قال الزمخشري : يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه و يستعملونه استعماله ، مع إرادة معنى المتضمن قال : و الغرض في التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع معنى ﴿ و لا تعد عيناك عنهم ﴾ إلى قولك : و لا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم.
و قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في حاشية الكشاف : فإن قيل : الفعل المذكور إن كان مستعملا في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي و إن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة و المجاز قلنا : هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية فمعنى ﴿يقلب كفيه ﴾ أي نادما على كذا ، و لابد من اعتبار الحال ، و إلا كان مجازا لا تضمنيا ، و كذا قوله تعالى ﴿ يؤمنون بالغيب ﴾ أي معترفين بالغيب .
و قال ابن يعيش : و التحقيق في ذلك أن الفعل إذا كان في معنى فعل آخر ، و كان أحدهما يصل إلى معموله بحرف و الآخر يصل بآخر ، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه ، إيذانا بأن هذا الفعل بمعنى ذلك الآخر ، و ذلك كقوله تعالى : ﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾ و أنت لا تقول : رفثت إلى المرأة ، و إنما رفثت بها ، و لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء ، و كنت تعدي أفضيت بإلى ، جئت بإلى إيذانا بأنه في معناه.
و قال ابن النحاس في التعليقة : الفرق بين المضمن معنى الحرف و غير المضمن ، أن المضمن معنى الحرف لا يجوز إظهار الحرف معه في ذلك المكان ، وغير المضمن يجوز إظهار الحرف معه كما إذا قلنا في الظرف إنه يراد فيه معنى (في) فإنا لا نريد به أن الظرف متضمن معنى (في) كيف و لو كان كذلك لبني و إنما تعني به أن قوة الكلام قوة كلام آخر في ظاهره ، و كذلك يجوز إظهار" في" مع الظرف فتقول : (خرجت يوم الجمعة) أي خرجت في يوم الجمعة ، و لا تقول في أين و كيف مثلا : هل أين و لا أ أين و لا هل كيف ، و لا أكيف.
و قال السعد : حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه ثم قال : إن الفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية فقولنا : أحمد إليك فلانا : أحمده مُنهيا إليك حمده ، و قول الله تعالى : ﴿ يقلب كفيه على ﴾ أي يقلبها نادما على. فالفعل المتروك و هو المضمن يعتبر قيدا للمذكور.
و اعترض عليه بأن في كلامه تناقضا لأن قوله : (مع فعل آخر يناسبه) غير ملائم لقوله : ( مع حذف حال ) أي اسم لا فعل.
و قال السيد : من شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه . فيقولون هيجني شوقا فعدي إلى مفعولين بنفسه ، و كان هو يتعدى إلى الثاني بإلى يقال : هيجه إلى كذا ، لتضمنه معنى ذكّر فإن قلت : إذا كان اللفظ مستعملا في المعنيين معا كان جمعا بين الحقيقة و المجاز و إن كان مستعملا في أحدهما فلم يقصد به الآخر ، فلا تضمين. قلت : هو مستعمل في معناه الحقيقي و الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر ما هو من متعلقاته ، فتارة يجعل المذكور أصلا في الكلام و المحذوف حالا كما في قوله تعالى : ﴿ و لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ كأنه قيل : و لتكبروا الله حامدين على ما هداكم و تارة يجعل المحذوف أصلا و المذكور مفعولا كما مر من المثال أو حالا كما يشير إليه قوله : يعترفون به فإنه لا بد حينئذ من تقدير الحال : يعترفون به مؤمنين و إلا لم يكن تضمنيا بل مجازا عن الاعتراف.
فاللفظ مستعمل في معناه الأصلي و هو المقصود أصالة ، لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ، و يقدر له لفظ آخر فلا يكون من الكناية و لا الإضمار بل من الحقيقة التي قصد منها معنى آخر يناسبها و يتبعها في الإرادة و حينئذ يكون واضحا بلا تكلف.
