الاضطرار إليه، ورَدِّ فرعٍ إلى أصلٍ، وتشبيه غير جائز بجائز"[33].
وقد انتهى ابن مالك في فهمه للضرورة إلى ما انتهى إليه سيبويه، فالضرورة عنده "ما لا مندوحة للشاعر عنه"[34].
ولم يسلم ما ذهب إليه ابن مالك بالرغم من سَبْقِ سيبويه إليه؛ إذ عرض لابن مالك وهاجَمَه عددٌ من المتأخِّرين منهم الشاطبي[35] وأبو حيان[36]، وكان ذلك لموقف ابن مالك من الاستشهاد بالحديث النبوي بالرغم من أن رأيه كان مماثِلاً لرأي سيبويه في الضرورة، فإن ذلك لم يمنع أبا حيان من أن يقول عنه: "لم يفهم ابن مالك معنى قول النحويين ضرورة في الشعر، فقال في غير موضع: ليس هذا البيت بضرورة"[37].
أمَّا ابن جني والجمهور فيرون: "أن الضرورة ما وَقَع في الشعر، سواء كان للشاعر فسحة أم لا"[38].
وقد حدَّد أبو حيان موقف ابن جني حينما قال[39]: "خلافًا لابن جني[40] في كونه لم يشترط الاضطرار، ووافَقَه ابن عصفور، قال: لأنه موضع قد ألفت فيه الضرائر، دليل ذلك قوله[41]:
كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلاَ
وَكَرِيمٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعَهْ
فَصَل بين (كم) وما أُضِيف إليه المجرور، وذلك ممَّا يختصُّ بجوازه الشعر، ولم يضطر إلى ذلك[42].
بل لقد ذهَب ابن عصفور إلى أن الشعر نفسه ضرورة، وإن كان يمكنه الخلاص بعبارة أخرى[43].
أمَّا الأخفش سعيد بن مسعدة فقد ذهَب مذهبًا مُغايِرًا لغيره من النُّحَاة في ضرورة الشعر؛ إذ نظَر إلى الشعراء على أنهم طبَقَة مختلِفة عن غيرهم، وينبغي أن يُباح لهم ما لا يُباح لسواهم، واعتَرَف بأن لهم تأثيرًا في الكلام العادي؛ حيث يتأثَّرون هم أولاً بما يقولونه في شعرهم، وتصبح تراكيب الشعر جارية على ألسنتهم في مخاطباتهم، وبالتالي يؤثِّرون في غيرهم ممَّن يخالطونهم أو يقلِّدونهم أو غير ذلك، فذهَب الأخفش إلى "أن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لم يجز لغيره"[44].
وربما كان الأخفش في ذلك متأثِّرًا بأستاذه الخليل بن أحمد الذي صرَّح بأن "الشعراء أُمَراء الكلام، يصرِّفونه أنَّى شاؤوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد مقصوره، وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلَّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقرِّبون البعيد، ويُبعِدون القريب، ويُحتَجُّ بهم، ولا يُحتَجُّ عليهم"[45].
فالظاهر من آراء الأخفش أنه كان يميل إلى التسمُّح وعدم التشدُّد، فإن ما يُجِيزه البصريون في ضرورة الشعر يُجِيزه الأخفش اختيارًا، وما يمنعه البصريون حتى في الضرورة يُجِيزه الأخفش في ضرورة الشعر، من مثل: مدِّ المقصور في الضرورة، فقد منَعَه البصريون مطلقًا، وأجازَه الأخفش في الضرورة، وتابَعَه على ذلك الكوفيون[46]، وكذلك منع المصروف في الضرورة حظَرَه البصريون مطلقًا في الضرورة، ولكن الأخفش يُجِيزه في الشعر دون اختيار الكلام[47].
فرأي الأخفش في نتيجته قريبٌ من رأي سيبويه، ولا عجب في ذلك فهو تلميذه، وهو الوارث الأوَّل لكتابه، وعنه انتَشَر في الناس وذاع، وعليه قُرِئ[48]، فضلاً عن أنه كان عالِمًا بلغات العرب[49].
أمَّا ابن فارس فكان له موقفه الذي يختلف عن غيره من النُّحَاة؛ فهو لا يكاد يعترف بما يسمِّيه النُّحَاة ضرورة، فالذي يأتي به الشاعر إمَّا أن يكون له وجه من العربية، وحينئذٍ لا يكون ضرورةً، وإمَّا ألاَّ يكون له وجهٌ منها، وعندئذ لا داعي للتكلُّف واصطناع الحِيَل للتخريج، ويكون مردودًا، ويسمَّى باسمه الحقيقي وهو الغَلَط أو الخَطَأ، قال: "وما جعَل الله الشعراء معصومين يوقون الخطَأ والغلَط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وما أبَتْه العربية وأصولها فمردود"[50].
فقد بيَّن ابن فارس رأيه في موضعين: أولهما ما ذكر، والآخر وهو قوله: "والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود ولا يمدُّون المقصور، أو يقدِّمون ويؤخِّرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون، ويُعِيرون ويستعيرون"[51].
فهذا القول يعبِّر عن مكانة الشعراء وقدرهم في الأدب والتصرُّف في اللغة، ولكن ابن فارس يعقِّب على ذلك بقوله: "فأمَّا لحن في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك"، ولا معنى لقول مَن قال[52]:
أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي
...........................
