الدولة الإسلامية والدينية والمدنية
الإسلام دين ودولة:
منذ تفككت الدولة العثمانية - دولة الخلافة الإسلامية - في أوائل هذا القرن تحت وطأة النفوذ الاستعماري الغربي، وتمكن الغزو الفكري الاستعماري من السيطرة على كثير من رجال الفكر والثقافة في بلاد المسلمين، ثار الجدال حول طبيعة الدولة في الإسلام، هل هي دولة دينية أم هي دولة مدنية.
وقد بلغ هذا الجدل ذروته حين خرج الشيخ على عبد الرازق على الناس بكتابه "الإسلام وأصول الحكم" وزعم فيه أن الإسلام دين ورسالة سامية، لا علاقة له بالحكم والسياسة وقد ارتفعت أصوات العلماء بالإنكار على هذه المقولة وقائلها، وتفنيد الشبهات التي أثارها في هذا الشأن وقامت هيئة كبار العلماء في هذا الوقت بمناقشة الشيخ في هذه الأفكار، وعلى أثرها ثم طرد الشيخ من هذه الهيئة العلمية، وتحمس للشيخ كثير من الذين تصدوا للفكر وسيطروا على وسائل الإعلام في هذا الوقت واعتبروه مثالاً للتحررية الفكرية، ومعولاً لهدم الفكر البالي المتمثل من وجهة نظرهم في الفقهاء وعلماء الدين.
وهذه خطوة لبحث هذا الأمر بتجردٍ وحياد.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسى دعائم الدولة:
انطلقت الشرارة الأولى للدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، وقد أبى عامة أهلها الانقياد لهذا الدين، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يبحث عن أرض تنطلق منها دعوة الإسلام دون قيود، فكانت هجرة المستضعفين إلى الحبشة، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على قبائل العرب ويقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة"[1].
وينبغي أن نلاحظ في هذه الدعوة الإشارة إلى الدولة، وإلى ملك العرب والسيطرة على العجم تحت راية هذا الدين.
وقد أثمرت هذه الدعوة، وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقداً مع الأنصار وذلك لتأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد عرف هذا العقد باسم بيعة العقبة[2].
وما إن خطت قدما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدينته الجديدة حتى بدأ في تأسيس الدولة وإرساء دعائمها، فبدأ ببناء المسجد، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعقد معاهدة مع قبائل اليهود بالمدينة وضمن ذلك كتاباً كان بمثابة الدستور للدولة الجديدة. (ابن هشام – السيرة ج2 ص 318 – 320) وفى ظل الدولة انطلقت الدعوة، ولم تمض عدة سنوات حتى دانت جزيرة العرب بالإسلام، واتسعت رقعة الدولة، وصار النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل السفراء إلى ملوك الدول من حوله داعين إلى الإسلام، ويرسل الأمراء في أقطار الدولة لجباية الزكوات، والحكم بين الناس، فأرسل علياً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن، وولى عتاب بن أسيد على مكة وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وفى هذه الأثناء اكتملت الشريعة، وتوطدت دعائم الدولة، وأتم الله نعمته على عباده ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
دولة الخلافة:
توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يستخلف أي لم يصرح للمسلمين باسم القائد والحاكم من بعده، ولم يجد المسلمون أمامهم سوى أن يقوموا على أمر هذا الدين حتى يكونوا كما وصفهم رب العالمين سبحانه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
وقد قام الصديق لينبه الناس إلى هذه الحقيقة فقال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران 144].
وإن محمداً قد مضى بسبيله، ولابد لهذا الأمر من قائم يقوم به[3].
نعم. لا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به، قائم يقوم على أمر المسلمين يؤمهم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً أحل الحلال وحرم الحرام، وحارب وسالم.
وهكذا اتفق المسلمون على وجوب الإمامة، أي على وجوب نصب إمام يقود المسلمين ويخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته[4].
وعلى هذا الأساس بايع المسلمون أبا بكر خليفة لرسول الله ودخلوا في طاعته.
وهكذا خلفت النبوة خلافة راشدة تسير على منهاج النبوة في سياسة الناس بشرع الله تعالى.
وقام أبو بكر بردع المرتدين، وخرجت جموع المسلمين في الآفاق ففتح الله عليهم بلاد الفرس والروم، وفتح بدعوتهم قلوب العباد، فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
ولكن زمان الخلافة الراشدة لم يطل، فصار ملكاً عضوضاً وزالت خلافة الملك فصار ملكًا جبرياً.
ونحن نأمل في تطبيق شرع الله على طريقة الراشدين، وليس معنى هذا أننا نريد أن نرتد إلى الوراء، وإنما نريد أن نسعى إلى الأمام في ظل شريعة الإسلام التي أنزلها الله عز وجل وأتمها وأكملها لتحكم الناس في كل زمان ومكان.
ونحن على أمل أن يقوم المسلمون – حكاماً ومحكومين – بتحقيق هذه الغاية التي بشرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة [5] ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ ( المائدة: 2)