قبل شهور سخر توك شو الردح الفضائي من خطة الحكومة التركيز على القمح المحلي للاقتراب من الاكتفاء الذاتي وإيقاف استيراد هذه السلعة الاستراتيجية التي لم تتراجع عن مرتبتها الأولى في سلم حياة المصريين منذ عرفت مصر اسمها ووجدت على ظهر الأرض.
أتذكر منذ سنوات طويلة جلسة جمعتني وعدد من الزملاء الصحفيين بالدكتور حسن الترابي وكان وقتها طرفًا هامًا في الحكم قبل أن تفترق السبل بينه وبين الرئيس البشير ويدخل السجن. كانت خلافات الترابي ومبارك في أوجها، الأول يحاول الاقتراب والثاني يخشاه ويبتعد.
قال الترابي إنه جلس إلى مبارك واقترح عليه حلًا عبقريًا لمشكلة القمح التي تجعله دائمًا بين مطرقة وسندان الضغط الأمريكي والإسرائيلي، بأن ترسل مصر أكثر من مليون فلاح لزراعة ملايين الأراضي الخصبة في السودان بالقمح وبذلك فلن تحتاج مصر إلى استيراده مرة أخرى وسيعم هذا الخير السودان.
كانت مصر قد جربت سفر مئات الآلاف من فلاحيها لزراعة أراضي العراق بتشجيع من الديكتاتور صدام حسين الذي منحهم الجنسية من أجل إنبات أراضي الرافدين، لكن هذا لم يكن ذا فائدة عملية على مصر، ما عدا فائدة التحويلات التي كانت السلطات العراقية تفرض قيودًا شديدة عليها.
بغض النظر عن ثقافة مبارك وقدرته على فهم المصالح العليا لبلاده كقوة إقليمية والتي سخر منها الترابي بعد لقاء جمعهما، قال إنه فوجئ بتعقيبه المرعوب والمرتعش.. "انت عايز أمريكا تودينا في داهية"...
قبل أيام نشرت صحيفة الفايننشيال تايمز أن الخارجية الأمريكية طلبت من الملحق الزراعي بسفارتها في القاهرة تفاصيل عن حقيقة ما ينشر بأن إنتاج محصول القمح سيصل إلى 9.5 مليون طن هذا العام، فرد الملحق بأن الرقم المتوقع أقل من ذلك بمليون طن لكنه يزيد 20% عن مثيله في العام الماضي.
لا معنى لأن تهتم أمريكا بذلك إلا إذا كانت تستشعر القلق وترى في الأمر ما يهدد سطوتها على صناعة القرار في القاهرة، أي أن رعب مبارك له ما يبرره بالنسبة له شخصيًا. عندما سجن عبد الناصر الكاتب الصحفي الكبير مصطفى أمين في الستينيات بسبب مزاعم التجسس، قيل إن السبب الحقيقي أنه كلف من عبد الناصر للتفاوض مع الأمريكيين لزيادة صادراتهم إلى مصر من القمح، لكن مخابرات صلاح نصر وشت بأنه بدلًا من ذلك قال لهم "إذا أردتم أن يركع عبد الناصر امنعوا عنه القمح".
نجحت الحكومة في خطتها لكنها تواجه أخطارًا شديدة. أولها.. أن إرادة الفلاح المصري هي التي أنجزت ذلك عندما تم تشجيعه بعوائد مالية كبيرة، لكن هذه الإرادة قد تنكسر بتسلط شياطين الروتين بحيث يتم التأخر عن استلام المحصول وبالتالي يتم تدميره على أرضه ما سيجعل الفلاحين يترددون في المرات القادمة ويعودون إلى المحاصيل العشوائية التي شجعهم عليها نظام مبارك.
وثاني الأخطار.. عدم تجهيز صوامع التخزين وهي ليست هينة إذا ما تزامنت مع الروتين والإهمال اللذين اعتدنا عليهما من عشرات السنين. وثالثًا.. مافيا السوق السوداء التي تم توجيهها للقرى لتشتري من الفلاحين بأسعار أعلى من التي طرحتها الدولة، ثم تقوم بتدمير ما تشتريه، وبهذا تحرم الوصول هذا العام بالقمح المحلي إلى 70% من احتياجاتنا، وهو رقم مخطط أن يصل في العام القادم إلى 100% عن طريق زيادة المساحة المنزرعة في الوادي الجديد مع إنجاز خطة استصلاح واستزراع المناطق الاستثمارية التي طرحت مؤخرًا، واستغلال منطقة شرق العوينات بالكامل والتي تستأثر حاليًا على نصف مساحة القمح المنزرعة بالمحافظة، وتبلغ إجماليًا 130 ألف فدان بزيادة 15 ألف فدان عن العام الماضي.
إنتاجية الفدان الواحد في أراضي الوادي الجديد تفوق غيرها حيث إنها مزروعة بأجود السلالات المنتجة للقمح الوفير.
ويأتي الخطر الداهم متمثلًا في محاولات حرق المحاصيل، وشهد الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية شيئًا من ذلك، وقد علمت أن جهاز الأمن الوطني حصل على معلومات مهمة وفرها لجهات الاختصاص، لكن الفلول الخبيثة قامت بالإيقاع بينه وبين الإسلاميين بطلبات الاستدعاء التي تهدف إلى شغل الجهاز بمعركة جديدة تمنعه من أداء دوره في هذه المرحلة المهمة.
يجب الإشادة بدوري رجلين قادا معركة القمح بنجاح مذهل وهما الدكتور باسم عودة وزير التموين، والدكتور صلاح عبد المؤمن وزير الزراعة الذي وصل بمساحة الأراضي المزروعة قمحًا إلى 3.4 مليون فدان بزيادة 30% عن العام الماضي، ورفع إنتاج الفدان الواحد إلى عشرين إردبًا بزيادة 2 إردب عن المعتاد سابقًا، وهذا أدى لأول مرة منذ 40 عامًا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح للخبز المدعم فئة 5 قروش.
الاثنان يواجهان حربًا شعواء من جبهة الإنقاذ وطالبت بإقالتهما في التعديلات الوزارية أو في أي حكومة قادمة... إنها عيون وآذان تترصد لصناعة الفشل.
يبقى أننا في حاجة عظيمة الآن إلى حكمة النبي يوسف عليه السلام...