إن وقوع الخلاف بين البشر أمر طبعي وجِبلِّي، ولقد قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها،وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك، ودليل من أدلة قدرته سبحانه وتعالى البالغة.
وإن إعمار الكون وازدهار الوجود وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكلّ ميسر لما خُلق له: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.
إن الاختلاف الذي وقع فيه سلف هذه الأمة جزء من هذه الظاهرة الطبيعية، فإن لم يتجاوز الاختلاف حدوده بل التزمت آدابه كان ظاهرة إيجابية كثيرة الفوائد التي نعد منها:
أ ) أنه يتيح إذا صدقت النوايا التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة.
ب ) وفي الاختلاف بالوصف الذي ذكرناه رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها .
ج ) تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب ويُسْرَ هذا الدين الذي يتعامل مع الناس من واقع حياتهم .
تلك الفوائد وغيرها الكثير يمكن أن تتحقق إذا بقي الاختلاف ضمن الحدود والآداب التي يجب الحرص عليها ومراعاتها.. ولكنه إذا جاوز حدوده ولم تراع آدابه-فتحول إلى جدال وشقاق- كان ظاهرة سلبية سيئة العواقب تحدث شرخاً في الأمة، وفيها ما يكفيها!! فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء إلى معول هدم.
معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة :
1 ) كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يحاولون ألا يختلفوا ما أمكن، فلم يكونوا يكثرون من المسائل والتفريعات ، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال هدي الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعالجة الأمر الواقع عادة لا تتيح فرصة كبيرة للجدل فضلاً عن التنازع والشقاق.
2 ) إذا وقع الاختلاف رغم محاولات تحاشيه سارعوا في رد الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وسرعان ما يرتفع الخلاف.
3 ) سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله وتسليمهم التام الكامل به.
4 ) تصويب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للمختلفين في كثير من الأمور التي تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما ذهب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي يراه لنفسه. وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين والبعد عن التعصب للرأي.
5 ) الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين؛ حيث لا يهم أي منهما أن تظهر الحقيقة على لسانه أو على لسان أخيه.
6 ) التزامهم بآداب الإسلام:من انتقاء أطايب الكلم، وتجنب الألفاظ الجارحة بين المختلفين، مع حسن استماع كل منهما للآخر..الخ
7 ) تنزههم عن المماراة ما أمكن، وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر، ويدفع المخالف لقبوله أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه.
تلك هي أبرز معالم أدب الاختلاف التي يمكن إيرادها واستخلاصها من واقع الاختلاف التي ظهرت في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه:
هناك بعض الناس يحاولون أن يصوروا جيل الصحابة - رضي الله عنهم - بصورة جعلت العامة ترى أن ذلك الجيل ليس متميزاً فحسب، بل كأنه جيل يستحيل ظهور رجال من طراز رجاله من بعده!
وفي هذا إساءة للإسلام بما لا يقل عن إساءة أولئك الضالين الذين يزعمون أن استئناف الحياة الإسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد عصر الصحابة ضرب من المستحيل، يجب ألا تتسامى نحوه الأعناق، وبذلك يطفئون جذوة الأمل في نفوس لا تزال تتطلع إلى الحياة في ظل الشريعة.
إن الصحابة رضي الله عنهم أمة صنعها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين ظهرانينا ولا يزالان قادرين على صنع أمة ربانية في أي زمان وفي أي مكان إذا اتخِذا منهجاً وسبيلاً، وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة يتعاملون، وسيظلان كذلك إلى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار نماذج على طراز الرعيل الأول إنما هو بمثابة نسبة العجز إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفي ذلك محاولة لإثبات أن أثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعاً لظروف معينة، وأن زماننا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من أنظمة حياة، وتلك مقولة تنتهي بصاحبها إلى الكفر الصراح!
إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم - قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإذا كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه - صلى الله عليه وآله وسلم - فكيف لا يختلفون بعده؟
إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب، وكان له آداب،وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
1 - اختلافهم في وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - اختلافهم في دفنه صلى الله عليه وآله وسلم.
3 - اختلافهم في خلافته صلى الله عليه وآله وسلم.
4 - اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة.
