كثيرا ماسمعت من أبي رحمه الله: (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه غير المرضى)، وحققت الأيام صواب هذه النصيحة على أيدي الأطباء الأساة وجموع السائرين الى المستشفيات وقوائم الانتظار.
وخير ما يكتسب الإنسان الصحة الجسدية والنفسية والعاطفية، لذا يكثر الناس في كلامهم اليومي وتحياتهم من استعمال كلمة (صحة) ويثنونها احياناً. وألح كتاب (المطالعة) على نصائحه وألحق المقولة الأولى ب(درهم وقاية خير من قنطار علاج)، وما كنا ندرك لا معنى درهم ولا وقاية ولا قنطار، ولو فهمنا النصيحة لاتخذناها طريقاً نختطه لحياتنا، فما أسهل أن نخرب شيئاً، أو ندمر صحتنا كما يفعل المدخنون، أو نحطم قلوبنا، بملء ارادتنا واختيارنا وحماقتنا، كما يفعل العشاق والشعراء، وما أصعب أن نعيد الأمور الى نصابها، وما طرأ الى ما كان عليه. وهذه نصيحة اخرى: ان مرحلتي النشأة والشباب رصيد للمرء، حين يتقدم به السن، في كل الأمور التي تتصدرها صحة الجسم ذي النشاط والحيوية، والقلب العامر بالحب.
تبدأ الأعراض المرضية شيئاً فشيئاً وفيها ما ينهي العمر أو يحوله الى عبء ثقيل، وآخر من يهتمون بصحتهم الشعراء لأنهم يؤمنون: «بكل تداوينا فلم يشف ما بنا» أو يتطرفون فيقولون: «وداوني بالتي كانت هي الداء»، ومن مرامي ذلك: حضور الحبيبة الذي يزيل أسقام غيابها... الخ، أو البحث عن بديل لمغادر، ليس الى هذا قصد الحلاج:
فكيف أصنع في حب كلفت به
مولاي قد مل من سقمي أطبائي
قالوا تداو به منه فقلت لهم
يا قوم هل يتداوى الداء بالداء
وقام حوار طويل بين أحد الأطباء والشاعر نديم الإطرقجي، الأول يرى الشعر محطماً للأعصاب فيجيب الشاعر أن الخلاص في الشعر:
قال الطبيب دع القريض ونظمه
فالشعر يُجهد قوة الأعصاب
فأجبته بالشعر أسلو بلوتي
وبه أسطر شقوتي وعذابي
وحين تشتد على الشعراء المواجع يصبون جام غضبهم على الأطباء لأنهم يريدون شفاء ما لا علاج له، وأورثوا بأشعارهم اولئك الأطباء حساسية خاصة فصاروا يضيقون بالنقد ويفصحون عن شيء من النرجسية، وتكفي الأطباء المساكين أقوال الناس يتوجهون اليهم باعياء ومرض فإن زال زال، وإن زاد اتهموهم بالجهل والتقصير. وقبل مئات السنين قال شيخ من أطباء العصر العباسي: «الحمد لله، فلان يزاحمنا في الطب ولم يختلف الى البيمارستانات تمام خمسين سنة»، وهذه هي المنهجية الحقة. ولكن الأطباء حتماً يرحبون بجانب مما يقول الشعراء انقطعت الصلة بينه وبين أي قسم طبي مقدس، والأشعار التي تخاطبهم تتصل بحب عضال لا يشفيه تداوٍ أو اعشاب أو جراحة أو استئصال، ولا من طبيب لهذا المرض سوى موجدته وواهبته وفي صيدليتها الخافرة كل أنواع الشفاء والاستشفاء أو التشفي وتمزيق الشغاف وتفتيت بقايا الروح مع الطحال، فإن أخطأ الطبيب، ولا كمال في مهنة، قرب الآجال، يقول ابن الرومي:
والناس يلحون الطبيب وإنما
خطأ الطبيب إصابة الأقدار
واذا أصاب الأطباء مئات المرات نسي الشعراء ذلك وركزوا على الخطأ. ولا يجيز الناس للأطباء أن يمرضوا فهل يخلص إنسان منه؟ أنطلب أن يغيروا مهنتهم اذا ما مرضوا؟ ولم لا يستطيع طبيب عليل ان يشفي عليلاً، وهذان البيتان لا يدلان على علة لطبيب ولا علاقة لهما بأي مخلوق والمقصود النسيم العليل، ولكنهما يبهجان أناساً، لحقد متأصل، اذا ماسمعوا ان طبيباً مرض فيرددون البيتين بابتهاج:
وقالوا شفاء في النسيم الذي سرى
على مسقط الأنواء وهو بليل
