الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي موضوعي هذا أسلِّط الضوء على قضية مهمة من قضايا النقد، وليس أي نقد؛ وإنما النقد الهزيل والفارغ.
وفي موضوعي هذا أعرِّف النقد، وأذكر فوائده وشروطه، وأذكر صورًا من النقد الهزيل والفارغ، ثم أختم بقواعد النقد.
النقد: هو تفحص الشيء المنقود، والحكم عليه، والتمييز بين الجيد والرديء، وبين النافع والضار.
ومن خلال النقد نُبرِز مكامن القوة والضعف، ونتعرَّف من خلاله على الإيجابيات، ونعمل على تحسينها وتطويرها، ونتعرَّف على السلبيات، ونعمل على تركها والتخلص منها.
ومن خلال النقد نستطيع النظر إلى قيمة الأشياء على حقيقتها، ويُصبِح لدينا القدرة على تقييم الأعمال والأفعال، ووزن الأفكار بالميزان الصحيح وبالمنطق السليم.
والنقد نوعان: سلبي وإيجابي؛ فالسلبي هو الذي يعمل على الهدم، أما النقد الإيجابي، فهو الذي يعمل على البناء والتطوير والتحسين من العمل والأداء.
والنقد السليم هو الذي يكون محافظًا على الثوابت، ومواكبًا للحضارة والتطور في ذات الوقت.
النقد - في نظري - وظيفته تشبه وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والناقد مكانته كمكانة مَن يقوم به - أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فالنقد مهمته التغيير والتطوير، وكذلك الأمر والنهي، والقائم بالنقد يؤدي هذه الوظيفة؛ ليميز بين النافع والضار، ويحكم على الأشياء، فيقدِّم ويُبرِز الجوانب الإيجابية، ويهدم ويترك الجوانب السلبية، ويعمل على استبدال ما هو خير بها؛ قال -تعالى-: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وإذا ما كان الذي يريد أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، وجب عليه أن تتوفر فيه شروط وعلى رأسها العلم، فكذلك الناقد، عليه الإحاطة بالعلم والبصيرة، والتحلي بالآداب والأخلاق، وأن يكون صابرًا محتسبًا، مشفقًا ورحيمًا؛ ولهذا مَن لم يبلغ عنده النِّصاب لا يزكي، وكذلك مَن لم يُحِطْ بشروط النقد عليه ألا يتكلم وينقد، بل ينتظر ويسكت.
ذكر الدكتور "عبدالكريم بكار" في كتابه "فصول في التفكير الموضوعي" ثلاثَ فوائد للنقد، هي:
1- وجود النقد ضروري للبقاء ضمن المسار الصحيح.
2- لرفع وتيرة العمل كلما أصابنا الكلل والملل.
3- لِمحاصرة الأخطاء التي تحدث أثناء التطبيق.
وبعد معرفة هذه الفوائد أوجِّه ندائي للناس، سواء أكانوا أفرادًا أو جماعات؛ لقبول النقد وتفهُّم هذه القضية؛ وذلك لعدة أسباب، منها - وأذكر أهمها -: أننا لا نملك الحقيقة جملةً وتفصيلاً، وكذلك ضرورة الانتفاع بما عند الآخرين.
ويكمن تحقق حصول هذا عند معرفة أنه ليس فينا الخير المطلق، ولا عند الآخرين الشرُّ المطلق.
وبعد ذكر هذه الفوائد الثلاث، وأقتصر عليها؛ لأن موضوعي ليس بسطًا لفوائد النقد؛ وإنما للإشارة إليها فقط؛ لأن موضوع النقد طويل، وله كثيرُ تفصيلٍ؛ ولهذا أفصِّل الحديث عن النقد الهزيل بالتحديد.
ذكرنا - فيما سبق - ما هو النقد وفوائده، إلا أن النقد عندما لا يكون في مساره الصحيح، ينتقل من دائرة النفع إلى دائرة الضر، ومن جهة الجِد إلى الهزل والفراغ وعدم النفع، وما هذا إلا بسبب وضع النقد، وإحداثه لمجرد النقد فقط؛ فهذا هو النقد الهزيل والفارغ من المضمون في ذات الوقت.
صور من النقد الهزيل:
1- عندما يكون النقد للانتصار الذاتي والشخصي، يكون نقدًا هزيلاً.
2- عندما يصبح النقد تشهيرًا، يكون نقدًا هزيلاً.
3- عندما يكون النقد لمجرد إلغاء المنقود، يكون نقدًا هزيلاً.
4- عندما يطرح النقد ولا يطرح معه الحل، يكون نقدًا هزيلاً.
5- عندما يفتقد الناقد للأسلوب، فإن نقده يكون هزيلاً.
6- عندما يكون النقد سلبيًّا لا إيجابيًّا، فإنه يكون نقدًا هزيلاً.
7- عندما يكون النقد هجمة شرسة وخروجًا غوغائيًّا، يكون هذا نقدًا هزيلاً.
8- عندما يفتقد النقد لمعالم الأخوَّة والتسامح والتناصح، يكون نقدًا هزيلاً.
9- عندما يكون في النقد ذكر للمثالب، وبخس في المناقب، يكون نقدًا هزيلاً.
10- عندما يختلط مع النقد الأهواءُ والانتصار للذات، يكون نقدًا هزيلاً.
11- عندما يُتقِن الناقد فنَّ النقد، ولا يتقن معه فن طرح الحل والخروج من الأزمة، فإن نقده هزيل.
12- عندما يخلو النقد من الأدب، ولا نجد فيه قيم الأخلاق، فإنه يكون نقدًا هزيلاً.
13- عندما يخرج النقد عن حده ويتجاوز أهدافه، فإنه يصبح نقدًا هزيلاً.
14- عندما يظن الناقد بنفسه أنه وقف على كامل الحقائق، فإنه هو ونقده سيكونان هزيلَينِ.
15- عندما لا يكون النقد إلا سيفًا مُصْلتًا على الآخرين لكشف عيوبهم، ولإخفاء عيوب الذات والنفس، فإنه سيكون نقدًا هزيلاً.
16- عندما يكون النقد وسيلة لجعل كل ما في الحياة مظلمًا وسوداويًّا، ووصف كل شيء بالتخلف، والإكثار من لَمْز الأمور بالرجعية، فإنه نقد هزيل.
17- عندما يصبح النقد انتقادًا، ويتحول من بناء إلى هدم ويبتعد عن الهدف، فإنه سيكون نقدًا هزيلاً.
18- إذا كان النقد سيؤدِّي إلى رجوعٍ ونكوصٍ إلى الوراء، وباعثًا للإحباط والسأم، فإنه سيكون نقدًا هزيلاً.
19- عندما يكون النقد للتدمير لا للتطوير، فإنه سيكون نقدًا هزيلاً.
20- عندما ينتقل النقد من نقد الأفكار لنقد الشخوص، فإنه سيكون نقدًا هزيلاً.
قواعد في النقد:
بعد ذكر كل هذا، أذكُر عدَّةَ قواعدَ يجب توافرُها في النقد، وأن يسير عليها الناقد؛ ليصبح نقده سليمًا مبتعدًا عن الهزل والغوغائية والفراغ.
ومنها:
1- البعد عن التعصب.
2- البعد عن الذاتية والأنانية.
3- البعد عن الهوى وأسبابه وبواعثه.
4- البعد عن البحث عما في النيات والبواطن.
5- البعد عن التشويه والتجريح.
6- عدم التعالي على الآخرين، أو ازدراؤهم بما لديهم.
7- عدم القيام بالنقد أمام الآخرين، والنصح بانفراد.
تَعمَّدْنِي بنُصحِكَ في انفرادٍ
وجنِّبْنِي النصيحةَ في الجماعهْ فَإنَّ النصحَ بين الناسِ نوعٌ
من التوبيخِ لا أرضَى استِمَاعَهْ فَإنْ خَالَفْتَنِي وعصيتَ أمْري
فَلا تَجْزعْ إذا لم تَلْقَ طَاعَهْ
8- عدم تحميل الأمور أكثر مما تحتمل.
9- عدم بخس الناس أشياءهم، فصحيح أنك تصلح خللاً، إلا أنه في ذات الوقت لا تبخسهم وتلغي خيرهم.
10- عدم إساءة الظن بالآخرين.
11- الحفاظ على التجرد والإنصاف.
12- الحفاظ على الأسلوب الراقي في النقد.
13- الصراحة في النقد والبعد عن الغموض، واللجوء إلى تبسيط الأمور وعدم تعقيدها.
14- لا تنتقد إلا إذا وفرت الحل.
15- مراعاة أحوال المنقودين.
16- مخاطبة المنقودين على قدر عقولهم.
17- مراعاة مكانة المنقودين.
18- أن يكون النقد قائمًا على أصول الشرع، أو العقل السليم.
19- العمل على تخفيض مستوى الجهل الذاتي الداخلي والخارجي في المجتمع كذلك.
20- الحفاظ على معاني الأخوَّة الإسلامية.
21- تذكَّر أن النقد لا يُفسِد للوُدِّ قضية.
22- ضرورة إعطاء الآخرين فرصة للتغيير ولمراجعة النفس.
23- عدم محاسبة الآخرين لمجرد رؤية فعل لمرة واحدة صدر عن شخص، أو سماع كلمة لأول مرة منه، فلربما أخطأ أو زل أو فعل دون عمد وقصد أو جهلاً منه.
24- انتقاء أحسن الأسلوب وأجمل العبارات في النقد؛ لأن النقد إصلاح وبناء.
25- لا تحاول البحث عن خفايا الأمور والأشخاص، والتنقيب عن العثرات، لتنقد؛ وإنما انقد ما تراه ظاهرًا.
26- ألا يكون النقد سببًا للتشهير بالآخرين، والحطِّ منهم، والعمل على هدمهم.
27- العمل على الموازنة في النقد؛ وذلك من خلال التقدير في قدر الفائدة الحاصلة من النقد أو عدمها.
28- معرفة نتيجة النقد أو توقعها، وسؤال النفس: هل سيؤدي هذا النقد إلى إصلاح أم إلى إفساد؟ كما هو في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلربما حصل بالنقد فسادٌ أكبر مما هو موجود، أو للوقوع في أخطاء أكبر مما هو حاصل وواقع، ولا ننسَ (خير الخيرين، وشر الشرين في ذلك).
29- ترك العمل بناءً على الأحكام المسبقة، والتصورات المرسومة مسبقًا.
30- في النهاية لا تنتظر قبول الآخرين لنقدك؛ وإنما عليك البلاغ والنصح والإصلاح.
وأكتفي بهذا، والحمد لله رب العالمين.