إنزال القرآن على سبعة أحرف
ينحصر الكلام على هذا الحديث في أربعة مباحث وتتمة:
الأول: في بيان طرقه.
الثاني: في سبب ورود القرآن على سبعة أحرف.
الثالث: في بيان المراد بهذه الأحرف السبعة.
الرابع: في بيان اختلاف الأحرف السبعة اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض. والتتمة في بيان فوائد اختلاف القراءات.
المبحث الأول في بيان طرق هذا الحديث:
روى بالطرق الصحيحة عن جمع من الصحابة، وتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سمعت هشان بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ فقال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: كذبت فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأينها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرسله، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه". وفي لفظ للبخاري أيضاً عن عمر أيضاً: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث.
وفي لفظ مسلم عن أبي بن كعب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: "سل الله معافاته ومعونته فإن أمتي لا تطيق ذلك". ثم أتاه الثانية على حرفين، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة بثلاثة، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا". ورواه أبو داود والترمذي وأحمد.
وفي لفظ للترمذي أيضاً عن أُبي قال: "لقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عند أحجار المروة، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوزة الكبيرة والغلام. قال: فمرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف.
قال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ: فمن قرأ بحرف منها فهو كما قرأ. وفي لفظ حذيفة: فقلت يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط. قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف".
وفي لفظ لأبي هريرة: "أنزل القرآن على سبعة أحرف: عليما حكيما غفوراً رحيما". وفي رواية لأبي: دخلت المسجد أصلي فدخل رجل فافتتح النحل. فقرأ فخالفني في القراءة، فلما انفتل قلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء رجل فقام وصلى فقرأ فافتتح النحل فخالفني وخالف صاحبي، فلما انفتل قلت من أقرأك؟ قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فدخل قلبي من الشك والتكذيب أشد ما كان في الجاهلية، فأخذت بأيديهما وانطلقت بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت استقرئ هذين. فاستقرأ أحدهما فقال: أحسنت. فدخل قلبي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية. فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري بيده فقال: أعيذك يا أُبي من الشك!. ثم قال: إن جبريل - عليه السلام - أتاني فقال: إن ربك عز وجل يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: اللهم خفف عن أمتي. ثم عاد فقال: إن ربك عز وجل يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين، فقلت: اللهم خفف عن أمتي، ثم عاد فقال إن ربك عز وجل يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف وأعطاك بكل ردة مسألة. الحديث. رواه الحرث بن أبي أسامة في مسنده بهذا اللفظ. وفي لفظ لابن مسعود: فمن قرأ على حرف منها فلا يتحول إلى غيره رغبة عنه. وفي لفظ لأبي بكرة: كل شاف كاف ما لم يختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب. وهو كقولك: هلم وتعال وأقبل وأسرع و اذهب واعمل. وفي لفظ لعمرو بن العاص: فأي ذلك قرأتم فقد أصبتم، ولا تماروا فيه فإن المراء فيه كفر.
وقد وقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام.
فمن ذلك ما وقع لأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل كما تقدم.
ومنه ما أخرجه أحمد عن ابن قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو: أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا فيه". إسناده حسن.
ولأحمد أيضاً وأبي عبيد والطبري من حديث أبي جهم بن الصمة: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر نحو حديث عمرو بن العاص.
وللطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد بن ثابت وأقرأنيها أُبي ابن كعب فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلي إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم، فإنه حسن جميل.
ولابن حبان والحاكم من حديث ابن مسعود: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة من آل حم، فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: اقرأها، فإذا هو يقرأ حروفا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرناه، فتغير وجهه وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، ثم أسر إلى علي شيئاً، فقال علي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال: فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه.
وقال الشمس ابن الجزري في نشره: وقد نص الإمام الكبير أبو عبيد القاسم ابن سلام رحمه الله على أن هذا الحديث تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
"قلت": وقد تتبعت طرق هذا الحديث في جزء مفرد جمعته في ذلك فرويناه من حديث عمر بن الخطاب، وهشام بن حكيم بن حزام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وعبد الله ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان، وأبي بكرة، وعمرو بن العاص، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب، وعمر بن أبي سلمة، وأبي جهم، وأبي طلحة الأنصاري، وأم أيوب الأنصارية، رضي الله عنهم.
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي في سنده الكبير: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال يوماً وهو على المنبر: أذكر الله رجلا سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، لما قام. فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف". فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم.