ولم يشفني ذاك النسيم لأنه
طبيب يداوي الناس وهو عليل
فيا لضيعة الأطباء عند الشعراء، والمتنبي أبرع من طبيبه في شفاء دائه:
يقول لي الطبيب أكلت شيئاً
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتام
ويعترض الشريف الرضي على طرائق الاطباء في الشفاء السريري:
دعوا لي أطباء العراق لينظروا
سقامي وما يغني الأطباء في الحب
أشاروا بريح المندل اللدن والشذا
ورد ذماء النفس بالبارد العذب
يطيلون جس النابضين ضلالة
ولو علموا جسوا النوابض من قلبي
وهاجم محمد رضا الخطيب الاطباء بقصيدة جائرة قاسية لا يستحقها من يبعدون عنا الآلام ويزيلون الاسقام ويرجئون الموت:
فكر لنفسك ايها الدكتور
ان كان ينفع قاسيا تفكير
الحي تسلب ماله فإذا قضى
نحبا فللتشريح منك يسير
واخوك عزرائيل انت وكيله
فيها وصهرك منكر ونكير
ويتجه شعراء بالطب اتجاها مغايراً، فيه ضرب من تأمل في حياة وموت واقدار وعشق وهيام وباركوا للاطباء ان ينزعوا قلبا موهنا ويزرعوا آخر، ولكن الاطباء عجزوا عن ضبط نبضات الناقل والمنقول فتمردت وظلت تعزف ايقاع معذبها ومضنيها، وابتدعوا مضطرين قلوبا مستعارة مضادة للحب قدت من حجر ورفضت خلايا ملأى بالعشق واستسلم الاطباء، ليس بمقدورهم ان يضعوا قلب العاشق في صدر المعشوق لتبدأ مأساة معاكسة، وما عاد ينفع سوى الاندثار والموت.
يقول ابو العتاهية:
ان الطبيب بطبه ودوائه
لا يستطيع دفاع مكروه أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي
قد كان يبرئ منه فيما قد مضى
ذهب المداوي والمداوى والذي
جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ويرى قيس بن الملوح في الشعر شفاء: «ولا انشد الاشعار الا تداويا»، ويشير البحتري الى طبيبه الحقيقي:
وهل علمت أني ضنيت وأنها
شفائي من داء الضنى وسقامي
وتقول امرأة:
فلو كلمت انسانا مريضا
لما احتاج المريض الى الطبيب
وهذا نداء من لسان الدين بن الخطيب:
يا مريض الجفون امرضت قلبي
فأدركني ففي يديك علاجي
ويعرف عبد الله بن الدمينة مكامن العلة والشفاء:
اميم لقلبي من هواك صبابة
وأنت لها لو تعلمين طبيب
وان طبيبا يشعب القلب بعدما
تصدع من وجد بها لكذوب
ويؤيده صفي الدين الحلي:
اصفتك من بعد الصدود مودة
وكذا الدواء يكون بعد الداء
ويقول بشار:
ليس من حبها مجير سواها
بعدما سار في الفؤاد ودبا
ولكن شاعرا يزيده الدواء داء وانتكاسا، فما الذي يمكن ان يفعله الاطباء:
لله داء في الفؤاد اجنه
يزداد نكسا كلما داويته
وآخر يداوي الجراح بالجراح:
أحن الى هواها وهو حتفي
كمجروح يداوى بالجراح
مرة واحدة في تاريخ الشعر افلح الاطباء فوصفوا الدواء الناجع لمهيار واحدثوا سلوا وازالوا سقما وارووا ظمأ:
الآن اذ برد السلو ظمأي
واصاب بعدكمو الاساة دوائي
كانت عزيمة حازم اضللتها
في قربكم فأصبتها في النائي
ومن يجمع بين الطب والشعر يكون موضع تعجب الناس وحيرتهم، يقول الشاعر الطبيب ابراهيم ناجي:
الناس تسأل والهواجس جمة
طب وشعر! كيف يجتمعان؟
الشعر مرحمة النفوس وسره
هبة السماء ومنحة الديان
والطب مرحمة الجسوم ونبعه
من ذلك الفيض العلي الشان
ومن الغمام ومن معين خلفه
يجدان الهاما ويستقيان
ولا نطمئن الى الحكم الجاهزة التي لم نتعلمها من تجارب الحياة، الا انها تعبر عن احداث مرت بغيرنا، فلماذا نعرض عنها؟ ولا نوليها شيئا من التفكير والتأمل؟ قد تنفعنا في شبابنا وتلقي ظلا من الرحمة على كهولتنا، فهل الصحة تاج على رؤوس الاصحاء حقا؟