المعتمد بن عباد ملك إشبيلية
تُوُفِّيَ المعتضد سنة (461هـ=1069م) وآل حُكم مملكة إِشْبِيلِيَة إلى ابنه أبي القاسم محمد بن عباد، وتلقَّب بالظافر بحول الله والمؤيد بالله والمعتمد على الله، وكان المعتمد يوم أن جلس على كرسي والده فتًى في ريعان شبابه في الثلاثين من عمره، كان مولده سنة 431هـ أو 432هـ.
كان المعتمد بالله فارسًا شجاعًا، وشاعرًا ماضيًا، مشكور السيرة في رعيته، تَلَقَّب بالمعتمد؛ لشدة حبه لجاريته اعتماد، وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل، مخالفًا لأبيه في القهر والسفك والأخذ بالظنِّ، ردَّ جماعة ممَّنْ نفاهم أبوه، وأحسن السيرة، إلا أنه كان مولعًا بالخمر، منغمسًا في اللذات، عاكفًا على البطالة، مخلدًا إلى الراحة؛ فكان ذلك سبب عطبه وأصل هلاكه، وكان شاعرًا رائع الشعر، وشغوفًا بالأدب وعلومه.
المعتمد وتوسع مملكة إشبيلية
امتلاك قرطبة
ويُعَدُّ عصر المعتمد في الأندلس من أشهر عصور الطوائف على الإطلاق، وكان أول عمل تضلَّع له المعتمد بن عباد أن تدخَّل وبصورة مباشرة في شئون قرطبة؛ ليحسم الخلاف ويُحَقِّق حلم آبائه في تملُّكها، وهذا ما حدث له بالفعل سنة (462هـ=1070م)، وكانت بينه وبين المأمون بن ذي النون (ملك طليطلة) مساجلات، وألعاب سياسية تحت الستار على نحو ما سنُبَيِّنُه في موضعه إن شاء الله.
التوسع على حساب غرناطة وطليطلة
كان المعتمد بن عباد على عِلْم بما تُضمره له القبائل البربرية في الأندلس وخاصة في غَرْنَاطَة، صاحبة المساجلات العسكرية الشرسة مع إِشْبِيلِيَة، وبالتالي سَيَّر المعتمد قوَّاته ناحية غَرْنَاطَة للسيطرة على ممتلكاتها وضَمِّها لنفسه، واستطاع ضمَّ جَيَّان أهمَّ قواعد غَرْنَاطَة الشمالية سنة (466هـ=1074م)، كما استطاع أن يستولي على معظم أراضي طُلَيْطِلَة الجنوبية الشرقية من المعدن شرقًا حتى قونقة، واستولى على مُرْسِيَة وبَلَنْسِيَة من يحيى القادر بن ذي النون.
صدامات المعتمد بن عباد
صدامات المعتمد ومملكة غرناطة
ولم يقنع المعتمد بن عباد بما تحت يديه؛ إذ طمع في ضمِّ غَرْنَاطَة، وهنا اصطدم بعبد الله بن بُلُقِّين حاكمها، ودارت بينهما حروب ونزاعات، استنصر فيها المعتمد بن عباد بالنصارى على أخيه المسلم، مقابل ما يدفعه من جزية باهظة أثقلت كاهله وكاهل غيره من ملوك الطوائف، على نحو ما سنُبَيِّنُه في الصراع بين إِشْبِيلِيَة وغَرْنَاطَة، إن شاء الله.
صدامات المعتمد ومملكة طليطلة
كما أن المعتمد بن عباد وقع في خصومات مع بني ذي النون أصحاب طُلَيْطِلَة، انتهت بسقوط طُلَيْطِلَة في يد ملك النصارى ألفونسو السادس، ليدفع المعتمد بن عباد ثمن خيانته واستهتاره بدينه وبدماء المسلمين، وتعاونه مع النصارى ضدَّ ملوك الطوائف، والتي جاءت بالوبال عليه وعلى الأندلس؛ إذ هاجم النصارى ممالك الأندلس وأولها إِشْبِيلِيَة وفرضوا عليها الحصار، وانتهى الأمر باستدعاء المرابطين من المغرب العربي.
مملكة المعتمد بن عباد
ولقد استطاع المعتمد بن عباد أن يُؤَسِّس أعظم مملكة للطوائف، تمتدُّ في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة الأندلسية، من غرب ولاية تُدْمِير شرقًا حتى المحيط الأطلنطي، ومن ضفاف وادي يانة جنوبًا حتى أراضي الفرنتيرة.
