أم السعد محمد علي نجم الشيخة الحافظة المحفظة المتقنة المعمرة، أشهر امرأة معاصرة في قراءات القرآن الكريم، والتي أشرف بأنها كانت مربيتي ومعلمتي وأنا في الحادية عشر من عمري بعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم على يد والدي الذي ذهب بي إليها كي تعلمني أحكام التجويد والقراءات فهي السيدة الوحيدة التي تخصصت في القراءات العشر، وظلت طوال نصف قرن تمنح إجازاتها في القراءات العشر.
أم السعد.. ولادتها نشأتها
ولدت أم السعد في 11/7/1925م في قرية البندارية مركز تلا بمحافظة المنوفية شمال القاهرة، داهم المرض عينيها ولم تتجاوز العام الأول من عمرها، واتجه أهلها للعلاج الشعبي بالكحل والزيوت التي كانت سببًا في فقدان بصرها بالكلية، وكعادة أهل الريف مع العميان نذرها أهلها لخدمة القرآن الكريم حتى حفظت القرآن الكريم في مدرسة (حسن صبح) بالإسكندرية في الخامسة عشرة. وقد عاشت أم السعد بحارة الشمرلي بحي بحري العريق بالإسكندرية.
أم السعد.. ودورها في خدمة القرآن
أتمت أم السعد حفظ القرآن الكريم وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وحينها ذهبت إلى الشيخة نفيسة بنت أبو العلا -شيخة أهل زمانها كما توصف- لتطلب منها تعلم القراءات العشر، فاشترطت عليها شرطًا عجيبًا وهو: ألا تتزوج أبدًا، فقد كانت ترفض بشدة تعليم البنات؛ لأنهن يتزوجن وينشغلن فيهملن القرآن الكريم.
وقد وافقت أم السعد على شرط شيختها التي كانت معروفة بصرامتها وقسوتها على السيدات ككل اللواتي لا يصلحن -في رأيها- لهذه المهمة الشريفة! ومما شجعها على ذلك أن "نفيسة" نفسها لم تتزوج رغم كثرة من طلبوها للزواج من الأكابر، وماتت وهي بكر في الثمانين، انقطاعًا للقرآن الكريم.
أتمت -أيضًا- أم السعد المهمة الشريفة وحصلت من شيختها "نفيسة" على إجازات في القراءات العشر، وهي في الثالثة والعشرين من عمرها.
تقول أم السعد عن حفظها للقرآن: "ستون عامًا من حفظ القرآن وقراءته ومراجعته جعلتني لا أنسى فيه شيئًا.. فأنا أتذكر كل آية وأعرف سورتها وجزأها وما تتشابه فيه مع غيرها، وكيفية قراءتها بكل القراءات.. أشعر أنني أحفظ القرآن كاسمي تمامًا لا أتخيل أن أنسى منه حرفًا أو أخطئ فيه.. فأنا لا أعرف أي شيء آخر غير القرآن والقراءات.. لم أدرس علمًا أو أسمع درسًا أو أحفظ شيئًا غير القرآن الكريم ومتونه في علوم القراءات والتجويد.. وغير ذلك لا أعرف شيئًا آخر".
أم السعد وقصة الزواج
تزوجت (أم السعد) أقرب تلاميذها إليها الشيخ محمد فريد نعمان الذي كان من أشهر القراء في إذاعة الإسكندرية، وهو صاحب أول إجازة تمنحها (أم السعد)، وتقول عن قصة زواجها: "لم أستطع الوفاء بالوعد الذي قطعته لشيختي "نفيسة" بعدم الزواج.. كان يقرأ عليَّ القرآن بالقراءات.. ارتحت له.. كان مثلي ضريرًا وحفظ القرآن الكريم في سنّ مبكرة.. درَّست له خمس سنوات كاملة، وحين أكمل القراءات العشر وأخذ إجازاتها طلب يدي للزواج، فقبلت".
واستمر زواجهما أربعين سنة كاملة لم تنجب فيها أولادًا.. وتعلق قائلة: "الحمد لله.. أشعر بأن الله -تعالى- يختار لي الخير دائمًا.. ربما لو أنجبت لانشغلت بالأولاد عن القرآن، وربما نسيته".
سلسلة أم السعد
بينها وبين النبي برواية حفص عن عاصم عن طريق الشاطبية 27 راويًا تبدأ بها وتنتهي بالنبي الأكرم الذي تلقى عن جبريل ، ثم إلى الله I، فهل هناك شرف أعظم من هذا الشرف!!
وقد تلقت الشيخة المسندة المعلمة المقرئة أم السعد القراءات العشر من الشاطبية والدرة عن: الشيخة نفيسة بنت أبو العلا، عن عبد العزيز علي كحيل، عن عبد الله الدسوقي، عن الشيخ علي الحدادي شيخ القراء بالديار المصرية، عن الشيخ إبراهيم العبيدي، عن شيخ الجامع الأزهر محمد بن حسن السمنودي المنير، عن علي الرميلي، عن شيخ قراء زمانه محمد بن قاسم البقري، عن شيخ قراء مصر عبد الرحمن بن شحاذة اليمني، عن علي بن غانم المقدسي، عن محمد بن إبراهيم السمديسي، عن الشهاب أحمد بن أسد الأميوطي، عن الإمام الحافظ حجة القراء محمد بن محمد بن محمد بن الجزري الشافعي مؤلف النشر والطيبة وغيرهما من المؤلفات..
عن عبد الرحمن بن أحمد البغدادي، عن شيخ القراء بمصر محمد بن أحمد الصائغ، عن علي بن شجاع الكمال الضرير صهر الإمام الشاطبي، عن الإمام أبي القاسم عن الإمام علي بن محمد بن هذيل البلنسي، عن أبي داود سليمان بن نجاح، عن الإمام أبي عمرو الداني، عن طاهر بن غلبون، عن علي بن محمد الهاشمي، عن أحمد بن سهل الأشناني، عن أبي محمد عبيد بن الصباح، عن حفص بن سليمان، عن عاصم ابن بهدلة بن أبي النجود، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي، عن عثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وأخذ هؤلاء عن رسول الله الذي تلقى القرآن عن جبريل عن رب العزة جل شأنه.
أشهر تلاميذ أم السعد
تردد عليها لحفظ القرآن ونيل إجازات القراءات صنوف شتى من جميع الأعمار، والتخصصات، والمستويات الاجتماعية والعلمية (كبار وصغار، رجال ونساء، مهندسون، وأطباء، ومدرسون، وأساتذة جامعات وطلاب في المدارس الثانوية والجامعات... إلخ). وهي تخصص لكل طالب وقتًا، لا يتجاوز ساعة في اليوم يقرأ عليها الطالب ما يحفظه فتصحح له قراءته جزءًا جزءًا حتى يختم القرآن الكريم بإحدى القراءات، وكلما انتهى من قراءة منحته إجازة مكتوبة ومختومة بخاتمها تؤكد فيها أن هذا الطالب (خادم القرآن) قرأ عليها القرآن كاملاً صحيحًا دقيقًا، وفق القراءة التي تمنحه إجازتها.
تقول أم السعد بوجه يعلوه الرضا: "من فضل ربي أن كل من نال إجازة في القرآن في الإسكندرية بأي قراءة إما أن يكون قد حصل عليها مني مباشرة (مناولة)، أو من أحد الذين منحتهم إجازة".
وتؤكد اعتزازها بأنها السيدة الوحيدة -في حدود علمها- التي يسافر إليها القراء وحفظة القرآن؛ من أجل الحصول على (إجازة) في القراءات العشرة.
وكان أكثر ما يسعدها أن مئات الإجازات التي منحتها في القراءات العشرة يبدأ سندها (تسلسل الحفاظ) باسمها، ثم اسم شيختها المرحومة (نفيسة) ليمتد عبر مئات الحفاظ وعلماء القراءات بمن فيهم القراء العشر (عاصم، نافع أبو عمرو، حمزة، ابن كثير، الكسائي، ابن عامر، أبو جعفر، يعقوب، خلف) إلى أن ينتهي بالرسول المصطفى محمد .
ويروي عنها من درس على يدها أنها كانت من أرفق المعلمين بطلابها، حتى إنهم ذكروا لها ذلك ذات مرة، فقالت: إنها في صغرها عانت من شدة بعض من درّسوا لها في المدرسة، وكانت ترتاع منهم، فأخذت عهدًا على نفسها أن تتلطف مع من يحفظ معها.
وتقول عن تلاميذها: "أتذكر كل واحد منهم، هناك من أعطيته إجازة بقراءة واحدة، وهناك -وهم قليلون- من أخذوا إجازات بالقراءات العشر مختومة بختمي الخاص الذي أحتفظ به معي دائمًا، ولا أسلمه لأحد مهما كانت ثقتي فيه".
وتضيف: "بعضهم انشغل ولم يَعُد يزرني، لكن معظمهم يتصل بي أو يأتي لزيارتي والاطمئنان عليَّ بين الوقت والآخر".
ومن مشاهير من منحتهم الإجازة القارئ الطبيب "أحمد نعينع" الذي قرأ عليها وأخذ عنها، وكذلك فضيلة الشيخ "مفتاح السلطني"، والذي أجازته الشيخة في القراءات العشر وحفص من الطيبة، وكذا عدد من أساتذة وشيوخ معهد القراءات بالإسكندرية، والذين لا يعطون إجازة في حفظ القرآن إلا ويضعون اسمها في أول السند المتصل إلى النبي .
أم السعد ورحلتها للحجاز
أهدى إليها أحد التلاميذ هدية عبارة عن رحلة حج وعمرة واستضافة سنة كاملة في الأراضي الحجازية، وهناك منحت إجازات في القراءات المختلفة لعشرات الحفاظ من كل البلاد الإسلامية: السعودية، باكستان، السودان، فلسطين، لبنان، تشاد، أفغانستان.. وأحب إجازة منحتها لطالبة سعودية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها.
وفاة أم السعد
توفيت أم السعد في فجر يوم السادس عشر من رمضان من العام 1427هـ الموافق 9/10/2006م عن عمر يناهز واحد وثمانين عامًا، وقد شيعت جنازتها من مسجد ابن خلدون بمنطقة بحري بالإسكندرية.