الطقسُ المعتدل ظلَّ متواصلاً. لولا تلك الصرخة الوحيدة في قلب الليل لأحسَّ المرءُ أن الأرضَ قد أرستْ قلوعَها في الميناء؛ وأن الحياةَ قد كفّّت عن الاندفاع أمام الرياح؛ لأنها وصلت إلى أحد الخلجان الصغيرة الساكتة وأرخت مرساها هناك، وراحت (بالكاد) تتحرك الهوينى فوق صفحة المياه الهادئة. لكن الصوتَ ظلَّ يلحُّ. أينما ذهب المرءُ، ربما كانت جولةً طويلة صعودًا نحو التلال، شيء ما كأنه يمور باضطراب تحت السطح، يجعل السلام والأمن والاتزان الذي يحيط بالمرء يبدو إلى حد ما غير حقيقي. كانت الخرافُ تتجمع كعنقود على جانب التل؛ والوادي يتكسّر في موجات تتناقص تدريجيًّا مثل شلال من المياه الناعمة. ثم يصل المرءُ إلى البيوت الريفيّة المنعزلة. الجرو يتدحرج في الفناء. الفراشاتُ تطفرُ وتثبُ في مرح فوق نباتات الجولق. كلُّ شيء بدا هادئًا وآمنًا لأقصى درجة. غير أن المرء يظلُّ يفكر، هناك صرخةٌ قد مزّقت الهدوء، كلُّ هذا الجمال كان ضالعًا في الجريمة مع الليل؛ الذي قَبِلَ ورضي بأن يظلَّ ساكنًا، بأن يظلَّ جميلا، في أية لحظة يمكن أن يتمزّق الهدوءُ ثانيةً. هذه الطِيبةُ، هذا الأمان كان فوق السطح، وحسب.
بعد ذلك، من أجل أن يخفّفَ المرءُ عن نفسه وطأةَ مِزاجِه المضطرب الوجِل، ويسرّي عن نفسه، يتحوّل إلى صورة "عودةُ البحّار إلى الوطن". يتأملّها كلَّها مجددًا مُنتجًا العديدَ من التفاصيل الصغيرة المتنوعة – اللونُ الأزرق لفستانها، الظلالُ التي تسقط من الشجرة الصفراء المزهرة – تلك التفاصيل التي لم نستخدمها من قبل. ها هما قد وقفا عند باب الكوخ الريفيّ، هو ومخلاته فوق ظهره، وهي برفقٍ تكادُ تمسُّ كُمَّه بيدها. وقطّةٌ بلون الرمال تتسلّل خلسةً من الباب. وهكذا يستمر المرءُ تدريجيًّا في احتواء الصورة بكل تفاصيلها، يقنعُ نفسَه بالتدريج أن هذا السكون والسعادة والرضا والجمال من المحتمل جدا أن يمتد تحت السطح أكثر من أي شيء غادِرٍ أو مشؤوم. النعاجُ التي ترعى، تموجاتُ الوادي، بيتُ المزرعة، الجروُ، الفراشاتُ الراقصة، جميعُها كانت في الواقع تشبه كلَّ شيء في العمق =وهكذا يقفل المرءُ عائدًا إلى البيت وعقلُه مثبّتٌ على البَحّار وزوجته، مُكمّلاً لهما صورةً تلو صورةٍ، ذلك أن صورةً وراء صورةٍ للسعادة والرضا قد تتمدد وتطغى على ذلك القلق والاضطراب، تطغى على تلك الصرخة الشنيعة، حتى يتم قمعُها وسحقُها فتسكن تحت وطأة إلحاحهم، خارج الوجود.
=ها هي القريةُ أخيرًا، وساحةُ الكنيسة التي لابد أن يمرَّ عبرَها المارُّ؛ وتأتي الفكرةُ المعتادة، بمجرد أن يدخلها، عن السلام الذي يعمُّ المكان، بأشجاره الصنوبر الظليلة، وشواهد أضرحته المصقولة، وقبوره المجهولة غير المسماة. الموتُ بهيجٌ ها هنا، هكذا يشعر المرء. حقًّا؟ انظرْ إلى تلك الصورة! ثمة رجلٌ يحفر قبرًا، والأطفالُ يقومون بنزهة خلوية جواره بينما هو مستغرقٌ في عمله. وعندما تحمل المجرفةُ حفنةً من التربة الصفراء لتُقذفها عاليًا، يكون الأطفالُ مستلقين هنا وهناك يأكلون الخبزَ والمربى ويشربون اللبنَ من الأباريق الضخمة. زوجةُ حفّار القبور، الحسناءُ السمينة، كانت تتكئ بجسدها على شاهد القبر بعدما بسطتْ مئزرَها فوق العشب جوار القبر المفتوح كي تستخدمه كطاولة شاي. بعضُ كتلٍ من الطمي كانت قد سقطت بين أغراض الشاي. مَنْ ذاك الذي سوف يُدفن، أتساءلُ ؟ هل مات أخيرًا السيد دودسون العجوز؟ أوه! كلا. إنه للشاب روجرز، البحّار"، أجابتِ المرأةُ وهي تحملق في وجهي. "مات منذ ليلتين، قضى بحمى أجنبية غريبة. ألم تسمعْ زوجتَه؟ لقد اندفعتْ في الطريقِ وصرختْ" .....
"هنا أيها الجندي، تغطيّتَ تمامًا بالتراب!"
يا لها من صورة!