المبحث الثاني في سبب ورود القرآن على سبعة أحرف:
قال الشمس ابن الجزري: فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها والتهوين عليها، شرفاً لها وتوسعة ورحمة، وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق حيث أتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال - صلى الله عليه وسلم -: سل الله معافاته ومعونته، إن أمتي لا تطيق ذلك. ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف. وفي الصحيح أيضاً: "إن ربي أرسل إلى أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي، ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة حرف".
وكما ثبت صحيحاً أن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وأن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد. وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم عربيهم وأعجميهم، وكان العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج لاسيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتاباً كما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم -. فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع ... انتهى.
وقال الإمام أبو محمد بن عبد الله بن قتيبة في كتاب المشكل:
فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرئ كل أمة بلغتهم وما جرت به عاداتهم. فالهذلي يقرأ "عتى حين" يريد حتى حين هكذا يلفظ بها ويستعملها، والأسدي: يعلمون وتعلم وتسود وجوه. وألم إعهد إليكم بكسر حرف المضارعة. والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز. والآخر يقرأ قيل لهم وغيض الماء باشمام الضم مع الكسر، وبضاعتنا ردت إلينا باشمام الكسر مع الضم، ومالك لا تأمنا. بإشمام الضم مع الإدغام.
قال العلامة ابن الجزري:
وهذا يقرأ عليهم وفيهم بضم الهاء. والآخر يقرأ عليهم ومنهم بالصلة. وهذا يقرأ قد أفلح وقل أوحى وخلوا إلى بالنقل. والآخر يقرأ موسى وعيسى ودنيا بالإمالة. وغيره يلطف. وهذا يقرأ خبيراً وبصيراً بترقيق الراء، والآخر يقرأ الصلاة والطلاق بتفخيم اللام إلى غير ذلك ... انتهى.
قال ابن قتيبة:
ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتباره طفلا ويافعا وكهلا لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولا يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات كتيسيره عليهم في الدين. ا هـ.
وأيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدى بالقرآن جميع الخلق: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ...﴾ الآية. فلو أتى بلغة دون لغة لقال الذين لم يأت بلغتهم: لو أتى بلغتنا لأتينا بمثله، وتطرق الكذب إلى قوله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الأحرف السبعة
- 2 -
المبحث الثالث في بيان المراد بهذه الأحرف السبعة:
قال الشمس ابن الجزري: وقد اختلفت أقوال العلماء في المراد بهذه الأحرف السبعة على نحو من أربعين قولا، مع إجماعهم على أنه ليس المراد بها قراءات سبعة من القراء كالسبعة المشهورين وإن كان يظن ذلك بعض العوام، لأن السبعة لم يكونوا خلقوا ولا وجدوا، وأول من جمع قراءاتهم: أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة، فلو كان الحديث منصرفاً إلى قراءة السبعة المشهورين أو سبعة من القراء الذين ولدوا بعد التابعين لأدى ذلك إلى أن يكون الخبر عاريا عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء السبعة الأئمة فتوجد عنهم القراءة، ولأدى أيضاً إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء السبعة من القراء إذا ولدوا وتعلموا اختاروا القراءة به. وهذا باطل، إذ طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة، لفظاً عن لفظ، إماماً عن إمام، إلى أن تتصل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومع إجماعهم أيضاً على أنه ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبعة أوجه، إذ لا يوجد ذلك في كلمة من المشهور.
وأصح الأقوال وأولاها بالصواب، وهو الذي عليه أكثر العلماء، وصححه البيهقي، واختاره الأبهري وغيره، واختاره في القاموس - أن المراد بالأحرف أوجه من اللغات. وذلك لأن الحرف يطلق لغة على الوجه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ [الحج: 11].
قال الحافظ أبو عمرو الداني: معنى الأحرف التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ههنا يتوجه إلى وجهين:
أحدهما: أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، لأن الأحرف جمع حرف في القليل كفلس وأفلس، والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾ الآية، فالمراد بالحرف هنا الوجه، أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية، فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت عليه وامتحنه الله بالشدة والضر ترك العبادة وكفر، فهذا عبد الله على وجه واحد، فلهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفاً، على معنى أن كل شيء منها وجه.
والوجه الثاني: أن يكون سمى القراءات أحرفاً على طريق السعة كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره وكان كسبب منه، وتعلق به ضرباً من التعلق، كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فلذلك سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة حرفاً وإن كانت كلاما كثيراً، من أجل أن منها حرفاً قد غير نظمه أو كسر أو قلب إلى غيره أو أميل أو زيد أو نقص منه على ما جاء في المختلف فيه من القرآن، فسمى القراءة إذا كان ذلك الحرف منها حرفاً على عادة العرب في ذلك، واعتماداً على استعمالها. انتهى.
