النقدُ شيءٌ مهمٌّ في توضيح مكانة الأثر الأدبي المنقود، وبيانِ محاسنه، والتنبُّه لأغلاطه، في إنصاف وتُؤَدة، ورغبة في تدارُك الخطأ قبلَ انتشاره، والرُّجوع إلى الصواب.
والمؤسِف أنَّ مَن يتصدَّى للنقد هم غالبًا إمَّا ناقم يسعى للتحطيم والانتقام من الأثر الأدبي، ومِن صاحبه بحق وباطل، وليس له هدفٌ في الصواب والخطأ، وإنَّما هدفه في الإضرار والتشويه والتنفير، وهذا النَّوْع داءٌ وبيل، ومرض عُضال، سواء سُمِّي ناقدًا أو حاقدًا، وسواء دُعي كاتبًا أو هادمًا.
وهناك مَن يكيل المديحَ جزافًا، ويجعل من الحبَّة قبَّة، ويُغري صاحبَ الأثر الأدبي - وإن كان هزيلاً ضحلاً - بالغرور والتعاظُم والانتفاخ.
وهناك قَلَّة معتدلة تُثني وتشجِّع مَن يستحق الثناء، وتُنبِّه للخطأ، متحرية الإنصافَ والعدل، كالقاضي النزيه، هدفُها سليم، وغايتها نبيلة، فهذه الفئة هي الجديرةُ بلقب النقَّاد؛ لترفُّعها عن الأحقاد والمثالِب، ولابتعادها عن المديح الكاذب، والدعاوى الباطلة.
دور النقد في الأدب:
النقد الأدبي فنٌّ مِن فنون الأدب، وضرورةٌ من ضروراته، فيه تصحيحٌ للخطأ، وتقويم للمعوَّج، وتبيان مواطن القوَّة والضعف من الأثر الأدبي، وله أصولٌ وقواعدُ ومقوِّمات، مِن بينها الثقافة والاطِّلاع، وجَوْدة الذوق، ورهافة الحِسّ، والنزاهة في الحكم.
وليس النقد جديدًا، بل هو قديم مُوغِل في القِدَم، وكانت للعرب في الجاهلية أسواقٌ أدبيَّة يَفِد إليها الشعراءُ والأدباء والرواة، وتُنشَد فيها الأشعار، وتُجرَى المسابقات الأدبية في جوٍّ أدبيٍّ نادر، ويحكم كِبار الشعراء للفائز، مع ذِكْر المبرِّرات والحيثيات، وقد امتدتْ بعضُ تلك الأسواق في عصور الإسلام الأولى، وما زال للأدب والنقد دَورٌ هام، وإن كانتِ الأساليبُ والأغراض والمواطن قد طرأ عليها ما يُغيِّرها.
النابغة في سوق عكاظ:
حُكي أنَّ النابغة الذبياني كانتْ تُضرَب له قُبَّة من أدم بسوق عكاظ، يجتمع إليه فيها الشعراءُ، فدخل إليه حسَّان بنُ ثابت وعنده الأعشى، وقد أنشدَه شِعره، وأنشدتْه الخنساء قولها:
قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ
أَمْ ذَرَّفَتْ إِذْ خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ
حتى انتهت إلى قولها:
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ
كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ وَإِنَّ صَخْرًا لَمَوْلاَنَا وَسَيِّدُنَا
وَإِنَّ صَخْرًا إِذَا نَشْتُو لَنَحَّارُ
فقال: لولا أنَّ أبا بصير أنشدَني قَبلَك لقلتُ: إنَّكِ أشعر الناس، أنتِ والله أشعرُ مِن كلِّ أُنثى، قالت: والله مِن كلِّ رجل، فقال حسَّان: أنا والله أشعر منكَ ومنها، قال: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى
وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا وَلَدْنَا بَنِي الْعَنْقَاءِ وَابْنَيْ مَحَرَّقٍ
فَأَكْرِمْ بِنَا خَالاً وَأَكْرِمِ بِنَا ابْنَمَا
فقال: إنك شاعر: لولا أنَّك قلتَ: الجفنات، فقلَّلت العدد، ولو قلت: الجِفان لكان أكثرَ، وقلت: يلمعن في الضحى، ولو قلت: يبرقن بالدُّجى لكان أبلغ في المديح؛ لأنَّ الضيف باللَّيْل أكثرُ طروقًا.
وقلتَ: يقطرن من نجدة دمًا، فدلَّلت على قلَّة القتل، ولو قلت: يجرين لكان أكثرَ لانصبابِ الدم، وفخرتَ بما ولدت، ولم تفخرْ بمن وَلَدَك، فقام حسَّان منكسرًا منقطعًا.
معرفة عمر بالشعر:
قال الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين": وقال العايشي: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أعلمَ الناس بالشِّعر، ولكنَّه كان إذ ابتلي بالحُكم بين النجاشي والعجلان، وبين الحُطيئة والزِّبْرِقان كَرِه أن يتعرَّض للشعراء، واستشهد رجالاً للفريقين، مثل حسان بن ثابت وغيره، ممَّن تهون عليهم سِبالهم، فإذا سمع كلامَهم حَكَم بما يعلم، وكان الذي ظهر مِن حُكم ذلك الشاعر مُقنعًا للفريقين، ويكون هو قد تخلَّص بعرضه سليمًا، فلمَّا رآه مَن لا علم له يسأل هذا وهذا، ظنَّ أنَّ ذلك لجهله بما يعرف غيرُه، قال: ولقد أنشدوه شِعرَ زهير، وكان لشِعره مُقدِّمًا، فلمَّا انتهوا إلى قوله:
وَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلاَثٌ
يَمِينٌ أَوْ نَفَارٌ أَوْ جَلاَءُ
قال عمر - كالمتعجِّب من علمه بالحقوق، وتفصيله بينها، وإقامته أقسامها -:
وَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلاَثٌ
يَمِينٌ أَوْ نَفَارٌ أَوْ جَلاَءُ
يُردِّد البيت من التعجُّب.
وأنشدوه قصيدةَ عبدة بن الطبيب الطويلة التي على اللام، فلمَّا بلغ المنشد إلى قوله:
وَالْمَرْءُ سَاعٍ لِأَمْرٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ
وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ
قال عمر متعجبًا:
وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ
يعجبهم مِن حسن ما قسم، وما فصل.
وأنشدوه قصيدةَ أبي قيس بن الأسلت، التي على العين، وهو ساكت، فلمَّا انتهى المنشد إلى قوله:
الْكَيْسُ وَالْقُوَّةُ خَيْرٌ مِن الْ
إِشْفَاقِ وَالْفَهَّةِ وَالْهَاعِ
وجعل عمر يردِّد البيت، ويتعجَّب منه.
قال محمَّد بن سلاَّم الجُمحي عن بعض أشياخه، قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يكاد يَعرِض له أمرٌ إلاَّ أنشد فيه بيت شعر.
أنشد رجلٌ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قول طَرَفة بن العبد:
فَلَوْلاَ ثَلاَثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى
وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
فقال عمر: لولا أن أسيرَ في سبيل الله، وأضع جبهتي لله، وأجالسَ أقوامًا ينتقون أطايب الكَلِم كما ينتقون أطايبَ التمر لم أبالِ أن أكون قدمت.
أبو عمرو بن العلاء ورجل من أهل المدينة:
أنشد رجلٌ من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قولَ ابن قيس:
إِنَّ الْحَوَادِثَ بِالْمَدِينَةِ قَدْ
أَوْجَعْنَنِي وَقَرَعْنَ مَرْوَتِيَهْ
فانتهرَه أبو عمرو، وقال: ما لنا ولهذا الشِّعر الرخو، إنَّ هذه الهاء لم تدخل في شيء من الكلام إلاَّ أرختْه، فقال المدني: قاتلك الله، ما أجهلَك بكلام العرب! قال الله - جلَّ وعزَّ - في كتابه: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28 - 29] و﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25 - 26] وتعيبه؟! فانْكَسَر أبو عمرو انكِسارًا شديدًا.
دعاء:
اللهمَّ تقبَّل دعاءنا، واغفرْ ذنوبنا، وتبْ علينا، يا سميع الدعاء.
شعر ونقد:
قال علي بن الجهم:
خَلِيلِيَّ مَا أَحْلَى الْهَوَى وَأَمَرَّهُ
وَأَعْلَمَنِي بِالْحُلْوِ مِنْهُ وَبِالْمُرِّ فَمَا بَيْنَنَا مِنْ حُرْمَةٍ هَلْ رَأَيْتُمَا
أَرَقَّ مِنَ الشَّكْوَى وَأَقْسَى مِنَ الْهَجْرِ وَأَفْضَحَ مِنْ عَيْنِ الْمُحِبِّ لِسِرِّهِ
وَلاَ سِيَّمَا إِنْ أَطْلَقَتْ عَبْرَةً تَجْرِي
♦ لما أنشد المتنبي قوله يمدح سيف الدولة:
وَقَفْتُ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
قال سيف الدولة: يا أبا الطيِّب، قد انتقدْنا عليك، كما انتُقد على امرئ القيس في قوله:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِغَارَةٍ
وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالٍ وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ
لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
فقال المتنبي: أيُّها الأمير، إن صحَّ أن البزاز أعلمُ بالثوب من حائِكه، فقد صحَّ ما انتقد على امرئ القيس وعليَّ، فإنَّ امرئ القيس أحبَّ أن يقرن الشجاعة باللذَّة في بيت واحد، وهو الأول، وقد وقع مثل هذا في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى:﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ﴾ [طه: 118 - 119]، فإنه تعالى لم يراعِ فيه مناسبةَ الرِّي بالشبع، والاستظلال باللبس في تحصيل نوْع المنفعة، بل راعى مناسبةَ اللبس للشبع في حاجة الإنسان إليه، وعدم استغنائه عنه، ومناسبةَ الاستظلال للرِّي في كونهما تابعين للبس والشبع.
