إن الصراع السياسي الذي تشهده المنطقة ليس صراعًا حزبيًّا يُختزَل في الحصول على مقعد أو مقعَدين في البرلمان، أو الاستئثار بإدارة مسجد أو مدرسة ونحوها، بل هو صراع على العقيدة والهوية؛ فإما (الإسلام أو العلمانية).
لقد كشفت الثورات العربية عن قلق شديد لدى التيارات الليبرالية على مشروعها الفكري والقيمي الذي بنته خلال عقود طويلة، بتحالفها مع أنظمة الاستبداد المتتابعة في عالمنا العربي، وأخذت تُجلِب بخيلها ورجلها، وتتعامل بتشنج شديد مع الواقع الجديد؛ من أجل المحافظة على تلك المكتسبات.
والوعي بطبيعة الصراع وأولوياته في هذه المرحلة، أحدُ أهم أسباب الائتلاف والتعاون بين الإسلاميين؛ لأن الاختلاف والتنازع لن تكون نتيجته إخفاق فصيل أو تراجع حزب فحسب، بل معناه انحسار المشروع الإسلامي وتقدُّم المشروع العلماني. قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. فهذه سنة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتخلف؛ فالتنازع من أعظم عوامل الفشل، والنهي عن التنازع في هذه الآية نهيٌ عن كل أسبابه المؤدية إليه.
ومن لطائف التوجيهات القرآنية أن الله -تعالى- صدَّر الآية بقوله سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وختمها بقوله: {وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. فقيم الاجتماع والتعاون تحتاج إلى التزام بطاعة الله -عز وجل- وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تحتاج إلى صبر في ترويض النفس على تقديم المصلحة العامة والآجلة، على المصالح الخاصة والعاجلة.
إن من سنن الله في مَن قبلنا: أن الفرقة والبغضاء نتيجة رئيسية من نتائج ترك بعض ما أُمروا به. وسنن الله لا تتبدل ولا تحابي أحدًا، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]. قال قتادة في تفسير هذه الآية: (إن القوم لما تركوا كتاب الله، وعصوا رسله، وضيعوا فرائضه، وعطلوا حدوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمالِ السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأَمْره، ما افترقوا ولا تباغضوا)[1].
وقال ابن تيمية: (متى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرَّق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب)[2].
إذن، المنطلق الرئيس لتحقيق الائتلاف والتعاون يكون في تربية الدعاة على الاعتصام بالكتاب والسنة، والتجرد في العمل لنصرة الإسلام، وإخلاص القصد لله -عز وجل- وتأكيد المحبة والولاء للدين وأهله، ومبادرة القيادات والقدوات لتحقيق ذلك. قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
ولا شك أن الإصلاح بين العلماء والدعاة من أعظم القربات التي ينبغي أن يتنافس فيها المصلحون، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. والتقصير في هذا العمل سيكون له أثر عظيم في واقع الأمة، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى. قال: "صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"[3].
ولا أذكر أنني التقيت أحدًا من العلماء أو من قيادات العمل الإسلامي إلا وجدته يتحدث عن خطورة الفرقة والاختلاف، وينادي بضرورة التعاون والتكامل، لكن المشكلة في تقديري إنما هي في ضعف المبادرات العمليَّة التي تسعى جادة في رأب الصدع وتأليف القلوب، وتعزيز ثقافة الأخوة والتناصر والتعاون على البر والتقوى. ونجاح ذلك مرهون بصدق التوجه في تحقيق هذا المطلب العظيم. قال الله تعالى: {إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]. وهذه الآية في الحَكَمَين يسعيان للإصلاح بين الزوجين، وهو في الإصلاح في أمر الأمة أعظم.
إنني أدرك أن بعض الخلاف بين السلفيين والإخوان خلاف حقيقي يجب أن يُدرسَ بعلمٍ وورع، ويقدَّر بقدره الصحيح، ونجتهد في إحياء فقه التناصح والتواصي بالحق، فذلك من أعظم حقوق الأخوَّة ومقومات التعاون. لكن لعلكم تتفقون معي على أن كثيرًا من الخلاف الحاصل في الساحة الدعوية إنما هو خلاف ليس له حظ من الأثر أو النظر، ويُحمَّل أحيانًا ما لا يحتمل من التباعد والتدابر، وهذا الواقع إن كان سائغًا في مرحلة سابقة، فإنه لا يسوغ بحال في هذه المرحلة الحرجة التي يُعاد فيها تشكيل وبناء الخارطة السياسية والفكرية في عالمنا العربي.
إنَّ صناعة التغيير والإصلاح لن يحمل لواءها، ويقطف ثمراتها، إلا من تميزوا برجاحة العقل، وطهارة الهدف، وسمو النفس عن لعاعة الدنيا؛ فإمامة الشعوب لا ينالها أهل الأهواء. قال عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].