وهذا أمرٌ إن صَحَّ وما أشبهه من قوله[53]:
لَمَّا جَفَا إِخْوَانُهُ مُصْعَبَا
وقوله[54]:
قِفَا عِنْدَ مِمَّا تَعْرِفَانِ رُبُوعُ
فكلُّه غلطٌ وخطَأ"[55].
فهذا هو ابن فارس في رأيَيه اللَّذَين وقفنا فيهما على شيءٍ من التناقض، وعلى الجملة فهو يقسِّم ما عُرِف بالضرورة إلى ثلاثة: قسم يُباح للشعراء دون غيرهم، وقسم يتناوَلُه على أنه من خصائص العربية، وأنه مظهر من مظاهر الافتنان فيها، وقسم أخير يعده خطَأ وغلَطًا[56].
فالرأي في الضرورة الشعرية لم يكن خاضعًا لاتِّجاه من الاتِّجاهات الكبرى على ما هو معروف عن المدرستين البصرية والكوفية، وإنما كان نتيجة الاجتهادات الفردية التي تنبع أساسًا من سعَة الرواية والمواقف المختلفة من مصادر الاستشهاد والتقعيد والإلمام باللهجات والقراءات القرآنية على ما رأينا من آراء للخليل وسيبويه والأخفش وابن فارس وابن جني وابن عصفور وابن مالك وأبي حيان والسيوطي وغيرهم.
فاتِّجاه البصريين والكوفيين لم يكن من مفهوم الضرورة، وإنما كان في تطبيقه هذا المفهوم، ويرجع سبب ذلك الخلاف إلى موقف كلٍّ من الفريقين من بعض الأسس في التقعيد، ومن حيث كمية الشواهد التي تصلح أساسًا للقاعدة أو لا تصلح، وإلى الاختلاف في بعض مسائل القياس، وذلك على ما أورده الأنباري في "الإنصاف"[57].
فالنُّحَاة وإن كانوا قد اختلفوا في مفهوم الضرورة، فإنهم اتَّفقوا على ما سموه (على الضرورة) والتي حصَرُوها في أمرَين هما: الرجوع إلى الأصل، وتشبيه غير الجائز بالجائز، ولم يشذَّ أحدٌ من النُّحَاة عن جَعْلِ الضرورة الشعرية تدور في أحد هذين الإطارين؛ فهم لا يعبؤون بربط الضرورة بالموقف الشعري والمعاناة التي يقوم بها الشاعر في صياغة القصيدة؛ إذ جعلوها تدور في فلك القياس النحوي على الوجه الذي أرادوه، وكان مقتضى وصفهم لها بالضرورة أنها خارجة عن القياس[58].
ولا يخفى دور سيبويه في ذلك؛ فقد صرَّح في باب ما يحتمل الشعر وفي تناوله لمسائل أخرى من الكتاب أبان علة الضرورة، هي هذان الأمران السابقان، يقول عن الأصل: "وقد يبلغون بالمعتل[59] الأصل، فيقولون: رادِد في رادٍّ، وضَنِنُوا في ضنُّوا، ومررتم بجواريَ قبلُ؛ قال قَعْنَبُ بن أمِّ صاحب[60]:
مَهْلاً أَعَاذِلَ قَدْ جَرَّبْتِ مِنْ خُلُقِي
أَنِّي أَجُودُ لِأَقْوَامٍ وَإِنْ ضَنِنُوا
إلى غير ذلك ممَّا أورَدَه سيبويه من أمثلة في "كتابه"[61]، فهو يتَّجه إلى تعليل معظم الضرائر التي وردت في كتابه بعلل لا تخرج عن هاتين العلتين: الرد إلى الأصل، وتشبيه غير الجائز بالجائز، فضلاً عن شرط اضطرار الشاعر، وذلك من باب ما جاز في الشعر لا يُعَدُّ كاسرًا للقانون، ولكنه خاضِع للقواعد والأصول النحوية، وأن ما يحتمله الشعر مع أنه غير كاسر للقانون لا يحمل الكلام عليه؛ لأن الشعر موضع اضطرار[62].
وكذلك كان المبرد يرى أن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها[63]، وكثيرًا ما كان يصرِّح عقب شرحه لمسألةٍ من المسائل بقوله: "ولو اضطرَّ شاعر لرده إلى أصله كردِّ جميع الأشياء إلى أصولها للضرورة"[64].
حتى وإن لم يذكر شاهدًا على ذلك، فالملاحَظ أن كلَّ بيت أورَدَه المبرد في "المقتضب" من أجل الضرورة ذكر علَّته والتي لا تخرج عمَّا ورد عند سيبويه.
فالضرورة الشعرية لا تنحصر بعددٍ معيَّن على الرأي الصحيح[65].
يقول سيبويه: "وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره"[66].
ولا عبرة بما قاله أبو سعيد القرشي في أرجوزته حاصرًا الضرورة في مائة:
سَابِعُهَا ضَرُورَةٌ لِلشَّاعِرِ
فِي مائَةٍ مُبِيحَةِ الضَّرَائِرِ [67]
وذلك كما يقول الألوسي: "إن الضرورة بابها الشعر على قول الجمهور ومخالفيهم، وشعر العرب لم يُحِط بجميعه أحدٌ، فكيف يمكن حصر الضرائر بعددٍ دون آخر"[68].
فهناك فرق بين العدد والنوع، فالنوع تندرِج تحته أعداد جمَّة، ولذلك نجد أن نحاتنا القدماء لم يحفلوا ببيان عدد الضرائر، وإنما حفلوا بتصنيفها في أنواع.
ولعل المبرد هو أوَّل مَن خَصَّ الضرورة بكتاب منفرد؛ إذ يذكر صاحب "الفهرست" أن له كتاب "ضرورة الشعر"[69]، بَيْدَ أن هذا الكتاب قد ضاع فيما ضاع من تراث، فلسنا نعرف طريقة تقسيمه للضرورة فيه، ومَن وراء ذلك.
وأتَّفِق مع الدكتور حماسة عبداللطيف[70] في أن النُّحَاة قد سلكوا أربع طرائق في تقسيم الضرورة:
الأولى: تقوم على أساس الحذف والزيادة والتغيير[71].
والثانية: تقوم على أساس الحسن والقبح والتوسُّط بينهما[72].
والثالثة: تقوم على ما تفرَّق في كتب النُّحَاة عن الضرورة[73].
والرابعة: لا تقوم على أساس معيَّن[74].
فالضرائر ما بين صرفية ونحوية؛ فالصرفية في معظمها حول التغييرات المقطعية، فمنها ما يرمي إلى زيادة مقطع أو حذف مقطع أو إطالة مقطع قصير أو تقصير مقطع طويل، ولا يخفى ما يترتَّب على ذلك من تغيير في بنية الكلمة ذاتها، وهذا اللون هو الذي يُناسِب الشعر.
أمَّا الضرائر النحوية فهي على نوعين: لفظية ومعنوية، ولكلٍّ منها دورُه في الجملة، وقد جاءت متمثِّلة في الكثير من النواحي؛ فمنها ما كان في الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وما كان بالفصل بين التمييز والمميز، والفصل بين الجار والمجرور... إلى غير ذلك.
فكانت الضرورة مجالاً خصبًا وهي من موضوعات اللغة والنحو المهمة، ولهذا عرض لها علماء من العِلْمَين منذ القِدَم.
وأوَّل مَن تناوَل الضرورة في بحث مستقل - على حدِّ علمي - هو المبرد (ت 286هـ)، فقد ألف كتابًا سماه "ضرورة الشعر"، ذكَرَه ابن النديم[75].
واستقصى أبو سعيد السيرافي (ت 386هـ) في "شرح كتاب سيبويه" ضرورات الشعر، وما نُسِب إلى ابن جني (ت 293هـ) مجموع صغير بعنوان: "ضرورة الشاعر"، ولابن فارس اللغوي النحوي (ت 395هـ) رسالة بعنوان: "ذم الخطأ في الشعر"[76].
ثم جاء أبو عبدالله القزاز (ت 412هـ) وألف كتابه "ما يجوز للشاعر في الضرورة"[77]، قصَد فيه معالجة الضرورات النحوية، حيث لا يتَّسع له المجال لمعالجة موضوعات ما يُعاب في الشعر عامة.
وابن عصفور (ت 663هـ) وقد ألف كتابه: "ضرائر الشعر".
وما بسَطَه الشيخ محمد سليم بن حسين (ت 1138هـ) في كتابه الذي أسماه: "موارد البصائر والفرائد والضرائر"، والذي يُعَدُّ موسوعة في موضوعه، وقد استَقْصَى فيه ضرورات الشعر؛ ممَّا جعَلَه متفوِّقًا على كتابي (القزاز) و(الألوسي) حجمًا وموضوعات[78].
ثم ألَّف الألوسي كتابه: "الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر".
وقد جمَع أحمد تيمور (الضرورات الشعرية في المعاني) في مؤلفه: "أوهام الشعراء في المعاني"، وقد تناوَل فيه أوهام الشعراء الخُلَّص وأعرض عن المولَّدين، ولم يذكر من أوهامهم إلا بعضًا من أوهام أبي نواس وأبي تمام.
يُضاف إلى ذلك ما ورد عن الضرورة من أقوالٍ لدى القدماء في أماكن متفرِّقة من كتبهم، وبمسميات مختلفة على ما كان عند سيبويه حينما تحدث عنها في باب (ما يحتمل الشعر) وما قدَّمه الرماني والأعلم الشَّنْتَمَري وغيرهم، وكذا ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة"، وقد أفرَد فيه بابًا للرخص الشعرية.
ومثل هذا ما قدَّمه حازم القرطاجني في كتابه "مناهج البلغاء"، والسبكي في "عروس الأفراح"، والسيوطي في "الاقتراح"، وابن فارس في: "الصاحبي"، وابن جني في "الخصائص"، والزمخشري في أرجوزة له، وأبو سعيد القرشي في أرجوزته.
ثم يمتدُّ الاهتمام بالضرورة الشعرية حتى العصر الحديث لنجد هذه الدراسات والأبحاث التي عُنِيت بها، فكان التحقيق، وكانت الدراسات، ومن ذلك ما قدَّمه[79] الشيخ حمزة فتح الله، والأستاذ عباس حسن، والدكاترة: إبراهيم أنيس، وخديجة الحديثي، ومحمد عبدالحميد سعد، وعبدالعال شاهين، ومحمد حماسة عبداللطيف.