قال الشمس ابن الجزري:
وكلا الوجهين محتمل، إلا أن الأول محتمل احتمالا قوياً في قوله - صلى الله عليه وسلم - "سبعة أحرف" أي سبعة أوجه وأنحاء. والثاني محتمل احتمالا قوياً في قول عمر رضي الله عنه "سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، أي على قراءات كثيرة. وكذا قوله في الرواية الأخرى "سمعته يقرأ أحرفاً لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها". ا هـ.
ومما يؤيد أن المراد أوجه من اللغات أن حكمة إتيان القرآن على سبعة أحرف التخفيف والتيسير على هذه الأمة في التكلم بكتابهم كما خفف عليهم في شريعتهم، وهو كالمصرح به في الأحاديث الصحيحة كقوله - صلى الله عليه وسلم - "أسأل الله معافاته ومعونته" وكقوله: "إن ربي أرسل إلى أن أقرأ القرآن على حرف واحد فرددت عليه أن هون على أمتي ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف". وكقوله لجبريل: "إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتاباً قط". وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل للخلق كافة وألسنتهم مختلفة غاية الاختلاف، كما هو مشاهد فينا، ومن كان قبلنا مثلنا، وكلهم مخاطب بقراءة القرآن، قال تعالى: ﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن﴾ فلو كلفوا كلهم النطق بلغة واحدة لشق ذلك عليهم وتعسر، إذ لا قدرة لهم على ترك ما اعتادوه وألفوه من الكلام إلا بتعب شديد وجهد جهيد، وربما لا يستطيعه بعضهم ولو مع الرياضة الطويلة وتذليل اللسان كالشيخ والمرأة، فاقتضى يسر الدين أن يكون القرآن على لغات. ا هـ.
المبحث الرابع في بيان أن اختلاف الأحرف السبعة:
اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض:
اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض، فإن هذا محال أن يكون في كلام الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
قال الإمام ابن الجزري:
وقد تدبرنا اختلاف القراءات فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال، أحدها: اختلاف اللفظ لا المعنى، الثاني: اختلافهما جميعاً مع جواز اجتماعهما في شيء واحد، الثالث: اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد، بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد.
فأما الأول: فكالاختلاف في الصراط، وعليهم، ويؤوده، والقدس، ويحسب، ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط.
وأما الثاني: فنحو مالك وملك في الفاتحة، لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى لأنه مالك يوم الدين وملكه. وكذا يكذبون ويكذبون، لأن المراد بهم هم المنافقون، لأنهم يكذبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذبون في أخبارهم. وكذا ننشرها بالراء والزاي، لأن المراد بهما هي العظام، وذلك أن الله تعالى أنشرها أي أحياها، وأنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت، فضمن الله المعنيين في القراءتين.
وأما الثالث: فنحو ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ﴾ [يوسف: 110] بالتشديد والتخفيف. وكذا ﴿ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46] بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى، وبكسر اللام الأولى وفتح الثانية. وكذا ﴿ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ [النحل: 110] بالتسمية والتجهيل. وكذا ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ [الإسراء: 102] بضم التاء وفتحها. وكذا ما قرئ شاذاً، وهو ﴿ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14] عكس القراءة المشهورة. وكذا ﴿ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14] على التسمية فيهما، فإن ذلك كله وإن اختلف لفظاً ومعنى، وامتنع اجتماعه في شيء واحد، فإنه يجتمع من وجه آخر يمتنع فيه التضاد والتناقض.
فأما وجه تشديد كذبوا، فالمعنى، وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم، ووجه التخفيف أي وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به، فالظن في الأولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل، والظن في القراءة الثانية شك، والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم.
وأما وجه فتح اللام الأولى ورفع الثانية من ﴿ لِتَزُولَ ﴾ [إبراهيم: 46] فهو أن تكون أن مخففة من الثقيلة، أي وإن مكرهم كامن الشدة بحيث تقتلع منه الجبال الراسيات من مواضعها، وفي القراءة الثانية إن نافية، أي ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام، ففي الأولى تكون الجبال حقيقة، وفي الثانية مجازاً.
وأما وجه ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ [النحل: 110] على التجهيل؛ فهو أن الضمير يعود للذين هاجروا وفي التسمية يعود إلى الخاسرين.
وأما وجه ضم تاء علمت، فإنه أسند العلم إلى موسى حديثاً منه لفرعون حيث قال: ﴿إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون﴾ فقال موسى عن نفسه: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ﴾ [الإسراء: 102]. فأخبر موسى - عليه السلام - عن نفسه بالعلم بذلك، أي إن العالم بذلك ليس بمجنون، وقراءة فتح التاء أنه أسند هذا العلم إلى فرعون مخاطبة من موسى له بذلك على وجه التقريع لشدة معاندته للحق بعد علمه.
