أولاً: الفخر:
الفخر من أول فنون الأدب تأثيرًا على فطرة الإِنسان، ويكون بتعداد الصفات الكريمة لمن يفخر وتحسين السيئات منها.. ونراه يرتبط غالبًا بالشجاعة، والكرم، والوفاء، والحلم، وعراقة الأصل، وحماية الجار والنزيل، ومنع الحريم.. والفخر من نتاج العاطفة الجياشة الصادقة، والانفعال القوي. ومن هنا لا يلتزم الفخر بالحقائق التاريخية، بل يعمد إِلى المبالغة والتهويل، وإِطلاق الخيال الخصيب.. وتنطلق فيه الألفاظ والعبارات موافقة له، مطابقة لمقتضى حاله، مشتدة بشدته.
في الجاهلية:
كان هناك الفخر الذاتي، وفيه يفخر الشاعر بنفسه، قاصرًا فخره عليها، غير ملتفت لسواه. وكان هذا النوع من الفخر كثيرًا جدًا، وقد نبت تلقائيًا من نفوس تهوى العزة، وتعشق المجد.. وكانت أسواق العرب مثل سوق ((عكاظ)) تبسط أمامهم ميادين القول والمفاخرة.. كذلك كانت لهم مجالسهم يجتمعون فيها لمناشدة الأشعار، ومبادلة الأخبار.. والشاعر لسانهم والذائد عنهم، والشعر ديوانهم، وكان البيت يرفع القبيلة، ويشيد بذكرها، ويعلي من شأنها، كذلك كان الشعر، وكان الشاعر، وكانت الأسواق والمجالس.
وإِلى جانب الفخر الذاتي وُجد الفخر الاجتماعي.. وفيه يتغنى الشاعر بأمجاد قومه، ويشيد بمنعتهم وعزتهم، ويسجل مفاخرهم مباهيًا بها.
يقول: ((عنترة)):
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني، وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هنا شعر قوي، وتصوير دقيق، وعاطفة صادقة.
وإِليك نموذجًا آخر ((للفند الزماني)) يقول فيه:
فلما صرح الشر
فأمسى وهو عريان
مشينا مشية الليث
غدا، والليث غضبان
يضرب فيه نوهين
وتخضيع وإِقران
وطعن كفم الزق
غدا، والزق ملآن
فهذا شيخ جاهلي، جال في الحرب جولات وجولات، وكان السيف بساعده نصيرًا، ونراه حتى في كبره يلبي دعوة الحرب، فكان في شعره حكمة الشيوخ، وفي سيفه صرامة البطولة، بطولة يد مع بطولة لسان.
وفي شعر المعلقات كثير من هذا اللون، يصور المعارك ويحمس الأبطال، ويثبتهم في ميادين القتال.
دواعي الحماسة في الإِسلام:
جاءت رسالة الإِسلام ترسم للعرب مثلاً عليا جديدة في التشريع وسائر نواحي حياتهم، موجهة لهم إِلى الخير.. فجعلت باعث البطولة ليس السلب والنهب والإِغارة حتى على الأخ، بل هو الجهاد والقتال في سبيل الله، وفي سبيل نشر دينه العظيم. فمن انتصر فرح بالفوز، ومن استشهد فاز بجنات النعيم، وله إِحدى الحسنيين.
وقد واكب شعر الحماسة هذه الغاية وسايرها.
من ذلك قول الشاعر الإِسلامي البطل ((عمير بن الحمام)) الأنصاري:
ركضا إِلى الله بغير زاد
إِلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
ولما صرع ((علي)) بن أبي طالب ((عمرو بن عبد ود)) صاح عليّ منشدًا:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرت دين محمد بضراب
لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب
وكان شعار المسلم: اطلب الموت توهب لك الحياة.
ويقول ((عبدالله بن رواحة)) يستثير نفسه ويحميها ويدفعها إِلى الضرب والطعان:
يا نفس إِلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد لقيت
وما تمنيت فقد أُعطيت
وإِن تأخرت فقد شقيت
فلم يصور الأبطال وحدهم بطولاتهم في غزوات الرسول الكريم والدفاع عن الإِسلام والذود عنه، فقد كان يشركهم الشعراء من حولهم، وشهرة شاعر الأنصار ((حسان بن ثابت)) لا يحتاج إِلى دليل.
ولقد شاركت المرأة المسلمة في الجهاد بسيفها ولسانها، مثل ((الخنساء)) التي حمّست بنيها الأربعة، ومثل ((أم حليم)) البطلة التي صالت وجالت، وارتجزت:
أحمل رأسًا قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله؟!
وهي صورة رائعة للبطولة.
وما أحسن قول ((قطري بن الفجاءة)):
أقول لها وقد طارت شعاعًا
من الأبطال ويحك لن تراعي
فإِنك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرًا في مجال الموت صبرًا
فما نيل الخلود بمستطاع
فهذا الشعر يفيض ببسالة قوية لا تعرف ضعفًا ولا فتورًا ولا ترددًا، صدر عن نفس لا تعرف الهلع ولا النكوص.
فالحماسة الإِسلامية هادفة تريد خدمة الدين الحنيف ونصرته، وليست ظالمة ولا معتدية، بل تستمد قوتها من الدين الحنيف الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. ومن هنا ترى: أن الإِسلام صحح مسيرة الحماسة وجعلها في سبيل الله.
وبذلك انتصر المسلمون وزلزلوا أعداءهم، وكان الواحد منهم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع عليه الموت، إِنها القوة: قوة سنان، وقوة بيان.
دواعي الحماسة في العصر العباسي:
دار شعر الحماسة في ذلك العصر حول وصف تعبئة الجيوش وطريقة زحفها، ووصف أسلحتها وخيلها وأساطيلها، ويسجل انتصاراتها وهزيمة عدوها.
ونراهم يمزجون الحكمة بالتصوير الفني، ويهولون ويبالغون في التصوير، من ذلك وصف ((أبي تمام)) فتح ((عمورية)):
يا يوم وقعة عمورية انصرفت
عنك المنى حفلا معسولة الحلب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى
يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
عن لونها، أو كأن الشمس لم تغب
فهذا صوت قوي، وعاطفة جياشة، تمتزج بالحقيقة الناصعة، وفي الألفاظ ضخامة تناسب ضخامة الموقعة.. والأبيات في النص كتائب حربية، وصلصلة سيوف وقعقعة رماح.
وهذا ((المتنبي)) يصف المعارك ضد الروم، وقد كانوا جمعوا الجموع فلم تغن عنهم شيئًا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كُلمَى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
وصار إِلى اللبات والنصر قادم
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة
كما نُثرت فوق العروس الدراهم
فهنا تصوير رائع للبطولة وللمعارك يدل على عشق المتنبي للطعن والنزال، وحبه للقتل والقتال.. فهما في رأيه عرس المجد وزفافه، وما القتلى إِلا الدراهم التي نثرت على العروس، فهذا غناء صدر عن قلب عربي شاعر، عاش يمجد البطولة والأبطال.
وقد أدى الشعر الحماسي دوره في وصف المعارك بين المسلمين وأعدائهم، يتغنى بكل نصر، ويشيد بكل بطولة.
وأصدق مثال على ذلك شعر ((الحسن الجويني)) يهنئ ((صلاح الدين الأيوبي)) بالنصر على الصليبيين:
هذي الفتوح فتوح الأنبياء وما
لها سوى الشكر بالأفعال أثمان
لو أن ذا الفتح في عهد النبي لقد
تنزلت فيه آيات وقرآن
هذه ومضات خاطفة من شعر البطولة والحماسة، وأدبنا العربي غني بهما، وما نسوقه على سبيل المثال.
في العصر الحديث:
وفي العصر الحديث كانت المقاومة للمستعمر الغاصب، وكانت التضحيات المتلاحقة التي زلزلت أقدامه وأجلته عن ترابنا العربي.. وهاك مثالاً للبطولة والتضحية، والبذل الصادق والفداء، من شعب آمن بحقه فطهر أرضه من دنس المستعمر، وكان أبطاله مثلاً أعلى في التضحية، ومنهم البطل الشهيد ((عمر المختار)). هذا الشعب هو شعب الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية.
وما أحسن قول ((شوقي)) في البطل عمر المختار:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء
يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويلهم نصبوا منارًا من دم
يوحي إِلى جيل الغد البغضاء
جرح يصيح على المدى وضحية
تتلمس الحرية الحمراء
ولقد نهض الوادي الكبير، وحرر بلاده وطهرها، وحق له أن يفخر بماضيه المجيد وحاضره السعيد.
والمتتبع لمسيرة الفخر يرى أنه يكاد يختفي منه اللون الذاتي الفردي، وأصبح فخرًا كليًا اجتماعيًا.
إِن الفخر ساير حركات التحرر، وانتفاضات البلاد، وانبعث تلقائيًا غنوة للأحرار.
ونختتم هذه الجولة القصيرة بفخر ((الشيخ أحمد الشارف)) بأبناء قومه:
دعاهمو الوطن الغالي فما بخلوا
وأبخل الناس من يُدعى ولم يُجب
ليوث غاب إِذا ما ضويقوا وثبوا
وأي ليث لدفع الضيق لم يثب
لهم نفوس إِذا حركتها اضطرمت
بعد السكون اضطرام الماء في اللهب
لا غرو أن يدّعى الليبي أن له
ما للعروبة من مجد ومن حسب
لديه من لغة القرآن معجزة
تلوح كالدر والياقوت والذهب
وهو شعر صادق العاطفة، سهل اللفظة، حسن التصوير، نابع من حب عميق لبلاده.
ثانيًا: الحماسة:
الحماسة أحد الأغراض الناشئة عن الصراع الدامي بين القبائل العربية، يثيرها ويحركها التنافس على القوة والغلبة والمنعة.
دواعي الحماسة في الجاهلية:
للشعر الحماسي في الجاهلية دواع كثيرة منها:
1- قسوة الحياة وشدة مخاطرها بالنسبة لهم.. فهنا يرتحل العربي من مكان إِلى آخر طلبًا للماء، وانتجاعًا للكلا، ولا يحصل عليهما إِلا بعناء ومشقة، فإِذا جاء غريب وزاحمه فيهما كان هناك الكر والفر، والجلاد والصراع، ثم بعد ذلك الثأر، ولقاء الأبطال بالأبطال، ولقاء الكلمات بالكلمات.
2- كذلك نرى البدوي شديد الحفاظ على الشرف وعلى الجار، فإِن تعدى عليهما معتد أوقد نار الحرب والقتال، وأذكى بذلك القرائح، وفاض الشعر هدارًا.
من ذلك نرى أن كل ما كان داعيًا إِلى إِثارة الحرب كان بدوره داعيًا لقول شعر الحماسة. وكانت هناك أيام العرب (وما أكثرها) من أهم أسباب الشعر الحماسي.
وفي هذا الشعر تصوير للمعارك حية نابضة بأبطالها وخيلها وسيوفها وأناشيدها، ووصف لأبطالها بالشدة والشجاعة والبأس ورجاحة العقل في الكر والفر، والحيلة في مواقف الشدة، والعف عند المغنم.. كل ذلك في دقة وحسن تصوير، وصادق عاطفة.
وإِننا نجد أن الأخلاق والعادات التي فخر بها العربي كانت ثمرة ونتاجًا للبيئة التي عاش فيها. ومن وحيها.. فخروا بالشجاعة؛ لأنهم في قسوة الحياة وشدتها عليهم لا تقيهم غير السواعد القوية والقلب الجريء.
كذلك فخروا بالبذل والعطاء؛ لأن حياتهم معرضة لقسوة السماء والأرض، فكان للكرم أثره الشديد بينهم.
ومالوا إِلى الحلم والإِباء والشرف، وتغنوا بإِبائهم وترفعهم عن الدنيا؛ لأن حياة البادية حياة فطرة وصفاء طبيعة.. كذلك تمسكوا بكلمة الشرف قانونًا لحياتهم.
وكان الوفاء عندهم من أقدس الأمور نظرًا لحياة التنقل والارتحال، وتغنوا بالفروسية؛ لأن فيها حماية للبائسين ونجدة للمستضعفين.
وهاك نموذجًا للفخر الذاتي في شعر ((عنترة)):
أثنى عليّ بما علمتِ فإِنني
سمح مخالقتي إِذا لم أُظلم
فإِذا ظُلمت فإِن ظلمي باسل
مر مذاقه كطعم العلقم
هلا سألت الخيل يابنة مالك
إِن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى، وأَعِف عند المغنم
لقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
فهنا نرى ((عنترة)) العبسي يفخر بنفسه، ويوجه شعره إِليها، ويتغنى بفروسيته، مطالبًا ابنة عمه بأن تتأكد منها بسؤال الخيل عنه إِن كانت تجهل بطولته، فلتثن على خلقه السمح الكريم الأبي، فهو فارس الملحمة البطل القوي، وهو العف عند المغنم، الفرح بحاجة قومه إِليه ليفرج عنهم شدتهم.
فشعره كما ترى، يدور حول نفسه فقط، وهو يتغنى بغناء كل عربي: بالشجاعة، والبطولة، والكرم، وعفة النفس.
بينما نجد شاعرًا آخر، وهو: ((المرقش الأكبر)) يفخر بقومه وسبقهم إِلى تحقيق الغايات المحمودة الكريمة.. فهم جميعًا أبطال كرام، متفردون، ذوو مروءة.. يقول:
إِنا لنُرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
شعثٌ مفارقنا، تغلي مراجلنا
نأسو بأموالنا آثار أيدينا
ونركب الكُره أحيانًا فيفرجه
عنا الحفاظ وأسياف تواتينا
فالمرقش لا يلتفت إِلى نفسه، وإِنما يتغنى بأمجاد قبيلته، ويعدد مفاخرها، وهو فرد منها، يناله ما ينالها.
من هنا نرى أن البيئة الطبيعية تركت آثارها البارزة في ملامح الشخصية العربية في العصر الجاهلي. ويتضح كذلك أن موضوعها هو الأخلاق العربية التي كانوا يعتزون بها، وهي مستوحاة من حياتهم.
في العصر الإِسلامي والأموي:
وتعدى الفخر العصر الجاهلي إِلى سائر العصور الأدبية، ونراه في العصر الإِسلامي والأموي ممتزجًا بفكرة الفتح، وبالحماسة الحربية الدينية، وبما يؤديه الأبطال في سبيل نصرة الدين الحنيف. كقول ((النابغة الجعدي)):
بلغنا السماء بجدنا وجدودنا
وإِنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ولا خير في حلم إِذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إِذا لم يكن له
حليم إِذا ما أورد الأمر أصدرا
ومثل هذا الفخر لا يختلف عن سابقه في العصر الجاهلي، إِلا في مصدره الديني، وصبغته الدينية الجديدة، وخروجه عن حدود الفردية والقبلية الضيقة المتعصبة، إِلى آفاق الإِسلام السمحة الرحبة.
في العصر العباسي:
وفي العصر العباسي كان الامتزاج الواسع بين العرب والشعوب الأعجمية، وبين العقل العربي والعقل اليوناني والهندي، وأصبح الجو جوًا علميًا ثقافيًا تجديديًا، وكان هناك صراع بين القديم والجديد، وبين التقاليد والتقاليد.. فاتجه الفخر وجهة جديدة، وأصبح يدور حول العقل والرأس والحكمة.
وقد اشتهر من شعرائه: أبو تمام، والبحتري، وابن الرومي، ولكل منهم وجهته في فخره.
أما ((المتنبي)) فهو شاعر الفخر، لا مراء. كان لا يرى له مثيلاً في الوجود، وشاع فخره في كل أغراض شعره.. قدر نفسه فوق قدرها، وظل يلتفت إِليها دائمًا وفي كل مناسبة:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي ارتفعت لا بجدودي
ويفخر بقدرته الشعرية:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ويفخر كذلك بذيوع شعره:
وما الدهر إِلا من رواة قصائدي
إِذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا
وما أحسن قوله:
كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
أنا الثريا وذان الشيب والهرم
في العصر الحديث:
وفي العصر الحديث كانت المقاومة للمستعمر الغاصب، وكانت التضحيات المتلاحقة التي زلزلت أقدامه وأجلته عن ترابنا العربي. ولقد كان الشعر الحماسي من أهم أدوات إِجلاء ذلك الغاصب الأجنبي فقد ارتفعت أصواته في الساحة العربية داعية الشعب للمقاومة والفداء وتحرير الأرض. يقول أحمد شوقي إِثر نكبة دمشق بالاحتلال الفرنسي:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
ومن يسقى ويشرب بالمنايا
إِذا الأحرار لم يُسقوا ويَسقوا
ولا يبنى الممالك كالضحايا
ولا يدنى الحقوق ولا يُحِق
ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فدًى لهم وعتق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرّجة يُدَق
ولبى الأحرار من أمتنا نداء الجهاد، وهو طابع المقاومة التي جوبه بها المستعمر طيلة النصف الأول من هذا القرن.
وعندما انطلق النفير يدعو للجهاد عام 1948 لتحرير فلسطين استجاب له المخلصون من كل فج عميق. وقد جسد هذه الانطلاقة الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم محمود الممثل لبدايات شعر المقاومة الذي حمل سلاحه وروحه على كفه وهو يغني:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإِما حياة تسر الصديق
وإِما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتان:
ورود المنايا ونيل المنى
وقد ورد الشاعر حوض المنايا فعلاً، وسقط شهيدًا في معركة الشجرة عام 1948، وعلى شفتيه بقية نشيد رائع:
وبان على شفتيه ابتسام
معانيه هزء بهذى الدنى
ولقد حاول العرب انقاذ فلسطين يومئذ، لكنهم كانوا سبعة جيوش، وفشلوا لأنهم كانوا سبعة!
وتوالت الأحداث، وازداد استشراء الخطر، وتنافس الجانبان: إِسرائيل بالعمل والتنظيم والصمت، والعرب بالهتاف والشعارات والأناشيد، وكانت النتيجة هزيمة مؤلمة مؤسفة في عام 1967. وازدادت حلكة الليل ولا تزال، وشهد الشعب الفلسطيني مجازر ومآسي من تشريد ونفي وتصفية من قبل الأشقاء قبل الأعداء.
ويظل الشعر يواكب الأحداث، ويعكس الواقع بكل ألوانه المخزية المبكية، لكنه لا ييأس، بل يحث على الاستيقاظ والتوحد والثأر للكرامة المهانة[1]:
يا شام صبرك فالأحداث قادمة
والشعب يزأر في أصفاده جلدا
فإِن تمادى بغاث الطير في دعة
ففي غد ينجز التاريخ ما وعدا
دعى المهازيل تلهو في مباذلها
واستنطقي الشعب في الأحداث ما وجدا
لا يُضعف الحدث الدامي حميته
ولا يفل له عزمًا إِذا وردا