سمات أدب الاختلاف في عهد الصحابة:
نلاحظ في قضايا الاختلاف التي كانت بين الصحابة أن الهوى لم يكن مطية أحد الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-، وأن الخلافات التي أفرزت تلك الآداب لم يكن الدافع إليها غير تحري الحق، وهذا غيض من فيض من معالم أدب الاختلاف بين الصحابة بعد عهد الرسالة وانقطاع الوحي:
1 ) كانوا يتحاشون الاختلاف وهم يجدون عنه مندوحة؛ فهم يحرصون الحرص كله على عدمه.
2 ) وحين يكون للخلاف أسباب تبرزه -من مثل وصول سنة في الأمر لأحدهم لم تصل للآخر، أو اختلافهم في فهم النص أو في لفظة- كانوا واقفين عند الحدود: يسارعون للاستجابة للحق والاعتراف بالخطإ دون أدنى شعور بالغضاضة، كما أنهم كانوا شديدي الاحترام لأهل العلم والفضل والفقه منهم، لا يجاوز أحد منهم قدر نفسه، ولا يغمط حق أخيه، وكل منهم يرى أن الرأي مشترك،وأن الحق يمكن أن يكون فيما ذهب إليه وهذا هو الراجح عنده، ويمكن أن يكون الحق فيما ذهب إليه أخوه وذلك هو المرجوح، ولا مانع يمنع أن يكون ما ظنَّه راجحاً هو المرجوح، ولا شيء يمنع أن يكون ما ظنَّه مرجوحاً هو الراجح.
3 ) كانت أخوة الإسلام بينهم أصلاً من أصول الإسلام الهامة التي لا قيام للإسلام دونها، وهي فوق الخلاف أو الوفاق في المسائل الاجتهادية.
4 ) لم تكن المسائل الاعتقادية مما يجري فيه الخلاف، فالخلافات لم تكن تتجاوز مسائل الفروع.
5 ) كان الصحابة - رضي الله عنهم - قبل خلافة عثمان - رضي الله عنه - منحصرين في المدينة، وقليل منهم في مكة لا يغادرون إلا لجهاد ونحوه،ثم يعودون فيسهل اجتماعهم، ويتحقق إجماعهم في كثير من الأمور.
6 ) كان القراء والفقهاء ظاهرين كالقيادات السياسية، وكل له مكانته المعروفة التي لا ينازعه فيها منازع، كما أن لكلٍ شهرته في الجانب الفقهي الذي يتقنه مع وضوح طرائقهم ومناهجهم في الاستنباط، وعليها بينهم ما يشبه الاتفاق الضمني.
7 ) كانت نظرتهم إلى الاستدراكات من بعضهم على بعض أنها معونة يقدمها المستدرك منهم لأخيه وليست عيباً أو نقداً.
أي أدب بعد هذا ينتظر صدوره من هؤلاء الرجال الذين استقوا النور من مشكاة النبوة، فظل ينير قلوباً عجزت الإحن أن تغشاها،ففاضت بمثل هذا الأدب في الاختلاف، وحمداً لله فما كان الله جل شأنه ليجمع في رجال عصور الخير الاختلاف ومجانفة الأدب.
أما أسباب الاختلاف في عصرنا الحاضر:
فمن المسلم به أن أسباب الاختلاف تتباين بين الأعصار، وإن كان كل عصر يورث الأعصار التالية بعض أسبابه، وإن من أبرز وأهم أسباب الاختلاف اليوم بين المسلمين الجهل بالإسلام أو العلم الناقص.
إننا وللأسف الشديد في هذا العصر الذي تفرقت فيه الأمة شراذم وفئات:
- فئة تدير ظهرها للإسلام وتركب عربة الهوى،تطوف بها بين شرق وغرب، حتى كأن لم يعد يربطها بالإسلام إلا أسماء ورثتها، ولولا بقية حياء لتبرأت منه !
- وأخرى تحن للعودة إلى دوحة الإسلام الوارفة، ولكنها تتخذ إليها سبلاً مختلفة، فيفرق بينها الاختلاف، ويمكّن منها الأعداء، وتلاحقها عصا السلطان تحت كل سماء تحاول أن تسد عليها كل منفذ، وتستأصل شأفتها قبل أن يستقيم عودها.
والآن وقد شخص الداء الذي تعاني منه الأمة، فلعل فيما يأتي شيئاً من
··••°*••°*••·· الـــعـــــلا ج ··••*°••*°••··.
