التّضمين: هو تضمين كلمة معنى كلمة أُخْرى، وجَعْلُ الكلام بعدها مَبْنيّاً على الكلمة غير المذكورة، كالتعدية بالحرف المناسب لمعناها، فتكون الجملة بهذا التضمين بقوّة جملتين، دلَّ على إحداهما الكلمة المذكورة التي حُذِف ما يَتَعلَّقُ بها، ويُقَدَّرُ معناه ذهْناً، ودَلَّ على الأَخْرَى الكلمةُ التي جاءتْ بعدها المتعلّقةُ بالكلمةِ المحذوفةِ الْمُلاحَظِ مَعْنَاها ذهْناً.
وهذا التضمين فَنٌّ رَفيعٌ من فنون الإِيجاز في البيان، وهو لا يخضع لقواعد الاستعمالات العربيّة الجامدة التقليديّة الّتي قد يتقيَّد بها النحاة، بل هو لَمْحٌ ابتكاريٌّ يُلاحظه البَلِيغُ، إذْ يَرى فِعْلَيْنِ مُتَقَاربَيْنِ أَوْ نَحْوَهُما، وهو يريد استعمالَ كلٍّ منهما في كلامه، وهذا يقتضي منه أن يصوغَهُما في جُمْلَتين، وَيُعْطِيَ كُلاًّ مِنْهُما تعديَتهُ التي تلائمه، لكنَّهُ يرَى ما هو أبْدَعُ من ذلك وأخْصَرُ، وأرفع أسلوباً في أداء بيانيٍّ جميل، يُحَرِّكُ ذهنَ المتلَقِّي لفهمه، ويُعْجب لمَّاحي الذَّكَاء من البلغاء، وهو أن يختار أحدَ الفعلَيْنِ بفنّيّةٍ، فيذْكُرَهُ بلفْظِه، ثمّ يأتي بما يتعدّى إليه الفعلُ الآخر أو يَعْمَلُ فيه فَيَذْكُرُه، ويَحْذِفُ مَعْمُولَ الفِعْل الّذِى ذكّرَهُ، إذا كان له معمول، سواءٌ أكان مفعولاً به، أمْ غير ذلك، ويَسْتَغْنِي بذكر جُملَةٍ واحدةٍ عن جملتين.
ولدى تَحْلِيل التضمين يظهر لنا أنّه صنف من أصناف الحذفِ الّذِي يُتْرَكُ في اللَّفظ ما يَدُلُّ عليه. فالفعلُ المذكور يَدُلُّ بحسب تَعْدِيَتِهِ العربيَّةِ على معموله المحذوف، والمعمول المذكور مع قرائن النصّ يدُلُّ على عامِلِه المحذوف، ويَنْتُجُ عن ذلك أداءٌ مُوجَزٌ بليغ، اعتمد على أسلوبٍ بيانِيٍّ ذكيّ.
ولا بُدّ أن نُدْرِك أنَّ مثل هذا الإِجراء البيانيّ لا يستقيم بين كلِّ فعلَيْنِ أو ما يَعْمَلُ عمَلَهُما، حتَّى يُطَبَّقَ بغباء سواءٌ استقام الآداءُ البيانيّ أمْ لم يستَقِم، بل يحتاج من البليغ رؤيَةً فَنّيَّةً بَيَانيَّة، يَصِلُ بها إلَى أنَّهُ لو استخدم هذا الأسلوب في جُمْلَتِه لأدركه الْبُلَغَاءُ والأَذكياء، دون إعنات ذهْنِيّ، ويُدْرِكُه الآخَرُون بالتَّدَبُّر والتأمُّل.
فمثلاً: أُرِيدُ أنْ أقولَ: جَلَسْتُ عَلى فِراشي، وأَمَلْتُ جِسْمِيَ إلى مُتَّكَئِي، فأخْتَصرُ الكلام فأقُولُ: جَلَسْتُ إلى مُتَّكَئِي.
ومثل هذا الإِيجاز القائم على الحذف والإِيصال أُسْلوبٌ ينهجُه بُلَغاءُ الْعَرب، وتقدير الكلام: جَلَسْتُ مائلاً إلى مُتَّكَئِي.
أمثلة
المثال الأول
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول): {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}. إنّ فعل: "يَشْرَبُ" يُعَدَّى لغةً بحرف "مِنْ" لكنّه جاء في النّصّ هنا متعدّياً بحرف "الباء" فَلِماذا؟
بالتأمُّل يظهر لنا أنّ فِعْلَ "يشرب" ضُمِّنَ معنَى فِعْلِ "يتلَذّذ" أو "يَرْتَوِي" الذي يُعَدَّى بحرف "الباء" فَعُدّي تعديته، والتقدير: عيناً يَشْرَبُ منها مُتَلذّذاً بها عبادُ الله، فأغنى "يَشْرَبُ بها" عن عبارة: يشربُ منها ويتلّذذ بما يشرب عباد الله.
الفعلُ المذكور دلَّ على معناه بصريح العبارة، وحرف الجرّ "الباء" دلَّ على الفعل المحذوف الذي ضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكور معناه، فأغنت جُمْلةٌ عن جُمْلَتَيْن، وعبارةٌ عن عبارتين، وهذا من روائع الإِيجار في القرآن المجيد.
المثال الثاني
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول): {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ....} [الآية:187].
كَلِمَةُ "الرَّفَثِ" مَصْدَرُ "رَفِثَ يَرْفَثُ رَفَثاً" أي: صَرَّحَ بكلامٍ يتعلَّقَ بالجماعِ ومُقدّماته، أو فعَلَ ما يتَّصِل بذلك. وأصل الرفَث لا يَتَعدَّى لغة بحرف "إلَى" لكنّه ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلِ "أَفْضَى" فَعُدِّيَ تعديتَه، يُقَالَ: أَفْضَى إلى زوجته، أي: أزال ما بَيْنهما من الفضاء فالتصقَ بها، وهو كناية عن الجماع.
وتقدير الكلام: أُحِلّ لَكُمْ ليلةَ الصّيام الرَّفَثُ بالحديث مع نسائكم مُقَدِّمَةً مُنَاسِبَةً يكونُ بَعْدَها الإِفضاء إليّهن وجماعُهُنَّ، والله بهذا يُعَلِّم الأزواج أدب المعاشرة باستخدام المقدمات قبل الإِفضاء والمعاشرة الزوجيّة.
المثال الثالث
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول): {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى؟ عبارة "هَلْ لَكَ" هل وخبَرٌ مقدَّم والمبتدأ محذوف تقديره "هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ" وكلمةُ "رغْبَة" تُعَدَّى بحرفِ "في" لا بحرف "إلَى" لكن ضُمّنَت معنى فعل "أدعو" فَعُدّيَتْ تَعْدِيته، والتقدير: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ في أن أَدْعُوَك إلَى أن تَزَكَّى؟
المثال الرابع
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول): {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
إنّ فعل "يَقْبَلُ" يتعدَّى لغة بحرف "من" فيقال: قَبِل الله منه توبته. ولكنْ عُدّيَ هنا بحرف "عَنْ" لأنَّه ضُمِّنَ معنى فِعْلِ "عَفَا" أو "صَفَحَ" فَعُدِّي تعديته، والتقدير: وهو الذي يَقْبَلُ التوبَةَ من عباده إذْ يَعْفُو ويَصْفَحُ عنهم.
المثال الخامس
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن منافقي العرب: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُو?اْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
إنَّ فعل "خَلاَ" يأتي في اللّغة للدّلالة على معنَى انفراد الإِنسان في خَلْوَة، لا يكون معه فيها أحَدٌ، فيقولون: خلا الرجل، ورُبَّما قالُوا: خلا بنَفْسِه، فإذا أرادوا بيان أنّ الخلوة حصلَتْ مَعَ فريقٍ آخر قالوا: خَلاَ به، أو خلا معه، ولاَ يُعَدَّى فِعْلُ "خَلا" بحرف "إلى" بحسب أصل الاستعمال.
فكيف نُفَسِّر هذه التعدية؟
أقول: إنَّ فعل "خلا" ضُمّن معنى فعل "رجَعَ" فَعُدِّي تَعْدِيته، والتقدير: وإذا خَلَوْا راجِعينَ إلى شياطينهم قالوا لهم: إنّا معكم إنَّما نَحْنُ مستهزئون بالمؤمنين.
المثال السادس
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) في حكاية فتوى داود عليه السلام للفريقين الّذَيْنِ تَسَوَّروا عليه المحراب: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...} [الآية:24].
إنّ كلمة "سُؤَال" لا تُعَدَّى بحرف "إلَى" ولكنّها ضُمّنَت معنى الجمْع والضّمّ فعدّيَتْ بحرْفِ "إلى" والتقدير: لقد ظلمك بسؤال نَعْجَتِكَ ضامّاً إيَّاها إلى نعاجه.
قال ابن تيمية: "والعرب تُضمّن الفعل معنى الفعل، وتُعَدِّيه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} أي: مع نعاجه و{وَمَنْ أَنْصَارِي إلَى الله} أي: مع الله، ونحو ذلك. والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمّن جمعها وضَمَّها إلى نعاجه.
وكذلك قوله: {وَإِنْ كادوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ضُمِّنَ مَعْنَى "يُزِيغُونك" و"يَصُدُّونَكَ". وكذلك قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ضُمّنَ معنى "نَجَّيْنَاه" و "خَلَّصْنَاهُ" وَكَذَلِكَ قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبادُ الله} ضُمِّنَ "يَرْوَى بها" ونظائره كثيرة.
المثال السابع
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول): {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ: أي: تَثَاقَلْتُمْ مائِلينَ أَوْ مُخلِدين إلى الأرض، فعُدِّيت كلمة "اثَّاقَلْتُم" بحرف "إلى" لأنها ضُمّنَت معْنَى كلمة "أخلد" أو "مَالَ".