وكذلك وجه قراءة الجماعة يطعم [1] بالتسمية ولا يطعم [2] على التجهيل: أن الضمير في ﴿ وَهُوَ ﴾ [الأنعام: 14] يعود إلى الله تعالى، أي والله تعالى يرزق الخلق ولا يرزقه أحد. والضمير في عكس هذه القراءة يعود إلى الولي، أي والولي المتخذ يرزق ولا يرزق أحداً. والضمير في القراءة الثالثة يعود إلى الله تعالى، أي والله يطعم من يشاء ولا يطعم من يشاء.
فليس في شيء من القراءات تناف ولا تضاد ولا تناقض. وكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقد وجب قبوله ولم يسع أحداً من الأمة رده ولزم الإيمان به وأنه كله منزل من عند الله، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، يجب الإيمان بها كلها واتباع ما تضمنته من المعنى علماً وعملا، ولا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظناً أن ذلك معارض. وإلى ذلك أشار ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "لا تختلفوا في القرآن ولا تنازعوا فيه فإنه لا يختلف ولا يتساقط؛ ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة، حدودها وقراءتها، وأمر الله فيها واحد؟ ولو كان من الحرفين حرف يأمر بشيء ينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف ولكنه جامع ذلك كله، ومن قرأ على قراءة فلا يدعها رغبة عنها، فإنه من كفر بحرف منه كفر به كله"، قال ابن الجزري: وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال لأحد المختلفين: أحسنت.
وفي الحديث الآخر: أصبت، وفي الآخر: هكذا أنزلت، فصوب النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة كل من المختلفين وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله، وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء، فإن اختلاف القراء كله حق وصواب، نزل من عند الله وهو كلامه ولا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك ونؤمن به ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما هو من حيث إنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه لا غير ذلك؛ وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة الإقراء ورواتهم: المراد بها أن ذلك القارئ أو ذلك الراوي اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به فآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعرف به وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد. ا هـ.
وبهذا يندفع ما عساه أن يقال: بين الحديث والآية تناف، فإن قوله عليه الصلاة والسلام لكل من المختلفين: هكذا أنزلت، أثبت الخلاف، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] نفاه.
التتمة
في بيان فوائد اختلاف القراءات
وفي اختلاف القراءات وتنوعها، مع السلامة من التضاد والتناقض، فوائد غير ما تقدم من التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة.
منها: بيان حكم مجمع عليه: كقراءة سعد بن أبي وقاص وغيره: وله أخ أو أخت من أم، فإن هذه القراءة تبين أن المراد بالأخوة هنا هم الأخوة للأم، وهذا أمر مجمع عليه، ولذلك اختلف العلماء في المسألة المشتركة وهي: زوج وأم أو جدة واثنان من إخوة لأم وواحد أو أكثر من إخوة الأب والأم، فقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم بالتشريك بين الأخوة لأنهم من أم واحدة؛ وهذا مذهب مالك والشافعي وإسحاق وغيرهم. وقال جماعة من الصحابة وغيرهم: يجعل الثلث لأخوة الأم ولا شيء لأخوة الأبوين لظاهر القراءة الصحيحة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه الثلاثة وأحمد بن حنبل وداود الظاهري وغيرهم.
ومنها: ترجيح حكم اختلف فيه: كقراءة ﴿ أو تحرير رقبة مؤمنة ﴾ في كفارة اليمين ففيها ترجيح لاشتراط الإيمان كما ذهب إليه الشافعي وغيره، ولم يشترطه أبو حنيفة.
ومنها: الجمع بين حكمين مختلفين: كقراءة: يطهرن ويطهرن بالتخفيف والتشديد فينبغي الجمع بينهما، وهو أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها وتطهر بالاغتسال.
ومنها: اختلاف حكمين شرعيين: كقراءة وأرجلكم بالخفض والنصب، فإن الخفض يقتضي فرض المسح، والنصب يقتضي فرض الغسل؛ فبيّنهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل المسح للابس الخف والغسل لغيره، ومن ثم وَهِم الزمخشري حيث حمل اختلاف القراءتين في ﴿إلا امرأتك﴾ رفعاً ونصباً على اختلاف قولي المفسرين والنحاة.
ومنها: إيضاح حكم يقتضي الظاهر خلافه: كقراءة فامضوا إلى ذكر الله، فإن قراءة فاسعوا يقتضي ظاهرها المشي السريع، وليس كذلك، فكانت القراءة الأخرى موضحة لذلك ورافعة لما يتوهم منه.
ومنها: تفسير ما لعله لا يعرف: مثل قراءة: كالصوف المنفوش.