جرير:
كان جرير بن عطية بن الخطفي التميمي أحدَ الشعراء المبرزين، وقد ضَرَب بسهم وافر في فنون الشِّعر المختلفة، وعد بعضُ النقاد أغزلَ شعر قالتْه العرب قوله:
إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ
قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لاَ حَرَاكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ إِنْسَانَا
وأمدح بيت قالته العرب قوله:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وأفخر بيت قالته العرب قوله:
إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ
رَأَيْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا
وأهجى بيت قوله:
فُغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ
فَلاَ كَعْبًا بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
وأصدق بيت قوله:
إِنِّي لَأَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلاً
وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
وأشد بيت تهكمًا قوله:
زَعَمَ الْفَرَزْدَقُ أَنْ سَيَقْتُلُ مَرْبَعًا
أَبْشِرْ بِطُولِ سَلاَمَةٍ يَا مَرْبَعُ
جرير والأخطل:
حكى نفطويه: أنَّ جريرًا دخل يومًا على بشر بن مروان وعنده الأخطل، فقال بشر لجرير: أتعرف هذا؟
قال: لا، ومَن هذا أيها الأمير؟
فقال: هذا الأخطل.
فقال الأخطل: أنا الذي قذفتُ عِرضك، وأسهرتُ ليلَك، وآذيتُ قومك، فقال جرير: أمَّا قولك: شتمت عِرضك، فما ضرَّ البحرَ أن يشتمَه مَن غَرِق فيه، وأما قولك: أسهرت ليلك، فلو تركتني أنام لكان خيرًا لك، وأما قولك: وآذيت قومك، فكيف تؤذي قومًا أنت تؤدِّي الجزية إليهم؟! وكان الأخطل مِن نصارى العرب المستنصرة - قبَّحه الله.
جرير والفرزدق:
روى العتبي قال: قال هشام بن عبدالملك لشبَّة بن عقال - وعنده الفرزدق وجرير والأخطل، وهو يومئذ أمير -: ألاَ تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزَّقوا أعراضَهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم في غير خير، ولا بِرّ، ولا نفع - أيُّهم أشعر؟ فقال شبة: أمَّا جرير فيَغرِف من بحر، وأما الفرزدق فينحتُ من صخر، وأمَّا الأخطل فيجيد المدح والفخر، فقال هشام: ما فسرت لنا شيئًا نحصله، فقال: ما عندي غير ما قلت.
فقال لخالد بن صفوان: صِفهم لنا يا ابنَ الأهتم، فقال: أما أعظمهم فخرًا، وأبعدهم ذِكرًا، وأحسنهم عذرًا، وأشدُّهم ميلاً، وأقلُّهم غزلاً، وأحلاهم عللاً، الطامي إذا زَخَر، والحامي إذا خَطَر، الذي إن هدر قال، وإن خَطَر صال، الفصيح اللِّسان، الطويل العنان - فالفرزدق.
وأمَّا أحسنُهم نعتًا، وأمدحهم بيتًا، وأقلُّهم فوتًا، الذي إن هجَا وضع، وإن مدح رفع - فالأخطل.
وأما أغزرُهم بحرًا، وأرقُّهم شعرًا، وأهتكهم لعدوِّه سِترًا، الأغرُّ الأبلق، الذي إن طَلَب لم يُسبَق، وإن طُلِب لم يُلْحَق - فجرير.
وكلهم ذكيُّ الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد، فقال له مسلمة بن عبدالملك: ما سمعْنَا بمثلك يا خالدُ في الأولين، ولا رأينا في الآخرين، وأشهد أنَّك أحسنهم وصفًا، وألينهم عطفًا، وأعفُّهم مقالاً، وأكرمهم فعالاً، فقال خالد: أتمَّ الله عليكم نعمه، وأجزل لديكم قِسَمه، وآنس بكم الغربة، وفرَّج بكم الكربة - وأنت والله - ما علمتُ - أيها الأمير، كريمُ الغِراس، عالِم بالناس، جواد في المَحْل، بسام عند البَذْل، حليم عند الطيش، في ذروة قريش، ولباب عبد شمس، ويومك خيرٌ من أمس.
فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلُّصك يا ابنَ صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم، حتى أرضيتَهم جميعًا.
♦ قال عثمان البتي: رأيتُ جريرًا وما تُضمُّ شفتاه مِن التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا مع قذفك المحصنات الغافلات؟! فقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114] وعدٌ من الله حقّ.
♦ وبصر الفرزدق بجرير مُحرِمًا، فقال: والله لأفسدنَّ على ابن المراغة حجَّه، ثم جاء مستقبلاً له فجهرَه بمشقص[1] ثم قال:
فَإِنَّكَ لاَقٍ بِالْمَشَاعِرِ مِنْ مِنًى
فَخَارًا فَخَبِّرْنِي بِمَنْ أَنْتَ فَاخِرُ
فقال جرير: لبيك اللهم لبيك، ولم يجبْه.
♦ قال الأصمعي: قَدِم جرير المدينة، فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعبُ فيهم، فسلَّموا عليه وحادثوه ساعةً وخرجوا، وبقي أشعب، فقال له جرير: أراك قبيحًا، وأراك لئيمَ الحسب، ففيم قعودك وقد خَرَج الناس؟! فقال له: أصلحك الله، إنَّه لم يدخل عليك اليوم أحدٌ أنفع لك منِّي! قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذُ رقيقَ شِعرك، فأُزِّينه بحُسْن صوتي.
فقال له جرير: قل فاندفع يغنيه:
يَا أُخْتَ نَاجِيَةَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ
قَبْلَ الرَّحِيلِ وَقَبْلَ لَوْمِ الْعُذَّلِ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدِكُمْ
يَوْمُ الرَّحِيلِ فَعَلْتُ مَا لَمْ أَفْعَلِ
عذر واه:
قال القاضي محمَّد بن عمران لسالم بن أبي العفار - مولى هُذَيل، وكان ماجنًا -: ويحَك يا سالم، لك هيئة وسَمْت، أفلا تقصر عما أنت فيه؟ فقال: والله إني لأهمُّ بذاك، فإذا رأيتُ دار ابن عمِّك طلحة بن بلال لم يُخسَف بها علمتُ أنَّ في الأمر مهلة، وكان طلحة بن بلال مع موسى بن عيسى بالكوفة شيخًا ماجنًا أخبث الناس.
♦ قال عبدالملك بن مروان لجرير:
مَن أشعرُ الناس؟ فقال: ابن العشرين؛ يقصد: طَرَفة بن العبد.
قال: فما رأيك في ابني أبي سُلْمى؛ يقصد: زهيرًا، وابنه كعبًا، قال: كان شعرهما نيرًا يا أمير المؤمنين.
قال: فما تقول في امرئ القيس؟ قال: اتَّخذ الخبيثُ الشِّعر نعلين، وأقسم لو أدركتُه لرفعت دلادله - أسفل القميص مما يلي الأرض.
قال: فما تقول في ذي الرُّمة؟ قال: قَدَر من ظريف الشِّعر وغريبه وحسنه ما لم يقدر عليه أحد.
قال: فما تقول في الأخطل؟ قال: ما أخرج ابنُ النصرانيَّة ما في صدره من الشِّعر حتى مات.
قال: فما تقول في الفرزدق؟ قال: في يدِه والله نبعةٌ من الشِّعر قد قبض عليها - النبع: شجر تتخذ منه القِسي والسِّهام.
قال: فما أراك أبقيتَ لنفسك شيئًا؟ قال: بلى، والله يا أمير المؤمنين، إنِّي لمدينة الشِّعر التي منها يخرج وإليها يعود، نسبتُ فأطربت، وهجوتُ فأرديت، ومدحت فأسنيت، وأرملت فأغرزت، وزجرتُ فأبحرت، فأنا قلت ضروب الشعر كلَّها، وكل واحد قال نوعًا منها، قال: صدقت.
عروة بن أذينة:
وفَدَ عُروة بن أذينة الشاعر على هشام بن عبدالملك في جماعة من الشعراء، فلمَّا دخلوا عليه عَرف عُروة، فقال له: ألست القائل:
لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الْإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي
أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي أَسْعَى لَهُ فَيُعَنِّينِي تَطَلُّبُهُ
وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لاَ يُعَنِّينِي
وأراك قد رحلتَ من الحجاز إلى الشام في طلبِ الرِّزق؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، زادك الله بسطةً في العِلم والجسم، ولا رُدَّ وافدك خائبًا، والله لقد بالغتَ في الوعظ، وأذكرتِني ما أنسانيه الدهْر، وخرج مِن فوره، وركب راحلتَه متوجهًا إلى الحجاز، فلمَّا كان اللَّيلُ ذَكَره هشام وهو في فراشه، فقال: رجلٌ من قريش قال حِكمة ووفد إليَّ فجبهتُه ورددتُه عن حاجته وهو مع ذلك شاعر، لا آمَنُ ما يقول.
فلمَّا أصبح سأل عنه فأخْبر بانصرافه، فقال: لا جرمَ ليعلم أنَّ الرِّزق سيأتيه، ثم دَعَا مولى له وأعطاه ألفي دينار، وقال: الْحقْ بهذه ابن أذينة، وأعطِه إيَّاها، فأدركه وقد دخل بيته، فقرع الباب عليه، فخرج إليه فأعطاه المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين قولي: سعيت فأكديت، ورجعت إلى بيتي، فأتاني رزقي.
♦ قال ذو الرمة:
وَقَدْ كُنْتُ أُخْفِي حُبَّ مَيٍّ وَذِكْرَهَا
رَسِيسَ الْهَوَى حَتَّى كَأَنْ لاَ أُرِيدُهَا فَمَا زَالَ يَغْلُو حَبُّ مَيَّةَ عِنْدَنَا
وَيَزْدَادُ حَتَّى لَمْ نَجِدْ مَا يَزِيدُهَا
♦ قال أبو تمام: تذاكرنا الكلامَ في مجلس سعيد بن عبدالعزيز التنوخي وحُسنَه، والصمتَ ونبلَه، فقال: ليس النجم كالقمر، إنما نمدح السكوت بالكلام، ولا نمدح الكلام بالسكوت، وما أنبأ عن شيءٍ فهو أكثر منه.
♦ كان جرير قد هجا الراعي النميري بقصيدته البائية المشهورة التي منها قوله:
فُغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ
فَلاَ كَعْبًا بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
وبعد مدة مرَّ راكب يتغنَّى بقول جرير:
وَعَا وَعَوَى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ رَمَيْتُهُ
بِقَافِيَةٍ أَنْفَاذُهَا تَقْطُرُ الدَّمَا خُرُوجٌ بِأَفْوَاهِ الرِّجَالِ كَأَنَّهَا
قُرَى هُنْدُوَانِيٍّ إِذَا هَزَّ صَمَّمَا
فقال الراعي: لِمَن البيتان؟ قالوا: لجرير، قال: قاتله الله، لو اجتمعتِ الجنُّ والإنس ما أغنوا فيه شيئًا، ثم قال الراعي: أُلام أن يغلبني مثلُ هذا.
بنو عبد المدان:
كان بنو عبد المدان الحارثيون يفخرون بطول أجسامهم، وقديم شَرِفهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لاَ بَأْسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ غِلَظٍ
جِسْمُ الْبِغَالِ وَأَحْلاَمُ الْعَصَافِيرِ
فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تركتنا ونحن نستحي مِن ذكْر أجسامنا، بعد أن كنَّا نفخر بها، فقال لهم: سأُصلِح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:
وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ إِذَا رَأَيْنَا
لِذِي جِسْمٍ يُعَدُّ وَذِي بَيَانِ كَأَنَّكَ أَيُّهَا الْمُعْطِي لِسَانًا
وَجِسْمًا مِنْ بِنِي عَبْدِ الْمَدَانِ
♦ اختصم أعرابيَّان إلى بعض الولاة في دَين لأحدهما على صاحبه، فجعل المدَّعَى عليه يحلف بالطلاق والعتاق، فقال المدَّعِي: دعني من هذه الأيمان، واحلفْ بما أقوله لك: لا تَركَ الله لك خُفًّا يتبع خفًّا، ولا ظلفًا يتبع ظلفًا، وحتَّك من أهلك ومالك حتَّ الورق من الشجر إن لم يكن لي هذا الحقُّ قِبلك، فأعطاه حقَّه، ولم يحلف له.
أية هدية:
همَّ الفرزدق بهجاء عبد القيس، فأرسل إليه زياد بن سُلمى أبو أمامة العبدي المعروف بزياد الأعجم يقول: لا تعجلْ حتى أُهدي إليك هدية، فبعث إليه:
فَمَا تَرَكَ الْهَاجُونَ لِي إِنْ هَجَوْتُهُ
مَصَحًّا أَرَاهُ فِي أَدِيمِ الْفَرَزْدَقِ وَمَا تَرَكُوا عَظْمًا يُرَى تَحْتَ لَحْمِهِ
لِكَاسِرِهِ أَبْقَوْهُ لِلْمُتَعَرِّقِ سَأَكْسِرُ مَا أَبْقَوْهُ لِي مِنْ عِظَامِهِ
وَأَنْكُتُ مُخَّ السَّاقِ مِنْهُ وَأَنْتَقِي وَإِنَّا وَمَا تُهْدِي لَنَا إِنْ هَجَوْتَنَا
لَكَالْبَحْرِ مَهْمَا يُلْقَ فِي الْبَحْرِ يَغْرَقِ
العرجي:
كان الشاعر العرجي غازيًا، فأصابتِ الناسَ مجاعةٌ، فقال للتجار: أعطوا الناس وعليَّ ما تعطون، فلم يزلْ يعطيهم، ويُطعم الناس حتى أخصبوا، فبلغ ذلك عشرين ألف دينار، فألزمها العرجيُّ نفسَه، وبلغ الخبرُ عمرَ بن عبدالعزيز، فقال: بيْت المال أحقُّ بهذا، فقضى التجارَ ذلك المالَ مِن بيت المال.
عبدالملك والشعراء:
اجتمع جماعة من الشعراء عند باب عبدالملك بن مرْوان، فتذاكروا بيتَ نصيب، وهو قوله:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
أُوَكِّلْ بِدَعْدٍ مَنْ يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي
فما في القوم إلاَّ مَن عابه، وأزرى على نصيب فيه.
فقال عبدالملك: فما كنتم تقولون أنتم؟ فقال الأقيشر: كنت أقول يا أمير المؤمنين:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي
فقال له عبدالملك: أنت أسوأُ رأيًا من نصيب.
فقالوا: فماذا كنت تقول أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
فَلاَ صَلَحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي
فقالوا: أنت والله أشعرُ الثلاثة يا أمير المؤمنين.
♦ ومرَّ الفرزدق بخالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له خالد: يا أبا فِراس، ما أنت بالذي لَمَّا ﴿ رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ [يوسف: 31]، فقال له الفرزدق: ولا أنتَ الذي قالت الفتاة لأبيها فيه: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].
♦ قال ابن أبي طاهر: قلت لأبي تمام: أعنيت أحدًا بقولك:
فَبِتُّ كَأَنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى
يُحِبُّ الْغَانِيَاتِ وَلاَ يَرَاهَا
فقال: نعم، عنيتَ بشَّار بن برد الضرير، قال: وأنا أحسبه أراد قوله:
يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ
وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلِ الْعَيْنِ أَحْيَانَا قَالُوا: بِمَنْ لاَ تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهُمْ
الْأُذْنُ كَالْعَيْنِ تُوفِي الْقَلْبَ مَا كَانَا
♦ روى أبو تمام قال: مرَّ الطرماح بمسجد البصرة وهو يخطر في مشيته- يتمايل يمينًا وشمالاً فخرًا وخيلاءً - فقال رجل: مَن هذا الخطَّار؟ فقال: أنا الذي أقول:
لَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِيَ أَنَّنِي
بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئٍ غَيْرِ طَائِلِ إِذَا مَا رَآنِي قَطَّعَ الطَّرْفُ دُونَهُ
وَدُونِيَ فِعْلَ الْعَارِفِ الْمُتَجَاهِلِ مَلَأْتُ عَلَيْهِ الْأَرْضَ حَتَّى كَأَنَّهَا
مِنَ الضِّيقِ فِي عَيْنَيِهِ كِفَّةُ حَابِلِ
♦وقال خلاَّد الأرقط: سمعتُ مشايخنا من أهل مكَّة يذكرون القُسَّ، وهو مولى لبني مخزوم، كان عند أهل مكَّة بمنزلة عطاء بن أبي رباح، وأنَّه مرَّ يومًا بسلامة وهي تغني، فوقف يسمع فرآه مولاها، فدنا منه فقال: هل لك في أن تدخل وتسمع؟ فأبى، ولم يزلْ به فقال: أُقعِدك في موضع لا تراها، ولا تراك ففعل، ثم غنَّت فأعجبتْه، فقال: هل لك في أن أُحوِّلها إليك فأبى، ثم أجاب، فلم يزل به حتَّى شَغُف بها وشغفت به، وعلم ذلك أهلُ مكة، فقالت له يومًا - وقد خلَوَا -: أنا والله أُحبُّك، فقال: وأنا والله أحبك، قالت: فأنا أحبُّ أن أضع فمي على فمك، قال: وأنا والله، قالت: وأنا والله أُحِب أن أضع صدري على صدرك، قال: وأنا والله، قالت: فما يمنعك، والله إنَّ الموضع لخالٍ؟ فأطرق ساعة، ثم قال: إني سمعت الله يقول: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، وأنا والله أكره أن يكون خُلَّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة، ونَهَض وعاد إلى طريقته التي كان عليها.
قال عبدالأعلى:
♦ رأيت الطرماح مؤدِّبًا بالري، فلم أرَ أحدًا آخَذَ لعقول الرجال، ولا أجذبَ لأسماعهم إلى حديث منه، ولقد رأيتُ الصبيان يخرجون مِن عنده، وكأنَّهم قد جالسوا العلماء.
♦ عن النضر بن شُميل قال: دخلتُ على أمير المؤمنين بمرو، فقال: أنشدني أقنع بيت للعرب، فأنشدته قول الحكم بن عبدل:
إِنِّي امْرُؤٌ لَمْ أَزَلْ وَذَاكَ مِنَ الْ
لَهِ أَدِيبًا أُعَلِّمُ الْأُدَبَا أُقِيمُ بِالدَّارِ مَا اطْمَأَنَّتْ بِيَ الدْ
دَارُ وَإِنْ كُنْتُ نَازِعًا طَرَبَا لاَ أَجْتَوِي خُلَّةَ الصَّدِيقِ وَلاَ
أُتْبِعُ نَفْسِي شَيْئًا إِذَا ذَهَبَا أَطْلُبُ مَا يَطْلُبُ الْكَرِيمُ مِنَ الرْ
رِزْقِ بِنَفْسِي وَأُجْمِلُ الطَّلَبَا وَأَحْلِبُ الثَّرَّةَ الصَّفِيَّ وَلاَ
أُجْهِدُ أَخْلاَفَ غَيْرَهَا حَلَبَا إِنِّي رَأَيْتُ الْفَتَى الْكَرِيمَ إِذَا
رَغَّبْتَهُ فِي صَنِيعَةٍ رَغِبَا وَالْعَبْدُ لاَ يُحْسِنُ الْعَطَاءَ وَلاَ
يُعْطِيكَ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا رَهِبَا مِثْلَ الْحِمَارِ الْمُعَقَّبِ السُّوءِ لاَ
يُحْسِنُ مَشْيًا إِلاَّ إِذَا ضُرِبَا وَلَمْ أَجِدْ عُدَّةَ الْخَلاَئِقِ إِلْ
لاَ الدِّينَ لَمَّا اعْتَبَرْتُ وَالْحَسَبَا قَدْ يُرْزَقُ الْخَافِضُ الْمُقِيمُ وَمَا
شَدَّ لَعَيْشٍ رَحْلاً وَلاَ قَتَبَا وَيُحْرَمُ الرِّزْقَ ذُو الْمَطِيَّةِ وَالرْ
رَحْلِ وَمَنْ لاَ يَزَالُ مُغْتَرِبَا
كلٌّ يأكل صيده:
خَرَج المهدي وعليُّ بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيعٌ من ظباء، فأرسلت الكلاب، وأجريت الخيل، فرمى المهدي سهمًا فصرع ظبيًا، ورمى عليُّ بن سليمان فأصاب كلبًا، فقتله، فقال أبو دلامة:
قَدْ رَمَى الْمَهْدِيُّ ظَبْيًا
شَكَّ بِالسَّهْمِ فُؤَادَهْ وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَا
نَ رَمَى كَلْبًا فَصَادَهْ فَهَنِيئًا لَهُمَا كُ
لُ امْرِئٍ يَأْكُلُ زَادَهْ
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرْجه، وقال: صَدَق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة، ولقَّب عليَّ بن سليمان بصائد الكلب، فعلق اللقب به.
الهدايا:
وقال الحسين بن علي بن محمد الزبيدي اليمني:
هَدَايَا النَّاسِ بَعْضِهِمُ لِبَعْضٍ
تُوَلِّدُ فِي قُلُوبِهِمُ الْمَوَدَّهْ وَتَزْرَعُ فِي النُّفُوسِ هَوًى وَحُبًّا
لِصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْحَدَثَينِ عُدَّهْ وَتَصْطَادُ الْقُلُوبَ بِلاَ شِرَاكٍ
وَتُسْعِدُ حَظَّ صَاحِبِهَا وَجَدَّهْ
العباس بن الأحنف:
ذَكَر جماعةٌ من أهل البصرة، قالوا: خرجنا نريد الحج، فلمَّا كنَّا ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجَّة وهو ينادي: يا أيها الناس، هل فيكم أحدٌ من أهل البصرة؟ قال: فمِلْنا إليه، وقلنا له: ما تريد؟ قال: إنَّ مولاي لِمَا به يريد أن يوصيكم، فملنا معه فإذا بشخص مُلقًى على بُعْد من الطريق، تحت شجرة لا يحير جوابًا، فجلسْنا حوله، فأحسَّ بنا، فرفع طرْفه، وهو لا يكاد يرفعه ضعفًا، وأنشأ يقول:
يَا غَرِيبَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهْ
مُفْرَدًا يَبْكِي عَلَى شَجَنِهْ كُلَّمَا جَدَّ الْبُكَاءُ بِهْ
دَبَّتِ الْأَسْقَامُ فِي بَدَنِهْ
ثم أُغمي عليه طويلاً، وإنا لجلوس حولَه إذ أقبل طائرٌ فوقع على أعلى الشجرة، وجعل يغرِّد، ففتح الفتى عينَه، وجعل يسمع تغريدَ الطائر، ثم قال:
وَلَقَدْ زَادَ الْفُؤَادَ شَجًى
طَائِرٌ يَبْكِي عَلَى فَنَنِهْ شَفَّهُ مَا شَفَّنِي فَبَكَى
كُلُّنَا يَبْكِي عَلَى سَكَنِهْ
ثم تنفَّس نفسًا فاضتْ نفسه منه، فلم نبرحْ من عنده حتى غسَّلْناه وكفناه، وتولينا الصلاة عليه، فلمَّا فرغْنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف.
أبو تمام:
كان أبو تمَّام حاضرَ البديهة، سريعَ الخاطر، فكان إذا سأله إنسان أجابه قبلَ انقضاء كلامه، فقال له رجل: يا أبا تمام: لِمَ لا تقول من الشِّعر ما يُعرف؟ فقال: وأنت لِمَ لا تَعرِف من الشعر ما يُقال؟ فأفحمه.
وكان أبو تمام عندَ الحسن بن رجاء، وكان الحسن قد أمر حاجبَه ألاَّ يقف ببابه طالب حاجة إلاَّ أعلمه خبرَه، فدخل حاجبه يومًا يضحك فقال: ما شأنك؟ قال: بالباب رجل يستأذن، ويزعم أنَّه أبو تمام الطائي، قال: فقل له ما حاجتك؟ قال يقول: مدحتُ الأمير - أعزه الله - وجئت لأنشده، قال: أدخله، فدخل فحضرت المائدة فأكل معه، ثم قال له: مَن أنت؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، مدحتُ الأمير - أعزَّه الله.
قال: هاتِ مدحك، فأنشده قصيدةً حسنة، فقال: قد أحسنتَ، وقد أمرتُ لك بثلاثة آلاف درهم، فشكر ودعَا.
وكان الحسن قد تقدَّم قبل دخوله إلى الجماعة ألاَّ يقولوا له شيئًا، فقال له أبو تمام: نريد أن تُجيز لنا هذا البيت، وعَمِل بيتًا فلجلج، فقال له: ويحَك أما تستحي، ادعيت اسمي واسم أبي، وكنيتي ونسبي، وأنا أبو تمام، فضَحِك الشيخ، وقال: لا تعجلْ عليَّ حتى أحدِّث الأمير - أعزَّه الله - قصتي، أنا رجل كانت لي حال فتغيَّرت، فأشار عليَّ صديق لي من أهل الأدب أن أقصدَ الأمير بمدح، فقلت له: لا أحسن فقال: أنا أعمل لك قصيدة، فعمل هذه القصيدة ووهبَها لي، وقال: لعلك تنال خيرًا، فقال له الحسن قد نلتَ ما تريد، وقد أضعفتُ جائزتك، فكانوا ينادونه ويتولَّعون به، فيكنونه بأبي تمام.
بين الصاحب وابن العميد:
قال أبو حيَّان التوحيدي في كتابه "مثالب الوزيرين": وقلت لأبي السلم نجبة بن علي الشاعِر القحطاني: أين ابن عبَّاد من ابن العميد، فقد زرتهما منتجعًا، وزرتهما جميعًا؟ فقال: كان ابنُ العميد أعقل، وكان يدَّعي الكرم، وابن عبَّاد أكرم، وهو يدَّعي العقل، وهما في دعوتيهما كاذبان، وعلى سجيتهما جاريان.
أنشدت يومًا على باب دار ذا قول الشاعر:
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ فِي دَوْلَةِ امْرِئٍ
جَمَالٌ وَلاَ مَالٌ تَمَنَّى انْتِقَالَهَا وَمَا ذَاكَ مِنْ بُغْضٍ لَهَا غَيْرَ أَنَّهُ
يُؤَمِّلُ أُخْرَى وَهْوَ يَرْجُو زَوَالَهَا
فرُفع إليه إنشادي، فأخذني وأوعدني، وقال: انجُ بنفسك، فإني إن رأيتُك بعد هذا أولغتُ الكلابَ دمَك.
وكنت قاعدًا على باب هذا منذ أيَّام، فأنشدتُ البيتين على سهو، فرُفع إليه الحديث، فدعاني ووهب دريهماتٍ وخريقات، وقال: لا تتمنَّ انتقال دولتنا بعد هذا.
ثم قال أبو حيان: وأبو السلم هذا مِن أغزر الناس في الشعر، يحفظ الطم والرم - الطم: الشيء الكثير، والرم: الثرى - وكان طيِّبَ الإنشاد، رخيمَ النغمة، أنشدني لابن حسَّان:
إِنَّ الْجَدِيدَيْنِ فِي طُولِ اخْتِلاَفِهِمَا
لاَ يَفْسُدَانِ وَلَكِنْ يَفْسُدُ النَّاسُ لاَ تَطْمَعَا طَمَعًا يُدْنِي إِلَى طَبَعٍ
إِنَّ الْمَطَامِعَ فَقْرٌ وَالْغِنَى الْيَاسُ لِلنَّاسِ مَالٌ وَلِي مَالاَنِ مَا لَهُمَا
إِذَا تَحَارَسَ أَهْلُ الْمَالِ حُرَّاسُ مَالِي الرِّضَا بِالَّذِي أَصْبَحْتُ أَمْلِكُهُ
وَمَالِيَ الْيَأْسُ مِمَّا يَمْلِكُ النَّاسُ
المدح في الشعر العربي:
كان العرب قبلَ الإسلام في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، يعبدون الأوثان، ويشركون مع الله آلهة أخرى، يتبرَّكون بالأشجار والأحجار، ويلتمسون الشفاعة والزُّلْفى ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وكانت حالُ أهل الأرض الآخرين أسوأَ من حال العرب، وأشدَّ ضلالاً وكفرًا.
فلمَّا بعث الله نبيَّه محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنزل عليه القرآن العظيم، انتشر نورُ الإسلام، وشعَّ في أرجاء المعمورة، ودخل فيه الناس أفواجًا من كلِّ جنس وبلد ولون؛ لأنَّه دين البشر أجمعين.