المعتمد بن عباد .. الشاعر الأديب
وفاقت شهرة المعتمد الأدبية والشعرية شهرته في السياسة والمُلْكِ؛ فقد كان له في الأدب باعٌ، ينظم وينثر، وفي أيامه نفقت سوق الأدباء، فتسابقوا إليه وتهافتوا عليه، وشعره مدوَّن موجود بأيدي الناس، ولم يكُ في ملوك الأندلس قبله أشعر منه ولا أوسع مادة، ومحاسن المعتمد في أشعاره كثيرة، وخصوصًا مراثيه لأبنائه وتفجُّعه لزوال سلطانه ومنها: [مجزوء الكامل]
قَالُوا الْخُضُوعُ سِيَاسَةٌ *** فَلْيَبْدُ مِنْكَ لَهُمْ خُضُوعُ
وَأَلَذُّ مِنْ طَعْمِ الْخُضُو *** عِ عَلَى فَمِي السُّمُّ النَّقِيعُ
إِنْ تَسْتَلِبْ عَنِّي الدُّنَا *** مُلْكِي وَتُسْلِمُنِي الْجُمُوعُ
فَالْقَلْبُ بَيْنَ ضُلُوعِهِ *** لَمْ تُسْلِمِ الْقَلْبَ الضُّلُوعُ
لَمْ أُسْتَلَبْ شَرَفَ الطِّبَا *** عِ، أَيُسْلَبُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ؟
قَدْ رُمْتُ يَوْمَ نِزَالِهِمْ *** أَلاَّ تُحَصِّنَنِي الدُّرُوعُ
وَبَرُزْتُ لَيْسَ سِوَى الْقَمِيـ *** ـصِ عَلَى الْحَشَا شَيْءٌ دَفُوعُ
وَبَذَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَسِيـ *** ـلَ إِذَا يَسِيلُ بِهَا النَّجِيعُ
أَجَلِي تَأَخَّرَ لَمْ يَكُنْ *** بِهَوَايَ ذُلِّي وَالْخُشُوعُ
مَا سِرْتُ قَطُّ إِلَى الْكُمَا *** ةِ وَكَانَ مِنْ أَمَلِي الرُّجُوعُ
شِيَمُ الأُلَى أَنَا مِنْهُمُ *** وَالأَصْلُ تَتْبَعُهُ الْفُرُوعُ
وفاة المعتمد بن عباد
كانت وفاة المعتمد على الله بأغمات في المغرب إِثْر نكبته مع المرابطين؛ جزاء تعاونه مع النصارى ضد ابن تاشفين، وذلك في ذي الحجة سنة (488هـ=1095م)، وقد رثى نفسه بهذه الأبيات، وأمر أن تُكتب على قبره: [البسيط]
قَبْرَ الْغَرِيبِ سَقَاكَ الرَّائِحُ الْغَادِي *** حَقًّا ظَفِرْتَ بِأَشْلاءِ ابْنِ عَبَّادِ
بِالْحِلْمِ بِالْعِلْمِ بِالنُّعْمَى إِذَا اتَّصَلَتْ *** بِالْخِصْبِ إِنْ أَجْدَبُوا بِالرِّيِّ لِلصَّادِي
بِالطَّاعِنِ الضَّارِبِ الرَّامِي إِذَا اقْتَتَلُوا *** بِالْمَوْتِ أَحْمَرَ بِالضِّرْغَامَةِ الْعَادِي
بِالدَّهْرِ فِي نِقَمٍ بِالْبَحْرِ فِي نِعَمٍ *** بِالْبَدْرِ فِي ظُلُمٍ بِالصَّدْرِ فِي النَّادِي
نَعَمْ هُوَ الْحَقُّ فَاجَانِي عَلَى قَدَرٍ *** مِنَ السَّمَاءِ وَوَافَانِي لِمِيعَادِ
وَلَمْ أَكُنْ قَبْلَ ذَاكَ النَّعْشِ أَعْلَمُهُ *** أَنَّ الْجِبَالَ تُهَادِي فَوْقَ أَعْوَادِ
فَلا تَزَلْ صَلَوَاتُ اللهِ نَازِلَةً *** عَلَى دَفِينِكَ لا تُحْصَى بِتَعْدَادِ
وهكذا انتهت حياة ملك ملوك الطوائف، وهكذا انتهت مملكة إِشْبِيلِيَة إلى الأبد.