فهذا ما وقفت عليه؛ إذ لم أستطع استقصاء كل ما كتب عن الضرورة.
أَضِفْ إلى ذلك أنني كنت أعمد إلى الإيجاز والاختصار، وما عرضت لذلك إلا ليكون عونًا لي على ما قصدت، ولأؤكِّد على أن حذف حروف المعاني للضرورة الشعرية وهو عنوان هذا البحث لم تُفرَد له دراسةٌ على وجه الخصوص من قبل.
وهو ما سوف أعرض له فيما يلي إن شاء الله.
ثانيًا: حذف حروف المعاني للضرورة:
وفيما يلي يعرض البحث لمناقشة ودراسة حذف حروف المعاني للضرورة الشعرية، وذلك من خلال تقسيماتها التي وضَعَها اللغويون والنُّحَاة وهي: الأحادية، والثنائية، والثلاثية.
فالحروف الأحادية التي حُذِفت للضرورة هي: (الهمزة، والباء، والفاء، واللام: "لام الطلب ولام الجواب"، والنون: "نون التوكيد خفيفة وثقيلة، ونون الوقاية، ونونا التثنية والجمع"، وواو العطف).
وأمَّا الحروف الثنائية فهي: (أن الناصبة، وفي الجارة، ولا العاملة عمل ليس).
وأمَّا الحروف الثلاثية فهي: (إلى الجارة، وربَّ الجارة، وعلى الجارة).
وسوف أعرض لذلك على النحو التالي:
1 - الحروف الأحادية:
أ- حذف الهمزة:
يعبِّر عنها بعض النُّحَاة[80] بالألف المفردة، وتكون حرفًا من حروف المعاني إذا كانت للاستفهام أو النداء.
والتي تُحذَف للضرورة هي همزة الاستفهام، وهي من الحروف المشتَرَكة، وحذفها للضرورة عند أمْن اللبس هو ظاهر كلام سيبويه والمبرد، وقد نقل سيبويه[81] استشهاد الخليل بقول الشاعر:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ
غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ [82]
حيث سوَّى بينه وبين قولهم: "إنها لإبلٌ أم شاء".
أمَّا سيبويه، فيرى[83] جواز إرادة الاستفهام، وأن التقدير: أكذبتك، ثم استشهد لحذفها مرارًا بهاء الاستفهام للضرورة بقول الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا
شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ [84]
وبقول الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ [85]
وممَّن صرّح بأن حذفها في البيت للضرورة ابن أبي الربيع[86].
أمَّا أبو الحسن الأخفش فيرى جواز حذفها في السَّعَة مع (أم) وبدونها، ولا يجعله خاصًّا بالشعر، واستشهد[87] لذلك بقوله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 22]، وقد ردَّه النحاس[88] بأنها لا تُحذَف؛ لأنها حرف يحدث لمعنى إلا إن كان في الكلام (أم) فتحذف في الشعر.
ويرى[89] ابن مالك أن أقوى ما يُحتَجُّ به لقول الأخفش قول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لجبريل: ((وإن زنى وإن سرق))[90]، على تقدير: "أوَإِن زنى؟"، وجعل المرادي[91] حذف الهمزة إذا كان بعدها (أم) مطردًا في النثر والنظم، وجعل من النظم البيت السابق.
والخلاصة: أن همزة الاستفهام تُحذَف إذا دلَّت عليها (أم) المتَّصلة، ويكون ذلك الحذف خاصًّا بالشعر كما يرى سيبويه والخليل والمبرد وأبو جعفر النحاس، وابن أبي الربيع، أمَّا الأخفش فيرى حذفها في السَّعَة مع (أم) وبدونها، ويشترط المرادي لحذفها في الشعر والنثر أن تكون بعدها (أم).
ومن شواهد حذف الهمزة في الشعر قول الشاعر:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى البِيضِ أَطْرَبُ
وَلاَ لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ [92]
على تقدير: (أو ذو الشيب يلعب).
وممَّا يُحمَل على ذلك قوله:
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا
عَدَدَ القَطْرِ وَالحَصَى وَالتُّرَابِ[93]
على معنى: أتحبها، وخُرِّج على إرادة الخبر فيكون التقدير: (أنت تحبُّها) وهو أَوْلَى لعدم (أم)، وهو ما عبَّر عنه المبرد[94] بجعل (أم) دليلاً عليها.
ومن شواهد حذفها في الشعر أيضًا قول الشاعر:
أَلَيْسَ أَبِي بِالنَّضْرِ أَمْ لَيْسَ وَالِدِي
لِكُلِّ نَجِيبٍ مِنْ خُزَاعَةَ أَزْهَرَا [95]
ب- حذف الباء:
تُزاد الباء في فعل التعجب (أفْعِلْ به)، ولأن إسناد صيغة الأمر إلى الاسم الظاهر قبيح التزمت زيادة الباء في الفاعل؛ ليصحَّ على صورة المفعول به نحو (أحسن بزيد)[96].
وتُزاد الباء في فاعل الفعل القاصِر الذي هو (كفى) بمعنى (حَسْبَ)، ولكن زيادتها غالبةٌ[97] لا لازمة نحو: ﴿ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [الإسراء: 96]، وقال الزجاج[98]: إن دخولها لتضمُّن كفى معنى (اكتفِ).
أمَّا لزومها في فاعل (أفْعِلْ) في التعجب فهو مذهب سيبويه وجمهور البصريين[99]، كما ذكر صاحب "الجنى"، ويقول[100]: وهي لازمةٌ أيضًا على مذهب مَن جعَلَها زائدة مع المفعول، وهذه لا تُحذَف إلا مع (أنَّ) و(أنْ) كقول الشاعر:
وَقَالَ نَبِيُّ المُسْلِمِينَ تَقَدَّمُوا
وَأَحْبِبْ إِلَيْنَا أَنَّ تَكُونَ المُقَدَّمَا [101]
أمَّا حذف الباء مع غير (أنَّ) و(أنْ) فيكون للضرورة، ولعل منه قول الشاعر:
إِذَا مَا زَلَّ سَرْجٌ عَنْ مَعَدٍّ
وَأَجْدِرْ مِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا [102]
حيث جعَلَه[103] ابن مالك في أحد احتمالَيه على معنى التعجب، وأنَّ الباء قد حُذِفت من (مثل) اضطرارًا، وأنَّ مصحوبها قد استحقَّ الرفع على الفاعلية، لكنه بُنِي لإضافته إلى مبني، كما بُنِي[104] في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 23] على قراءة[105] النصب.
والفراء يُلزِمُ[106] مصحوبها بعد حذفها النصب، ومن ذلك هذا البيت المتقدم وكذلك قول الشاعر:
أَلاَ طَرَقَتْ رِحَالَ القَوْمِ لَيْلَى
فَأَبْعِدْ دَارَ مُرْتَحِلٍ مَزَارَا [107]
وقد ردَّه ابن مالك بقوله: "ولا حجَّة له في قول الشاعر... لإمكان جعل (أبعِد) دعاءً على معنى: أبعد الله دارَ مرتحلٍ... إلخ"[108].
فالفراء وابن مالك يريان حذفها مع غير (أنَّ) و(أنْ) للضرورة، ويختلفان في الحالة الإعرابية لمصحوبها بعد حذفها، فالفراء يرى لزوم النصب، وابن مالك يرى لزوم الرفع، وما تقدم في حذف الباء من الشواهد يمكن حملها على الضرورة إلا ما حُذِفت فيه مع (أنْ) - وهو الشاهد الأول في مبحث الباء - فلا يُحمَل على الضرورة؛ لأن هذا الحذف مطَّرد في السَّعَة، فكيف به في الشعر!
ج - الفاء:
المراد بالفاء هنا فاء الجواب، فإنها تُحذَف في ضرورة الشعر، وهو رأي سيبويه[109]، وقد رأى هذا الرأي من بعده: ابن جني[110]، وعبدالقاهر الجرجاني[111]، والمرادي[112]، وابن هشام[113]، وبدر الدين بن مالك[114]، ومن شواهدهم على ذلك يقول الشاعر:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلاَنِ [115]
وقول الشاعر:
فَأَمَّا القِتَالُ لاَ قِتَالَ لَدَيْكُمُ
وَلَكِنَّ سَيْرًا فِي عِرَاضِ المَوَاكِبِ [116]
أمَّا المبرد فقد اختلف النقل عنه في حذف الفاء؛ فقد نُسِب[117] إليه منعه حذف الفاء مطلقًا في النثر والشعر، وفي نقد المبرد لكتاب سيبويه ذكر[118] أن حذفها جائزٌ في الشعر على ضعفٍ، وذكر[119] في "المقتضب" أن البيت: "مَن يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ..." على حذف الفاء، وأن التقديم فيه لا يصلح كما هو رأي البصريين، وقد حكى[120] أبو زيد الأنصاري أن المبرد روى عن المازني عن الأصمعي أنه أنشدهم:
مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ فَالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ
................................
البيت.
قال[121]: فسألته عن الرواية الأولى[122] فذَكَر أن النحويين صنعوها.
وهناك رأي ثالث للمبرد ذكَر[123] المرادي أنه نُقِلَ عنه ولم يسمِّ الناقل ولم أجده في آثاره، وهو إجازته حذف الفاء في الاختيار.
ومن شواهد حذف الفاء للضرورة قول الشاعر:
بَنِي ثُعَلٍ لاَ تَنْكَعُوا العَنْزَ شِرْبَهَا
بَنِي ثُعَلٍ مَنْ يَنْكَعِ العَنْزَ ظَالِمُ [124]
على إرادة (فهو ظالم).
وقد جعل[125] المبرد من شواهد حذف الفاء قول الشاعر:
وَإِنِّي مَتَى أُشْرِفْ عَلَى الجَانِبِ الَّذِي
بِهِ أَنْتِ مِنْ بَيْنِ الجَوَانِبِ نَاظِرُ [126]
على تقدير: (فأنا ناظر)، ويرى البصريون[127] أنه على إرادة الفاء ويصلح أن يكون عندهم على التقديم؛ أي: (وإني ناظرٌ متى أُشرف).
أمَّا الأخفش فيرى[128] جواز حذفها في الاختيار؛ كقوله - تعالى -: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ﴾ [البقرة: 180]؛ أي: فالوصية، فهو بهذا يُجِيز حذفها في الشعر، ولا تحمل عنده على الضرورة قياسًا على إجازته حذفها في النثر.
وقد جعل بدر الدين[129] ابن مالك من شواهد حذفها قول الشاعر:
وَمَنْ لاَ يَزَلْ يَنْقَادُ لِلْغَيِّ وَالهَوَى
سَيُلْفَى عَلَى طُولِ السَّلاَمَةِ نَادِمَا [130]
وهو يُوجِبها[131] في النثر ولا يحذفها، إلا في الضرورة.
د- حذف اللام:
1- لام الطلب:
ذهب الجمهور[132] إلى أنَّ هذه اللام لا تُحذَف إلا في ضرورة الشعر كقوله:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ
إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيْءٍ تَبَالاَ [133]
وقوله:
فَلاَ تَسْتَطِلْ مِنِّي بَقَائِي وَمُدَّتِي
وَلَكِنْ يَكُنْ لِلخَيْرِ مِنْكَ نَصِيبُ [134]
وهذا الرأي أصحُّ الآراء الأربعة التي وردت[135] في حذف هذه اللام: أولها: جواز حذفها مطلقًا بعد لام الأمر في الشعر والنثر وهو رأي الكسائي[136]، وجعل منه قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ ﴾ [إبراهيم: 31]؛ أي: ليقيموا، وثانيها: أنَّ حذفها لا يجوز مطلقًا لا في شعرٍ ولا نثر، وهو رأي المبرد[137]، وثالثها: وهو الذي قدَّمناه في هذا المبحث، وهو رأي الجمهور الذي يقضي بجواز حذفها في ضرورة الشعر، وقد صحَّحه المتأخِّرون[138]، وجعلوا الجزم في الآية التي استشهد بها الكسائي على أنه جواب الأمر أو جواب شرط محذوف.
ورابعها: جواز حذفها في الاختيار بعد قولٍ ولو كان غير أمرٍ، ولا يجوز في غيره إلا ضرورةً، ومنه الشاهد المتقدم:
فَلاَ تَسْتَطِلْ مِنِّي بَقَائِي...
.........................
البيت.
ومع أن بدر الدين بن مالك قد اختار[139] لزومها في النثر وجواز حذفها في الشعر، إلاَّ أنه لم يجعل منه على سبيل الضرورة قول الشاعر:
قُلْتُ لِبَوَّابٍ لَدَيْهِ دَارُهَا
تَأْذَنْ فَإِنِّي حَمْؤُهَا وَجَارُهَا [140]
لإمكانه قول: (إيذن)، لكنه آثَر الجزم باللام المحذوفة، ومثله قول الشاعر:
عَلَى مِثْلِ أَصْحَابِ البَعُوضَةِ فَاخْمُشِي
لَكِ الوَيْلُ حُرَّ الوَجْهِ أَوْ يَبْكِ مَنْ بَكَى [141]
فليس ذلك عنده بالضرورة؛ لإمكان الشاعر أن يقول: وليبكِ ما بكى، مع استقامة الوزن، في حين أنَّ هذا الشاهد من شواهد النُّحَاة على الحذف اضطرارًا، كما ذكر المبرد[142].
وقد نقل المراديُّ في "الجنى"[143] اضطراب موقف ابن مالك من حذف هذه اللام ما بين "التسهيل"، و"شرح الكافية".
ومن شواهد حذفها للضرورة عند النُّحَاة قول الشاعر:
فَمَنْ نَالَ الغِنَى فَلْيَصْطَنِعْهُ
صَنِيعتَهُ وَيَجْهَدْ كُلَّ جَهْدِ [144]
وقول الشاعر:
مَنْ كَانَ لاَ يَزْعُمُ أَنِّي شَاعِرٌ
فَيَدْنُ مِنِّي تَنْهَهُ المَزَاجِرُ [145]
وجعَل[146] الفرَّاء من ذلك قول الشاعر:
فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُ فَإِنَّ أَنْدَى
لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ [147]
وليست هذه هي الرواية المشهورة في البيت، إذ المشهورة:
فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُوَ إِنَّ أَنْدَى
................................
ويستشهِد به النُّحَاة ومنهم سيبويه[148] على النصب بأن مضمرةً.
2- لام الجواب:
المقصود بالجواب هنا جواب القسم، ويُستشهَدُ لحذف اللام من (لأفعلنَّ) للضرورة بقول الشاعر:
وَقَتِيلِ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ فَإِنَّهُ
فَرِغٌ وَإِنَّ أَخَاكُمُ لَمْ يُثْأَرِ [149]
على تقدير: (لأثأرنَّ).
وقد استشهد[150] ابن مالك لما حذفت منه اللام بقول الشاعر:
وَهُمُ الرِّجَالُ وَكُلُّ مَلْكٍ مِنْهُمُ
تَجِدَنَّ فِي رَحْبٍ وَفِي مُتَضَيَّقِ [151]
3- لام الجرِّ:
ممَّا حذفت فيه لام الجر للضرورة قول الشاعر:
أَبِالمَوْتِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ
مُلاَقٍ لاَ أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي [152]
وقد أفاضَتْ كتب النحو واللغة في الحديث عن هذا الشاهد.
هـ- حذف النون:
1- نون التوكيد:
(الأولى): نون التوكيد الخفيفة:
قد تُحذَف نون التوكيد الخفيفة للضرورة؛ لسكونها وسكون ما بعدها، كقول الشاعر:
لاَ تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ
كَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ [153]
وهناك[154] مَن يرى أنَّ حذفها في البيت واجب للتخلُّص من التقاء الساكنين، وقد تُحذَف[155] للضرورة وإن لم يكن بعدها ساكن كقول الشاعر:
اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا
ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسَ [156]
على تَوَهُّم الساكن، والحذف ظاهرٌ بأنه للضرورة لا كسابقه.
وقد ذكر صاحب "النوادر"[157] أن هذا البيت مصنوع.
ومن ذلك ما رواه الجاحظ[158]:
خِلاَفًا لِقَوْلِي مِنْ فِيَالَةِ[159] رَأْيِهِ
كَمَا قِيلَ قَبْلَ اليَوْمِ خَالِفَ تُذْكَرَا [160]
والأصل: (خالفن) والضرورة في حذفها ظاهرةٌ لعدم الساكن بعدها، وقد رُوِي البيت بإسكان الفاء من (خالف) وعليه فلا شاهدَ فيه ولا ضرورة.
ومثل ذلك في حذفها للضرورة ما أنشده أبو بكر بن دريد:
إِنَّ ابْنَ أَحْوَصَ مَغْرُورٌ فَبَلِّغَهُ
فِي سَاعِدَيْهِ إِذَا رَامَ العُلاَ قِصَرُ [161]
على تقدير: فبلغنه.
والضرورة ظاهرة؛ إذْ حُذِفت النون ولم يلقها ساكن ومثله قوله:
يَا رَاكِبًا بَلِّغَ إِخْوَانَنَا
مَنْ كَانَ مِنْ كِنْدَةَ أَوْ وَائِلِ [162]
على تقدير (بلِّغن إخواننا، فحَذَفَه مع عدم الساكن ممَّا يسوِّغ الحمل على الضرورة.
ومن ذلك ما أنشده[163] أبو زيد في "النوادر":
مِنْ أَيِّ يَوْمَيَّ مِنَ المَوْتِ أَفِرّْ
أَيَوْمَ لَمْ يُقْدَرَ أَمْ يَوْمَ قُدِرْ؟ [164]
حيث حذف النون الخفيفة من الفعل يقدر في "لم يقدرَ"، وحذفها عند بعض العرب للضرورة، وعند قوم على النصب بلم[165]، وعند ابن جني[166] أنَّ المراد: (أيوم لم يقدرْ أم يوم قدرْ)، ثم خفَّف همزة (أم) ثم حذفها وألقى حركتها على راء (يقدر) فصار تقديره: (أيوم لم يُقْدِرَمْ) ثم أشبع فتحة الراء فنشَأَت عنها ألفٌ حرَّكَها لالتقاء الساكنين فنشَأَت عنها همزة.
وفي حذف نون التوكيد الخفيفة شذوذان[167]: توكيد المنفيِّ بـ(لم)، وحذف النون لغير وقفٍ ولا ساكنين، وهذا ما يسوِّغ حمله على ضرورة الشعر.
(الثانية): نون التوكيد الثقيلة:
جعَل ابن هشام[168] من حذفها ضرورةً قول الشاعر:
فَلاَ وَأَبِي لَنَأْتِيهَا جَمِيعًا
وَلَوْ كَانَتْ بِهَا عَرَبٌ وَرُومُ [169]
وقول الآخر:
تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حِلْفَةً لِيَرُدَّنِي
عَلَى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَائِدُ [170]
ولم يجعله الفارسي[171] والكوفيون من الضرورة لجوازه في الاختيار.
2- نون الوقاية:
تُحذَف نون الوقاية للضرورة في سبعة ألفاظٍ هي: (فعل التعجب)، و(ليس) و(ليت) و(قد) و(قط)، و(مِنْ) و(عن)[172].
وقد خالَف بعض النُّحَاة في حذفها للضرورة في بعض هذه الألفاظ، فجوَّز[173] الكوفيون حذفها من فعل التعجب في السَّعَة؛ لشبهه بالاسم من حيث إنه لا يتصرَّف، وجوَّزه[174] قومٌ في (ليس)، وأجازه الفراء[175] في (ليت)، وأجازه البدر[176] بن مالك[177] بكثرةٍ في (قد) و(قط) وأجازه الجزولي[178] في (من) و(عن).
ويرى سيبويه[179] أنَّ حذفها مع (لدن) من ضرورات الشعر، وقد تبعه على هذا بعض النُّحَاة كالجزولي[180] وغيره، ويرد[181] على سيبويه ومن تابعه بقراءة[182] نافع: ﴿ مِنْ لَدُنِي عُذْرًا ﴾ [الكهف: 76] بالتخفيف.
ومن شواهد حذف نون الوقاية للضرورة قول الشاعر:
كَمُنْيَةِ جَابِرٍ إِذْ قَالَ لَيْتِي
أُصَادِفُهُ وَأَفْقِدُ بَعْضَ مَالِي [183]
وقول الشاعر:
فَيَا لَيْتِي إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ
وَلَجْتُ وَكُنْتُ أَوَّلَهُم وُلُوجَا [184]
وقول الشاعر:
أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْهُمْ وَعَنِي
لَسْتُ مِنْ قَيْسٍ وَلاَ قَيْسُ مِنِي [185]
وقول الشاعر:
قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي[186]
حيث حذفت نون الوقاية في البيت من (قد) الثانية.
وقول الشاعر:
إِذْ ذَهَبَ القَوْمُ الكِرَامُ لَيْسِي[187]
وبعض[188] النُّحَاة جعَل من حذف نون الوقاية للضرورة قول الشاعر:
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا
يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إِذَا فَلَيْنِي [189]
وبعضهم[190] يجعل المحذوف نون الإناث.
3- نونا التثنية والجمع:
من مواطن حذف نوني التثنية والجمع حذفهما لضرورة الشعر، أمَّا الكسائي فيجوِّز[191] حذفهما في السَّعَة، وقد نسب السيوطي في "الهمع"[192] لأبي حيان قوله: ويشهد له - أي: للكسائي - ما سمع: بيضتك ثنتا، وبيضي مايتا، أي: ثنتان ومايتان.
ومن شواهد حذفهما للضرورة قول الشاعر:
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٌ وَمِنَّةٌ
وَإِمَّا دَمٌ وَالقَتْلُ بِالحُرِّ أَجْدَرُ [193]
على رفع "إسار ومنَّة"، ويُروَى بجرِّ "إسارٍ ومنَّةٍ" على الإضافة وفصَل بين المتضايفين، قال ابن هشام في تعليقه على الشاهد: "فلا ينفكُّ البيت عن الضرورة"[194]، وتَبِعَه على ذلك البغدادي في "الخزانة"[195]، وهما يريدان على الروايتين.
ومن حذف نون المثنى للضرورة قوله:
لَهَا مَتْنَتَانِ، خَظَاتَا، كَمَا
أَكَبَّ عَلَى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ [196]
على أنه أراد تثنية "خظاة" فحذف النون للضرورة وهو ما نسَبَه[197] ابن يعيش إلى الفرَّاء وهو محلُّ الشاهد، والرأي الآخَر أنه من (خظا)؛ بمعنى: ارتفع، حُذِفت الألف لالتقاء الساكنين - الألف والتاء بعدها - فلمَّا تحرَّكت التاء للحاق ألف الضمير بعدها أُعِيدت الألف الساقطة ضرورةً.
ومن حذف نون المثنى ضرورة قول الشاعر:
لَنَا أَعْنُزٌ لُبْنٌ ثَلاَثٌ فَبَعْضُهَا
لِأَوْلاَدِهَا ثِنْتَا وَمَا بَيْنَنَا عَنْزُ [198]
ويرى ابن عصفور[199] أنَّ حذف نون المثنى للضرورة قليل جدًّا.
ومن ذلك قول الشاعر:
قَدْ سَالَمَ الحَيَّاتُ مِنْهُ القَدَمَا[200]
برواية نصب "الحيات" وقد عزاها ابن جني[201] للكوفيين، فيكون (القدمان) فاعلاً حُذِفت نونه للضرورة كما حُذِفت من قوله: "هما خطتا إمَّا إسار"، كما قال ابن مالك[202].
ومن حذف نون المثنى ضرورة قوله:
أَقُولُ لِصَاحِبِي لَمَّا بَدَا لِي
مَعَالِمُ مِنْهُمَا وَهُمَا نَجِيبَا [203]
على إرادة (نجيبان).
ومن حذف نون الجمع للضرورة كقوله:
لَوْ كُنْتُمُ مُنْجِدِي حِينَ اسْتَعَنْتُكُمُ
لَمْ تُعْدَمُوا سَاعِدًا مِنِّي وَلاَ عَضُدَا [204]
على إرادة (مُنْجدِينَ)، ولكنه حذف نون الجمع للضرورة.
وأمَّا قوله:
رُبَّ حَيٍّ عَرَنْدَسٍ ذِي طَلاَلٍ
لاَ يَزَالُونَ ضَارِبِينَ القِبَابِ [205]
فقد اختُلِف فيه: فعلى رواية (ضاربين) لا شاهد فيه، وأمَّا على رواية (ضاربي للقباب) فيحتمل حذف نون الجمع للضرورة، وأمَّا رواية (ضاربي القباب) فالوزن لا يستقيم معها.
و- واو العطف:
جعل ابن هشام حذف الواو العاطفة من باب الضرورة، حيث قال[206]: "بابه الشعر"، مستشهدًا بقول الشاعر:
إِنَّ امْرَأً رَهْطُهُ بِالشَّامِ مَنْزِلُهُ
بِرَمْلِ يَبْرِينَ جَارًا شَدَّ مَا اغْتَرَبَا [207]
على تقدير: "ومنزله برمل يبرين".
وممَّا حُذِفت فيه الواو العاطفة في الشعر قول الشاعر:
لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارَا
شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا[208]
على تقدير: (وكنت)، وهناك مَن قدَّرها: (فكنت)[209]، فيكون المحذوف الفاء العاطفة.
2- الحروف الثنائية:
أ- (أن) الناصبة:
يرى جمهور البصريين[210] أنها تُحذَف من خبر "عسى" في ضرورة الشعر، ويستشهدون لذلك بقول الشاعر:
عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فِيهِ
يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ [211]
وظاهر كلا