ومنها: ما هو حجة لأهل الحق ودفع لأهل الزيغ: كقراءة (وملِكاً كبيراً) بكسر اللام، وردت عن ابن كثير وغيره وهي من أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة.
ومنها: ما هو حجة لترجيح قول بعض العلماء: كقراءة أو لمستم النساء، إذ اللمس يطلق على الجس والمس، كقوله تعالى ﴿ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ [الأنعام: 7] أي مسوه. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: لعلك قبلت أو لمست. ومنه قول الشاعر:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ولم أدر أن الجود من كفه يعدى فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى أفدت وأعدائي فأتلف ما عندي
ومنها: ما هو حجة لقول بعض أهل العربية: كقراءة والأرحام بالخفض. وليجزى قوما، على ما لم يسم فاعله مع النصب.
ومنها: ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز وغاية الاختصار وجمال الإيجاز إذ كل قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة يقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل.
ومنها: ما فيه من عظيم البرهان وواضح الدلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضاً، ويبين بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد. وما ذاك إلا آية بالغة وبرهان قاطع على صدق من جاء به - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: سهولة حفظه وتيسر نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإن من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات، لاسيما فيما كان خطه واحداً فإن ذلك أسهل حفظاً وأيسر لفظاً.
ومنها: إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك، واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره وخفي إشارته، وإنعامهم النظر، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل، والترجيح والتفصيل، بقدر ما يبلغ غاية علمهم ويصل إليه نهاية فهمهم.
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ﴾ [آل عمران: 195] والأجر على قدر المشقة.
ومنها: بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي وإقبالهم عليه هذا الإقبال والبحث عن لفظة لفظة؛ والكشف عن صفة صفة، وبيان صوابه وتحرير تصحيحه وإتقانه، حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكيناً، ولا تفخيما ولا ترقيقاً، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولم يصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم.
ومنها: ما ادخره الله تعالى من المنقبة العظيمة والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السند الإلهي بسندها خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة المحمدية، وإعظاما لقدر أهل هذه الملة الحنيفية. فكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب الملحد قطعاً بوصله. فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة لكفت، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصيصة النبيلة لوفت.
ومنها: ظهور سر الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز. فإن الله تعالى لم يخل عصرا من الأعصار ولو في قطر من الأقطار من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقراءاته، يكون سببا لوجود هذا السبب القويم على مر الدهور،وبقاؤه دليلا على بقاء القرآن العظيم في المصاحف والصدور.
وقد خص الله تعالى هذه الأمة في كتابهم هذا المنزل على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بما لم يكن لأمة من الأمم في كتبها المنزلة، فإنه سبحانه وتعالى تكفل بحفظه دون سائر الكتب ولم يكل حفظه إلينا. قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] وذلك إعظام لأعظم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله تعالى تحدى بسورة منه أفصح العرب لسانا وأعظمهم عناداً وعتواً وإنكاراً فلم يقدروا على أن يأتوا بآية مثله. ثم لم يزل يتلى آناء الليل وآناء النهار مع كثرة الملحدين وأعداء الدين، ولم يستطع أحد منهم معارضة شيء منه، وأي دليل على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - أعظم من هذا.
وأيضاً فإن علماء هذه الأمة لم تزل من الصدر الأول لآخر وقت تستنبط منه من الأدلة والحجج والبراهين والحكم وغيرها ما لم يطلع عليه متقدم ولا ينحصر لمتأخر، بل هو البحر العظيم الذي لا قرار له ينتهي إليه ولا حد له يوقف عليه. ومن ثم لم تحتج هذه الأمة إلى نبي بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - كما كانت الأمم قبل ذلك لم يخل زمان من أزمنتهم عن أنبياء يحكمون أحكام كتابهم ويهدونهم إلى ما ينفعهم في عاجلهم ومآبهم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 44] فوكل حفظ التوراة إليهم. ولهذا دخلها بعد أنبيائهم التحريف والتبديل. ولما تكفل الله تعالى بحفظه خص به من شاء من بريته، وأورثه من اصطفاه من خليقته، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [فاطر: 32] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله أهلين من الناس" قيل من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" رواه ابن ماجه وأحمد والدارمي وغيرهم من حديث أنس بإسناد رجاله ثقات ا هـ. من النشر، والجامع، والكواكب الدرية، ملخصاً.
كتاب الله
من كلمات سيدنا أبي بكر رضي الله عنه:
هذا كتاب الله فيكم، لا يطفأ نوره، ولا تنقضي عجائبه، فاستضيئوا بنوره، وانتصحوا به، واستبصروا فيه ليوم الظلمة.