و قال ابن جني : اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر و كان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر ، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه و ذلك كقوله : رفثت إلى المرأة إنما تقول : رفثت بها أو معها ، لكن لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء ، و كنت تعدي أفضيت بإلى ، جئت بإلى مع الرفث إيذانا و إشعارا أنه بمعناه ، و كما جاؤوا بالمصدر فأجروه على غير فعله لما كان فيه معناه نحو قوله : و إن شئتم تعاودنا عوادا و منه قول الله تعالى : ﴿ و تبتل إليه تبتيلا ﴾ و كذلك قوله تعالى : ﴿ من أنصارى إلى الله ﴾ أي مع الله وأنت لا تقول سرت إلى زيد أي معه ، لكن لما كان معناه : من ينضاف في نصرتي إلى الله ؟ جاز لذلك أن تأتي هنا بإلى و كذلك قوله تعالى : ﴿ هل لك إلى أن تزكى ﴾ و أنت إنما تقول: هل لك في كذا ؟ لكن لما كان هذا الدعاء من موسى صلوات الله عليه ، صار تقديره : أدعوك و أرشدك إلى أن تزكى و عليه قول الفرزدق :
قد قتل الله زيادا عني ...
لما كان معنى قتله : صرفه عداه بعن ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئا كثيرا لا يكاد يحاط به ، و لعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما ، و قد عرفت طريقة فإذا مر بك شيء منه فتقبله و أنس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها و الفقاهة فيها. و قال في موضع آخر : و من عادة العرب و سننهم التي يسلكونها أنهم إذا أعطوا شيئا من شيء حكما ما ، قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميما للشبه الجامع لهما.
و قال السيوطي : إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه .
و قال ابن هشام : قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه و يسمى ذلك تضمنيا و فائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين ثم ذكر لذلك أمثلة منها قوله تعالى : ﴿ و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه ﴾ ضمن معنى (تحرموه) فعدي إلى اثنين لا إلى واحد و ﴿ و لا تعزموا عقدة النكاح ﴾ ضمن معنى (تنووه) فعدى بنفسه لا بعلى و ﴿ لا يسمعون إلا الملأ الأعلى ﴾ ضمن معنى (يصغوون) فعدى بإلى و ﴿ و الله يعلم المفسد من المصلح ﴾ ضمن معنى (يميز) فجيء بمن قال : و فائدة التضمين أن يدل بكلمة واحدة على معنى كلمتين و قال في معاني الباء : ﴿ و قد أحسن بي ﴾ أي إلي و قيل : ضمن أحسن معنى لطف .
و قال ابن القيم في قول الله تعالى : ﴿ عينا يشرب بها عباد الله ﴾ يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون ذلك دليلا على الفعلين أحدهما بالتصريح به و الثاني بالتضمن و الإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار ، و هذا من بديع اللغة ومحاسنها و كمالها ، و هذا أحسن من أن يقال : يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري ، وأن يقال : يروي بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم ، فإذا قال : يشرب بها ، دل على الشرب بصريحه و على الري عن طريق الباء فتأمله.
و قال السيوطي: المتضمن معنى شيء لا يلزم أن يجري مجراه في كل شيء و من ثم جاز دخول الفاء في خبر المبتدأ المتضمن معنى الشرط نحو : الذي يأتيني فله درهم و امتنع في الاختيار جزمه عند البصريين و لم يجيزوه إلا في الضرورة و أجاز الكوفيون جزمه تشبها بجواب الشرط و وافقهم ابن مالك.
قال أبو حيان : و لم يسمع من كلام العرب الجزم في ذلك إلا الشعر.
زعم بعضهم أن التضمين بالمعنى الذي ذكره السعد ، و هو جعل وصف الفعل المتروك حالا من فاعل المذكور ، يسمى تضمينا بيانيا و أنه مقابل للنحوي و قيل : إن التضمين من باب المجاز ، و يعتبر المعنى الحقيقي قيدا و هذا الذي اعتبره الزمخشري . فعلى مذهب السعد يقال : و لا تأكلوا أموالهم ضاميها ، و على مذهب الزمخشري : و لا تضموها إليها آكلين . و قيل : التضمين من الكناية ، لفظ أريد به لازم معناه . و الجمع بين الحقيقة و المجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين : إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة. أما على قول البيانيين : فيشترط أن تكون القرينة مانعة، فقيل : التضمين حقيقة ملوحة لغيرها ، وقيل : التضمين من باب الكناية.
قال ابن تيمية : و العرب تضمن الفعل معنى الفعل و تعديه تعديته و من هنا غلط من جعل بعض الحروف ، تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله تعالى : ﴿ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ﴾ أي مع نعاجه و ﴿ من أنصاري إلى الله ﴾ أي مع الله و نحو ذلك ....
و التحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين فسؤال النعجة يتضمن جمعها و ضمها إلى نعاجه و كذلك قوله تعالى : ﴿ و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ ضمن معنى يزيغونك و يصدونك و كذلك قوله : ﴿ و نصرنه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ﴾ ضمن معنى نجيناه و خلصناه و كذلك قوله: ﴿ يشرب بها عباد الله ﴾ ضمن يروي و نظائره كثيرة .
و قال الزركشي : التضمين إعطاء الشيء معنى الشيء و تارة يكون في الأسماء و في الأفعال و في الحروف فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى : ﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ ضمن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق يقول الحق و هو حريص عليه. و أما الأفعال فأن تضمن فعلا معنى فعل آخر و يكون فيه معنى الفعلين جميعا و ذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف فيأتي متعديا بحرف آخر ليس من عادته التعدي به ، فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به. و اختلفوا أيهما أولى ، فذهب أهل اللغة و جماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف، وأنه واقع موقع غيره من الحروف أولى. وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل و تعديته بما لا يتعدى لتضمنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أولى لأن التوسع في الأفعال أكثر مثاله : قوله تعالى : ﴿ عينا يشرب بها عباد الله ﴾ ضمن يشرب معنى يروي لأنه لا يتعدى بالباء فلذلك دخلت الباء ، و إلا فيشرب يتعدى بنفسه و أريد باللفظ الشرب و الري معا فجمع بين الحقيقة و المجاز في لفظ واحد ، و قيل : التجوز في الحرف و هو الباء فإنها بمعنى من وقيل: لا مجاز أصلا ، بل العين ها هنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه ، نحو نزلت بعين فصار مكانا يشرب به .
و على هذا ﴿ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ﴾ قال الراغب : و هذا بخلاف المجاز ، فإن فيه العدول عن مسماه بالكلية ، و يراد به غيره كقوله تعالى : ﴿ جدارا يريد أن ينقض ﴾ فإنه استعمل أراد في مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة ، و أن من أراد شيئا فقد قارب فعله، و لم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي الذي هو الإرادة البتة، و التضمين أيضا مجاز لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة و المجاز معا ، و الجمع بينهما مجاز خاص يسمونه بالتضمين تفرقة بينه وبين المجاز المطلق.
و قال الزمخشري : يراعي في التعدية المحذوف. الرفث إلى : الإفضاء. أتوا على : أشرفوا. يرد بإلحاد : يهم ، ثم قال : و لم أجد مراعاة الملفوظ إلا في موضعين : أحدهما : ﴿ يقال له ابراهيم ﴾ على قول ابن الضائع : أنه ضمن يقال معنى ينادي ، و أورد على نفسه كيف عدى باللام و النداء لا يتعدى به ، و أجاب : بأنه روعي الملفوظ به و هو القول : قلت له. الثاني : ﴿ و حرمنا عليه المراضع من قبل ﴾ فإنه قد يقال : كيف يتعلق التكليف بالمرضع؟ و أجيب : بأنه ضمن حرم : المعنى اللغوي و هو المنع فاعترض كيف عدي بعلي و المنع لا يتعدى به؟ و أجيب بأنه روعي الملفوظ به و هو : ﴿ و حرمنا عليه المراضع من قبل ﴾ ثم نقل قول القاضي أبي بكر في كتابه إعجاز القرآن : هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه ثم قسمه إلى قسمين : أحدهما ما يفهم من البنية كقولك : معلوم ، فإنه يوجب أنه لابد من عالم ، و الثاني من معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به كالصفة ، فضارب يدل على مضروب قال : و التضمين كله إيجاز و ذكر أن ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله أو التبرك باسمه.
و في كلام ياسين بن زين الدين العليمي في حاشيته على شرح التصريح على التوضيح ثمانية أقوال في التضمين:
الأول : أنه مجاز مرسل لأن اللفظ استعمل في غير معناه لعلاقة و قرينة.
الثاني : أن فيه جمعا بين الحقيقة و المجاز لدلالة المذكور على معناه بنفسه و على معنى المحذوف بالقرينة.
الثالث : أن الفعل المذكور مستعمل في حقيقته لم يشرب معنى غيره –كما جرى عليه صاحب الكشاف – و لكن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب بمعونة القرينة اللفظية كما ذكر السعد و قال السيد : ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط ، و المعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته و فيما مثل به جعل المحذوف أصلا و المذكور مفعولا كأحمد إليك فلانا أي أنهي إليك حمده ، يعنى أن المذكور يدل على ذلك ، كما يدل على الحال ، و قد أراد السيد بيان وجه آخر ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد.
الرابع : أن الفظ مستعمل في معناه الأصلي ، فيكون هو المقصود أصالة ، و لكن قصد بتبعيته معنى آخر ، فلا يكون من الكناية و لا الإضمار.
الخامس : أن المعنيين مرادان على طريقة الكناية ، فيراد المعنى الأصلي توصلا إلى المقصود ، و لا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.
السادس : أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز.
السابع : أن دلالته غير حقيقية و لا تجوز في اللفظ ، و إنما التجوز في إفضائه إلى المعمول ، و في النسبة غير التامة و نقل ذلك عن ابن جني و قال : ألا ترى أنهم حملوا النقيض على نقيضه فعدوه بما يتعدى به ، كما عدوا (أسر) بالباء حملا على (جهر) ، و(فضُل) بعن حملا على (نقض) و قد علق هذا القول على الصحة.
الثامن : أنه لابد في التضمين من إرادة معنيين في لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد، و بذلك يفارق الكناية فإن أحد المعنيين تمام المراد ، و الآخر وسيلة إليه ، و هذا ااختيار ابن كمال باشا و قد علق هذا القول على الثبوت.
و قال الدسوقي : مشيرا إلى قول ابن هشام ( و فائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين ) ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها و مجازها و الجمع بين الحقيقة و المجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين : إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة ، أما على قول البيانين فيشترط أن تكون القرينة مانعة فقيل : التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.
و قال الصبان على الأشموني : إن التضمين النحوي إشراب كلمة معنى أخرى بحيث تؤدي المعنيين ، و التضمين البياني تقدير حال تناسب الحرف و تمنع كون التضمين النحوي ظاهرا عن البياني ، للخلاف في كون النحوي قياسيا و إن كان الأكثرون على أنه قياسي ، كما في ارتشاف أبي حيان دون البياني.
و قال ابن كمال باشا : في رسالة له في التضمين : فالتضمين أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي و يلاحظ معه معنى لفظ آخر يناسبه و يدل عليه بذكر شيء من متعلقات الآخر كقولك : أحمد إليك فلانا ، فإنك لاحظت فيه مع الحمد معنى الإنهاء و دللت عليه بذكر صلته أعني كلمة (إلى) كأنك قلت أنهي حمده إليك ، و إنما أطلقت اللفظ لينتظم الاسم ، فإن التضمين لا اختصاص له بالفعل ، أفصح عن ذلك صاحب الكشاف في سورة الزخرف حيث قال في تفسير قوله تعالى : ﴿ و هو الذي في السماء إله و فيس الأرض إله ﴾ و ضمن اسمه تعالى معنى وصف ، فلذلك علق به الظرف في قوله : في السماء و في الأرض كما تقول : هو حاتم في طيء حاتم في تغلب ، على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به ، كأنك قلت : هو جواد في طيء جواد في تغلب.
و لغفوله عن هذا قال الفاضل التفتازاني : و حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه ، و تبعه الفاضل الشريف حيث قال : التضمين أن يقصد بلفظ فعل معناه الحقيقي و القاعدة في التضمين أن يراد الفعلان معا قصدا و تبعا لأن أحدهما مذكور بذكر صلته ، و لأن ذكر الصلة غير لازم للتضمين كما إذا ضمن اللازم معنى المتعدي ، و تكون تعديته قرينة للتضمين ، و بالجملة لابد في التضمين من إرادة معنيين من لفظ واحد على وجه يكون كل واحد منهما بعض المراد فبه تفارق الكناية ، فإن أحد المعنيين فيها تمام المراد والآخر وسيلة لا يكون مقصودا أصالة ، و بما قررناه اندفع ما قيل : الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر ، و إن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على المعنى الحقيقي ، و إن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة و المجاز.
و قال الأستاذ حسين والي : و التضمين مبحث ذو شأن في العربية ، و للعلماء في تخريجه طرق مختلفة فقال بعضهم : إنه حقيقة ، و قال بعضهم : إنه مجاز و قال آخرون : إنه كناية و قال بعضهم : إنه جمع بين الحقيقة و المجاز على طريقة الأصوليين ، لأن العلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الحقيقي ، و قد وجدوا مخرجا من هذا فقالوا : التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.
و قال الأستاذ محمد الخضر حسين : للتضمين غرض هو الإيجاز ، و للتضمين قرينة هي تعدية الفعل بالحرف و هو يتعدى بنفسه أو تعديه بنفسه وهو يتعدى بالحرف و للتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين و كثرة وروده في الكلام المنظوم و المنثور تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية متى حافظ على شرطه ، فالكلام الذي يشتمل على فعل عدي بحرف و هو يتعدى بنفسه ، أو عدى بحرف و هو يتعدى بغيره يأتي على وجهين :
الوجه الأول : ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين ، و مثل هذا نصفه بالخطأ و الخروج عن العربية و لو صدرت عن العارف بفنون الكلام.
الوجه الثاني : أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ ، و به يستقيم النظم ، و هذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية ، ومعرفة طرق استعمالها ، حمل على وجه التضمين الصحيح كما قال سعد الدين التفتازاني : فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم و التشمير لا يتعدى بإلى فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى (الميل) الذي هو سبب التشمير عن ساق الجد من هنا نعلم أن من يحظيء العامة في أفعال متعدية بنفسها ، و هم يعدونها بالحرف مصيب في تخطئته ، و ليس معنى هذا التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره ، إنما أريد أن العارف بوجود استعمال الألفاظ لا نبادر إلى تخطئته متى وجدنا لكلامه مخرجا من التضمين الصحيح.
و ذكر أبو البقاء في كتابه الكليات عن بعض العلماء أن التضمين ليس من باب الكناية و لا من باب الإضمار بل من باب الحقيقة إذا قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه و يتبعه في الإرادة ، و ذكر عن بعضهم أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه و هو نوع من المجاز. ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يحاط به فقوله هذا يوحي بأن التضمين قياسي و ليس بسماعي .
و التضمين إلحاق مادة أخرى لتضمنها معناها باتحاد أو تناسب و ظاهر من هذا أن الكلمة تستعمل في حقيقتها و مجازها ﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ أي يمتنعون بالحلف عنهم و ليس حقيقة الإيلاء إلا الحلف ، فاستعماله في الامتناع عن الوطء هو طريق المجاز ، من باب إطلاق السبب على المسبب و بذلك جمع بين الحقيقة و المجاز. على رأي الأصوليين في المجاز لا يشترط أن تكون مانعة بخلاف رأي البيانين أنها مانعة فقالوا : التضمين حقيقة ملوحة بغيرها . فالتضمين من خلال النظريات الدلالية المعاصرة يحسن أن نتناوله بشيء من المرونة في تفسير اللفظ فاللغة حياة ، و ألا نأخذ المعنى المعجمي المصبوب في قوالب جامدة فمعنى اللفظ يتعاون عليه السياق و المقام و لهذا السبب فرق علماء الأصول عند استنباط الأحكام بين نوعين من دلالة اللفظ الدلالة الوضعية كما تواضع عليها علماء اللغة ، و الدلالة الإطلاقية أو الأصولية فاللغة لا تنفرد بالدلالة دون تدخل قصد المتكلم و مقام البيان .
التضمين إذا مجلى من مجالي الفكر تظهر فيه قدرة الألفاظ على اختزان المعاني ، فاللفظ قد يشمل على معان كثيرة ، و التضمين يومئ إلى واحد منها أو أكثر بلمحة تدل عليه و في التلويح غنى عن التصريح و قد ينشد المتكلم معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال عليه ، بل بلفظ هو تبيعه أو رديفه ، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع.