الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، وبعد:
لا شك أن العزة معنى ينشده كل سوي من بني البشر، وقد تمدح الناس بها وبالسعي لتحصيلها منذ القدم، وكثير منا يحفظ قول المتنبي:
عِشْ عَزِيزًا أَوْ متْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ *** بَيْنَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْـقِ البُنُـودِ
وقوله:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْـهِ *** مَا لِجُـرْحٍ بِمَيِّـتٍ إِيْـلاَمُ
ومن منا لم يسمع أبيات أبي فراس:
ونحـن أناس لا توسـط بيننـا *** لنا الصدر دون العالمين أو القبـرُ
تَهُونُ عَلَيْنَـا فِي المَعالِي نُفُوسنَا *** وَمَنْ خَطَبَ الحَسْناء لَمْ يُغْلِهَا المَهْرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلا *** وأكرم من فوق التـراب ولا فخر
فما هي هذه العزة؟ وبماذا تكون؟ وهل لأهل الباطل عزة؟ وهل ثمة عزة غير شرعية؟ ولماذا ينسى بعض أهل الحق عزتهم فيخنس أمام بعض أهل الباطل؟
لعلِّي في هذه الكلمات أسلط بعض الأضواء على هذه المعاني، ولعلَّ بسطها يتهيأ له موطن آخر بإذن الله.
أما العزة في اللغة فمأخوذة من العز، وهو: ضد الذل، تقول منه: عز يعز عزًّا فهو عزيز، أي: قوي. والعزيز من صفات الله ، قال الزجاج: الممتنع فلا يغلبه شيء. وقال غيره: هو القوي الغالب على كل شيء.
ومن أسمائه: العزيز، وهو الذي يهب العز لمن يشاء من عباده {تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
والعزة التي نتحدث عنها: هي حالة نفسية تصاحبها قوة معنوية، وتنبثق منهما أقوال وأفعال تدل على الشعور بالفخر والاستعلاء والاستقلال عن الكافرين، وصدق الانتماء لهذا الدين مع تواضع ورحمة بالمؤمنين.
والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى الالتزام بالعزة والأخذ بمقوماتها على مستوى الحكومات والشعوب والأفراد، والاعتزاز بالدين من أقوى ما نواجه به أعداءنا في زمنٍ تداعت فيه الأمم علينا كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فهلم إلى طريق العزة والمجد والخلود.
مقومات العزة
1- الإيمان المطلق بأن الله هو العزيز، وأنه هو وحده مصدر العزة وواهبها، وأنه لا أحد يملك العزة أو يهبها سواه {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
2- اليقين بأن عزة الظالمين إلى زوال، وأنهم لا يملكون دوامها فضلاً عن أن يهبوها غيرهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]. وعندما أثبت بعض الضالين لنفسه عزة زائفة {يقولون لَئِنْ رَجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، قال الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. ولما اختل مفهوم العزة الحقيقية عند قوم شعيب، فقالوا: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كثيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92].
3- صدق الانتماء لهذا الدين، وإن صاحبه هو العزيز، وغيره هو الذليل، كما قال الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. أما الكافر وإن كان عزيزًا في الدنيا فمآله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].
4- عدم الانخداع بما عليه الكفار من قوة مادية أو عسكرية، فإنها لا تعني في موازين العزة الحقيقية شيئًا، {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197]. وعز الآخرة وبؤسها لا يقارن بما يكون في الدنيا، لا في حجمه أو نوعه أو مدته، ولا مرحبًا بعزٍّ محدود يعقبه ذلٌّ ممدود، ومع هذا فإن الدنيا دار مدافعة يرفع الله فيها أقومًا ويخفض آخرين، ومن سنته أن جعل أيامها دولاً، ثم إن العاقبة للتقوى.
5- الاستقلال عن الأعداء، والاستغناء عنهم، وعدم الاعتماد عليهم في شتى شئون الحياة، وهذا لا يتعارض مع الإفادة مما عندهم من تقدم مادي من أجل تسخيره لخدمة هذا الدين، وتقوية المؤمنين، دون ذل أو خضوع أو تنازل.
لا تسقني ماء الحياة بـذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
كيف نحقق العزة في المجتمع المسلم؟
1- الأخذ بمقومات العزة، والالتزام بها.
2- تربية أبناء المسلمين على العزة وصدق الانتماء، وتجريد الولاء لله ولرسوله، والبراءة من المشركين، وعدم الاعتماد على ثقافة الغرب أو التأثر بها.
3- استقلال وسائل الإعلام عن الاعتماد على الغرب والخروج من عبودية الغرب إلى حرية الإسلام.
4- الاستقلال السياسي، وهذا لا يتعارض مع إقامة العلاقات الدولية على أسس العدل والتعاون ورفع الظلم.
5- الاستقلال الاقتصادي في شتى شئونه وفروعه، وبناء الاقتصاد الإسلامي على أسس شرعية بعيدة عن مقومات الاقتصاد الغربي ودعائمه، وأن يكون تبادل المنافع المادية والاقتصادية مبنيًّا على الندية وحرية القرار.
6- إيجاد مراكز الدراسات الاستراتيجية التي يتحقق من خلالها رسم السياسات بعيدة المدى في شتى شئون الحياة الشرعية والثقافية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، وعدم الاعتماد على مراكز الدراسات الغربية وتحليلاتها.
7- إقامة المنابر التي تبث في الأمة روح العزة والكرامة والاستعلاء، والاستغناء عن الآخرين، وتحميها من المؤثرات الوافدة بشتى صنوفها وأشكالها، وأخص الإعلامية منها.
وقفات مهمة
1- شعور المسلم بالعزة على الكافرين وتعامله بها يجعله يعيش حياة غير عادية فيها الانشراح والسعادة والغبطة.
2- ليس من العزة التكبر على المؤمنين والاستعلاء عليهم، فهذه عزة مذمومة، قال فيما يرويه عن ربه: "العز إزاري، والكبر ردائي، فمن ينازعني فيهما عذبته". وقال: "الكبر بطر الحق، وغمط الناس". بل إن من كمال عزة المسلم تذلـله للمسلمين وتواضعه لهم، وهذا لا ينقصه بل يزيده، فما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، ومن تواضع لله رفعه، وقد أثنى الله على المؤمنين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
3- ليس من عزة المسلم ظلم الآخرين والتعدي عليهم في مال أو عرض أو دماء ولو كانوا كفارًا إلا بحق، وهذا باب ضل فيه كثيرون {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].
4- من تمام عزة المسلم: حسن الخلق حتى مع الكفار، وحسن الخلق لا يعني الضعف والذلة والمسكنة، وإنما العدل والإنصاف وتحري الحق {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
5- خطورة العصبية والحزبية لقبيلة أو بلد أو جماعة داخل الصف المسلم؛ فإن المؤمنين حزب واحد {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. أما العصبيات والنعرات الجاهلية فهي من أخطر قوادح العزة التي نريد، وقد استغلها الأعداء مرارًا لتفريق صف المسلمين، وتفريق كلمتهم، وقد ذمَّ الله الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
6- جماع الذل في قوله : "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم"[1].
7- لا يلزم من عدم قدرة المسلمين على مواجهة أعدائهم عسكريًّا أن يذلوا لهم ويتنازلوا عن دينهم، فقد تعذر في عدم قدرتك على إقامة الحق، ولكن لا عذر لك في قول الباطل.
8- أي تنازل من المسلمين في شئون دينهم وعقيدتهم وبلادهم سيغري عدوهم فيهم، فالثبات الثبات {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].
9- لا ينافي العزة الشرعية تأليف الكفار عند دعوتهم بالكلام الطيب، أو مجادلتهم بالتي هي أحسن، فقد قال الله: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وعرض مجادلة عملية، فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
10- العزة الحقيقة تقتضي التقيد بضوابط الشرع في معاملاتنا بعضنا مع بعض، وفي تعاملنا مع غيرنا من أهل الملل الأخرى، فإذا نص الشرع على ألا يقال للكافر سيد، فلا يجوز أن نجامل ونقول له سيِّد، وإذا نص شرعنا على عدم بدئهم بالسلام فلا نبدؤهم بذلك، وإذا سلموا رددنا عليهم السلام، وهكذا نتبع شرعنا في كل ما يحكم علاقة المسلم بغيره.
11- من العزة بالدين إظهار شعائر الإسلام في أي مكان إلا إذا خاف المرء على نفسه، لا ضعفًا أو هوانًا.
12- من أهم مقتضيات العزة عدم التحاكم إليهم، أو الاستنصار بهم {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
ختامًا..
وختامًا، يعيش المسلمون ضعفًا في جوانب كثيرة، لكنهم مع ذلك يتفوقون في الدين والأخلاق والقيم، ومتى راجع المسلمون دينهم واستقاموا على سنة نبيهم واتقوا ربهم، فإن العز حليفهم، فوصيتي لنفسي وللمسلمين بالاستقامة على الدين، ولنتفاءل فالعاقبة للمتقين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.