أولاً: يجب أن يدرك الجميع أن أخوة الإسلام ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها، ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها من أهم الفرائض وأخطرها، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات ؛ لأننا بتلك الأخوة نَقْوَى على التصدي لكل العقبات التي تعيق استئناف الحياة الإسلامية على الصورة التي ترضي الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويكفي أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نفرنا من الفرقة بأن أهدر دم المفرق للجماعة، ولذلك فإن التفريط في الأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي: أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه ولاسيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي بدأت تتقد في القلوب، وتبيد البذرة الطيبة التي بدأت تشق التربة رغم الأيدي العابثة التي تنهال عليها وتحاول اجتثاثها.
إن الأخوة في الله و وحدة القلوب بين المسلمين تحتل المراتب الأول للواجبات، بل هي في مقدمتها لأنها شقيقة التوحيد وقرينته ؛ قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فقرن جل جلاله الأخوة بالإيمان. كما أن هناك مراتب للمنهيات يقع الميل من الإخوة في مقدمتها، ويتركون المندوب في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقاً لذلك.
ولا يجولن بفكر أحد أن حرصنا على الأخوة الإسلامية ووحدة صف المسلمين يعني التساهل في قضايا العقيدة الأساسية التي لا تحتمل التأويل ضمن حدود القواعد الثابتة في العقيدة! و ذلك لأن الحرص على مجابهة أعداء الأمة لن يدفعنا إلى أن نضع أيدينا بين أيدي الذين ليس لهم نصيب من الإسلام إلا الأسماء بحجة الحرص على الأخوة، فالقضايا الخلافية التي لا يجوز أن تفرقنا هي تلك التي اعترف بها كرام العلماء من أئمة السلف، وتعاملوا معها من خلال آداب فاضلة، وكان لديهم من الأدلة ما يجيز أكثر من وجه.
ثانياً: ولعل مما يساعد على التقليل من أسباب الاختلاف في الوقت الحاضر ويبعث على التحلي بآدابه ؛ معرفة أسباب اختلاف الفقهاء من السلف - رضوان الله عليهم أجمعين - وفهم تلك الأسباب ومدى موضوعيتها ليكون ذلك من بواعث التمسك ((بأدب الاختلاف))،فإنهم حين اختلفوا إنما اختلفوا لأسباب موضوعية، وكانوا جميعاً مجتهدين وكان كل واحد منهم في طلب الحق كناشد ضالة لا فرق لديه بين أن تظهر تلك الضالة على يديه أو على سواه.
ثالثاً: ولعل من الأمور الداعية إلى حمل المسلمين على التمسك بآداب الاختلاف معرفة المخاطر الهائلة والتحديات الخطيرة والخطط الماكرة التي يعدها أعداء الإسلام للقضاء على هذا الشباب المؤمن الذي يحمل لواء هذه الدعوة، وليس في حساب الأعداء أبداً أن يفلت من يدها - إن استطاعت - فئة دون أخرى ؛ فالمهم هو القضاء على العاملين للإسلام على اختلاف مذاهبهم وتباين وجهات نظرهم. وهذا يجعل إثارة أي اختلاف بين المسلمين أو تنمية أسبابه أو تجاوز أدابه؛خيانة عظمى لأهداف الأمة وجريمة كبرى في حقها،لا يمكن تبريرها أو الاعتذار عنها بحال!
رابعاً: وقبل هذا وبعده لا مناص من التزام تقوى الله في السر والعلن، وابتغاء رضاه في حالتي الوفاق والخلاف مع الحرص على فقه دين الله، والتجرد عن الهوى، والبعد عن نزغات الشيطان، ومعرفة سبل إبليس، والحذر من شراكه،
وحسب الأمة ما لقيت وعانت..
وقد آن الأوان لتؤوب إلى رشدها، وتستنير بكتاب ربها، وتعض على سنة نبيها - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنواجذ، ولعل الله يكتب إنقاذ الأمة على أيدي هذا الجيل من أبنائه البررة، إذا صدقت النية مع الله، واتخذت من السبل ما هو كفيل بقيادة الركب نحو شاطئ الأمان بعد أن طال ليل التيه والضلال..
ولا يبخلن الصالحون من الأمة بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق..
نسأله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويزيدنا علماً
وأن يجمع على الحق كلمتنا، ويلهمنا الرشد والسداد في أمورنا كلها
وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألا يجعلنا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً
إنه أهل ذلك سبحانه والقادر عليه..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين