محمود محمد شاكر رجل غير عادي في عصرنا، يمكن أن تصفه بأنه كان بما له وما عليه "أمة وحده" رحمه الله وغفر له.
عاش تسعين عاماً فقد ولد في الإسكندرية في شهر المحرم من عام 1327هـ الموافق لشهر شباط "فبراير" من عام 1909م ، وتوفي في القاهرة في شهر ربيع الثاني من عام 1418 هـ الموافق لشهر آب "أغسطس" 1997م.
ولد في أسرة دين وعلم فأبوه شيخ فاضل تقلب في مناصب دينية منها أنه كان وكيلاً للجامع الأزهر، وله مقال ناري في مهاجمة كمال أتاتورك يوم ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924م، يمكنك أن تجده في كتاب الدكتور محمد محمد حسين "الاتجاهات الوطنية". أما أخوه الشيخ أحمد فكان محدثاً عاش عمره وهو يخدم السنة المطهرة.
ولا يرمي هذا المقال إلى الكتابة عن آثاره المباركة وجهوده المبرورة في الدفاع عن أمته ودينه ولغته وحضارته، التي يمكن أن تجد حديثاً عنها في كتاب الأستاذ محمود إبراهيم الرضواني "شيخ العربية وحامل لوائها أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق"، أو في كتاب "دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أبي فهر"، وهو كتاب أعده عدد من محبيه وتلامذته بمناسبة بلوغه سن السبعين وأهدوه إليه، لكن هذا المقال يرمي إلى تقديم صورة كلية عنه تحاول أن تنصفه بما له وما عليه، وتحاول أن تفسر شخصه وعصره.
وأنا أعلم صعوبة هذه المحاولة لأن رسم الإطار العام لشخص وعصر أمر تكتنفه صعوبات كثيرة، ذلك أنك مطالب بلملمة جزئيات وأشتات كثيرة ووضعها في حيز واحد يجمع عناصرها ويفسر متناقضها، كما أنك مطالب بالنزاهة والأمانة، ثم إنك مطالب بالصراحة في تناول علم شامخ بحيث تقول ما له وما عليه، وهو علم غير عادي في عصرنا له من يحبه ومن يعاديه في كل مكان، ومع علمي هذا سأحاول ومن الله عز وجل العون والتوفيق.
كان الفقيد مجموعة شخصيات في شخصية، كان فيه صدق المسلم المؤمن الموحد المعتز بدينه أي اعتزاز، وكان فيه خلق العربي الذي أحب أمته وما يتصل بها حباً ملك عليه أقطار نفسه، وكان فيه قدر من الإباء والعناد يمتزج بقدر مماثل من طبيعة الفارس المقاتل الذي يشعر أنه ينبغي أن يكون آخذاً بعنان فرسه على الدوام ليذود عن الحمى ويصون الذمار إذا سمع الصريخ. ولقد تملكه إحساس هائل بأن مجمل الظروف العامة والخاصة جعلته مطالباً أن يكون أكثر من سواه بشير أمته ونذيرها معاً، وهو في هذا يلتقي مع أستاذه مصطفى صادق الرافعي الذي كان يمتلكه هذا الشعور إزاء أمته، وهذا أحد الأسباب المهمة في حبه للرافعي وإعجابه به منذ أن راسله عام 1921م حتى وفاته عام 1937م، وقد حزن عليه يومها حزناً شديداً، وحين ألف الأستاذ محمد سعيد العريان كتابه الشيق "حياة الرافعي" كتب له الفقيد مقدمة بديعة، رحم الله الجميع وأحسن إليهم.
وثمة جانب آخر في شخصية الفقيد وهو أنه يحمل قلب طفل فيه الطيبة والبراءة والعفوية والدهشة والانفعال، فضلاً عن سرعة الغضب وسرعة الرضا، والجهر بما عنده دون مداراة أو مجاملة.
محمود محمد شاكر مسلم خالص الإسلام، عربي خالص العروبة، عاش عمراً مديداً حافلاً بالأحداث العامة والخاصة التي تركت آثارها عليه، العامة على صعيد الأمة إذ شهد انطواء الراية العثمانية التي مثلت الخلافة الإسلامية في آخر مراحلها والتي كانت -بما لها وما عليها- دولة تتبنى الشريعة وتحفظ بلاد المسلمين في رقعة واسعة ممتدة، كما كانت سداً عسكرياً منيعاً أمام الهجمة الاستعمارية الصليبية على العالمين العربي والإسلامي ولابد أنه قرأ مقال أبيه الذي سبقت الإشارة إليه في بكائها.
وشهد كذلك سقوط العالم الإسلامي إلا قليلاً منه في قبضة الغزاة المستعمرين، وشهد حركات الجهاد والتحرير ضد هؤلاء الغزاة، وهي حركات كان وقودها الأكبر هو الحمية الدينية لدى أبناء المسلمين، ثم شهد جلاء الغزاة ومجيء الحكومات الوطنية التي قادت البلاد والعباد في مسلسل من التيه بين ثوب ديمقراطي تغريبي، أو عسكري ديكتاتوري، أو ليبرالي علماني، أو حزبي متسلط غشوم، وكان المسلسل في حقيقته مجموعة من الكوارث والنكبات، كان الفقيد يعبر عنه بمرارة فيقول لأبناء أمته: يا أبناء إسماعيل أنتم في التيه، وكأنه يراهم في تيههم يكررون تيه بني إسرائيل. وشهد الفقيد كذلك كارثة سقوط القدس وخروجها من أيدي المسلمين، ورأى تداعيات ضعف الأمة وتآكلها وانقسامها حتى باتت تلهث وراء حل سلمي مع الصهاينة لا يعيد الحقوق ولا يصون الكرامة ولا يحفظ ماء الوجه، ولابد أنه مات وفي قلبه من هذا جراحات كثيرة.
وشهد الفقيد في العقود الأخيرة وبالذات بعد نكبة 1967م انحسار موجة الشعارات القومية والاشتراكية واليسارية والعلمانية والبعثية التي كان زعماؤها ودعاتها السبب الأكبر في النكبة. كما شهد بداية الموجة التي اصطلح على تسميتها بالصحوة الإسلامية وهي موجة متداخلة عبرت عن نفسها بممارسات كثيرة يتداولها الصواب والخطأ وهي بحاجة إلى فرز وتحليل عميقين جداً للخروج بالعبر المستقاة منها خاصة بعد الدروس المرة التي لا تخفى على أحد في أفغانستان[1] وإيران وغيرهما. ولابد أن الفقيد مات وفي قلبه من هذا جراحات وأحزان.
هذا العصر الحافل بالأحداث العامة الكبيرة كانت له انعكاساته على حياته الخاصة، أولاً: لأن التداخل بين الخاص والعام أمر لابد منه، ثم لأنه شخص كان يعيش لأمته ودينه ولغته وحضارته وثقافته، وكان يدرك حجم المؤامرة عليها كما كان يدرك حجم تقصيرها في حق نفسها، وأيضاً لأنه كان رجلاً حاد الطباع، قلق النفس، متوتراً، كأن أعصابه شعلة من نار.
وجاءت مجموعة من الأحداث الخاصة لتلتقي مع المؤثرات العامة المشار إليها فتزيد من أزمة الفقيد وحدته، دخل الجامعة عام 1926م وتتلمذ على أستاذه الدكتور طه حسين في قسم اللغة العربية في جامعة الملك فؤاد "جامعة القاهرة فيما بعد"، وكان الدكتور طه حسين قد طلع على الناس بدعوى انتحال الشعر الجاهلي وهي قضية شغلت الناس كثيراً في حينها، وكان الفقيد يرى أن أستاذه مخطئ من جانبين:
الأول: أن الفكرة في ذاتها خطأ.
والثاني: أن الدكتور طه أخذ الفكرة من المستشرق مرجليوث ولم يشر إلى ذلك وهو عنده سطو يخالف الأخلاق، فضلاً عن التقاليد العلمية المقررة. وكبر الأمر عليه فغادر الجامعة وهو في السنة الثانية عام 1927م دون أن يتم دراسته، وعكف في داره على تثقيف نفسه والتبشير بأفكاره والانقطاع إلى الكتابة مرة والانقطاع عنها مراراً وظل على هذا الحال سبعين عاماً منذ ترك الجامعة حتى وفاته 1418هـ / 1997م.
وفتح الفقيد بيته وقلبه ومكتبته للناس، وبخاصة لطلبة الدراسات العليا في العلوم العربية والإسلامية الذين كانوا يؤمون الجامعات المصرية من شتى بلدان العالمين العربي والإسلامي، فاستفاد منه الكثيرون في اقتراح موضوع، أو حل معضلة، أو تحقيق قضية، فضلاً عن الانتفاع من مكتبته الزاخرة بالكتب والمخطوطات ومن نصائحه الثمينة لما يواجهونه من صعوبات، وكانت داره كأنها خلية علم لهؤلاء الطلبة ولغيرهم من أعلام الشعر والأدب والثقافة، وربما تحولت إلى ما يشبه داراً للضيافة أحياناً، ومنها تخرج أناس بلغوا أعلى المناصب وحملوا أعلى الدرجات، وقد انتهت الأمور بينه وبين بعضهم إلى الخصومة وهو ما جعله يصفهم بالعقوق.
وفي العهد الناصري دخل السجن مرتين، وهو ما ترك في نفسه جراحاً كثيرة، وفي المرة الثانية لازمه إثر خروجه من السجن نوع من الاكتئاب والسخط، تخلص منه أو من جزء منه بصعوبة بالغة.
فإذا أضفت إلى ذلك أنه ظل سبعين عاماً، منذ أن هجر الجامعة حتى وفاته بدون دخل ثابت، تبين لك أن هذا الأمر شغله، خاصة بعد أن كبر، وجاءه ولداه فهر وزلفى في خريف العمر، ولابد أنه كان يشعر بالقلق إزاءهما وهو ينظر إلى شمسه تغرب شيئاً فشيئاً رحمه الله وأحسن إليه.
من هنا يمكن القول: إن تلاقي الأحداث العامة مع الأحداث الخاصة في عمره المديد ترك آثاره على حياته بصورة حادة لا يخطئها من اتصل به أدنى اتصال.
محمود محمد شاكر مسلم صادق الإسلام أحب هذا الدين ومنحه ولاءه وأخلص له، وأحب نبيه الكريم-صلى الله عليه وسلم-، وقرآنه العظيم، وحضارته وثقافته.
وهو عربي خالص العروبة أحب العرب وأخلص لهم ودافع عنهم، وكانت نفسه ملأى بالاعتزاز بهم وبلغتهم وبشعرائهم وبرموزهم في كل ميدان.
وقد تداخل عنده هذان الحبان، حب الإسلام وحب العرب، وهذا أمر منطقي ومبرر، فالعرب مادة الإسلام وهم حاملو رايته ولوائه، ثم إن العربية لغة هذا الدين، والعرب منحوا الإسلام ولاءهم فارتفعوا به، والإسلام يرفع معتنقيه عامة، فكيف إذا كانوا أصحاب مزايا تجعلهم جديرين بأن يكونوا أول من حمله والله أعلم حيث يجعل رسالته؟
ولما كانت اللغة العربية هي لغة الإسلام، كان ينبغي أن تحظى بعناية خاصة قبل الجميع وبالذات من المشتغلين بنشر الدعوة الإسلامية، ذلك أنها المفتاح الصحيح لفهم هذا الدين فهماً سليماً، وقد لاحظ الشاعر الكبير محمد إقبال ‘ أن العقل العربي المسلم في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أفضل من أخيه العقل المسلم غير العربي في جملته، وأرجع ذلك إلى اللغة، وقد صدق الشاعر الكبير في هذه الملاحظة التي تؤكدها شواهد كثيرة.
والملاحظ في حركة المد والجزر في التاريخ الإسلامي أنه كلما انتشر الإسلام مقترناً بانتشار العربية كان أدوم للإسلام وللعربية معاً، ولذلك حين كان ينحسر الإسلام في بلد عربي لسبب ما يظل هذا الانحسار أقل من مثيله حين يقع في بلد مسلم غير عربي، والمثال التركي أوضح الأمثلة على صدق هذا الرأي وقوته، فلقد كان حجم الانحسار في تركيا هائلاً لأسباب كثيرة منها أن الأتراك لم يتعربوا يوم كانوا قادرين على ذلك ولعل هذا هو أكبر أخطائهم على الإطلاق، ولو أنهم تعربوا لظلت صلتهم بالإسلام أفضل لامتلاكهم أهم أدوات فهمه وهي اللغة. والعبرة المستفادة من ذلك للمهتمين بنشر الدعوة الإسلامية هي أن يحرصوا على نشر العربية معها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك أعون على صحة الفهم من ناحية، وأعون على الدوام من ناحية.
هذا الأمر وعاه الفقيد رحمه الله وأحسن إليه، وكان أحد أسباب حبه للعربية والدفاع عنها، وهو سبب يضاف إلى الأسباب الأخرى من عظمة هذه اللغة بحد ذاتها ومن عروبة الفقيد الصميمة. وحب العربية يقود بالضرورة إلى حب العرب، وحب العرب يتداخل مع حب الإسلام عند كل عربي وعند كل مسلم، وهكذا كان الفقيد.
على أن حبه لأمته المسلمة عامة والعربية منها خاصة لم يكن يخلو من السخط عليها، فقد سخط عليها كما سخط على أعدائه وأعدائها، والفارق بين السخطين أنه جهر بسخطه على العدو في شجاعة خلافاً لسخطه على أمته الذي كان يداريه ويغالبه لكنه يأبى إلا أن يظهر بين الحين والآخر. ومرد هذا السخط إلى شعوره أن الأمة لم تبوئه المكانة التي يستحقها وذلك عنده نوع من الجحود والعقوق، ولعله نسي أنه هو بطبعه ومزاجه السبب الأكبر في ذلك.
كانت حكمته أقل من علمه، وأنا أعلم أن هذا الكلام يغضب عدداً من محبيه وعارفي فضله وأنا واحد منهم، لكن هذه هي الحقيقة، وربما كان في الأمثلة ما يؤكد الفكرة وينفي عنها شبهة المبالغة.
هذا الرجل الذي عاش فترة طويلة من عمره فاتحاً قلبه وعقله وبيته ومكتبته وخبرته لطلبة الدراسات العليا، كان بوسعه أن يجعل من هؤلاء الطلبة رسل خير يتبنون أفكاره الجيدة النافعة ويعممونها حيث يكونون في مختلف المواقع الثقافية التي يحتلونها وعلى امتداد العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يترك لا محالة أعمق الآثار وأنفعها للعرب والمسلمين، ولما كان يؤمن به ويدعو إليه ويبشر به ويقاتل من أجله ويحترق بسببه. لكننا لا نجد من هذه الآثار إلا النزر القليل، والسبب هو مزاجه الحاد الذي كان يصطلي به رواده ومحبوه، فينفر من ينفر ويسكت من يسكت، ولطالما سمع منه هؤلاء اتهاماً لهذا أو ذاك بالجهل أو السوء وما يشبه ذلك. لقد كانت لديه القدرة على كسب الناس ثم خسارتهم كلياً أو جزئياً، ولو كان حظه من الحلم والأناة والحكمة والتودد إلى الناس والصبر على أخطاء الطلبة الذين يرونه أستاذهم ومرشدهم مماثلاً لحظه من العلم لصنع خيراً كبيراً لهم ولأمته ولغته ودينه ولنفسه أيضاً.
من أروع ما مر بي من ضرورة التوازن بين العلم والحكمة جملة بديعة جداً تقول: "درهم مال يحتاج إلى درهم عقل لحسن تدبيره و القيام عليه، لكن درهم علم يحتاج إلى درهمي عقل للانتفاع منه"، وهي جملة بليغة جداً، فالعلم وحده معلومات "خام" فيها صواب وفيها خطأ، والعقل هو الذي يفرز الصواب والخطأ من ناحية، ثم هو الذي يدل صاحبه كيف يستعمل الصواب منه زماناً ومكاناً ومناسبة من ناحية. ولقد أدى الخلل بين العلم والحكمة في التاريخ الإسلامي إلى كوارث محزنة في مجالات العلم والدعوة والسياسة منذ الخوارج إلى أيامنا، وسوف تظل هذه الكوارث تطل برأسها ما ظل هذا الخلل.
ولا أزال أذكر أول مرة زرت فيها الفقيد في بيته في مصر الجديدة عام 1963م، حيث اصطحبني إليه الأخ الصديق النبيل عبد العزيز السالم وكنا طالبين في السنة الرابعة من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة وكانت صلته به أسبق من صلتي، وكيف كان الزميل النبيل يحدثني في الطريق عن بدواته ومزاجه ويدعوني لأحتمل ما قد يسوؤني منه، ومن يومها وطنت نفسي على ذلك، فما زرته في بيته في القاهرة أو في الرياض التي كان يأتي إليها لأسباب عامة أو خاصة، إلا وأنا على أتم الاستعداد لاحتمال كل ما يقول، لاقتناعي بنصيحة الزميل العاقل، ولشعوري أن هذا الرجل نادر حقاً وله مزايا كبيرة فاحتماله مكرمة لا مهانة، ولقد سمعت منه فعلاً واحتملت.
ومن العجب أن هذا الرجل منذ خصومته مع أستاذه طه حسين اختار الصمت أكثر مما اختار الكلام مع كل الدواعي الشخصية والعامة التي تدعوه إلى الكلام. يبدو لي أنه عاقب نفسه وعاقب أمته بهذا الموقف ولم يعاقب من يراهم أهل الخطأ والزيغ من مبشرين ومستغربين وعلمانيين ومن إليهم.
هذا الموقف يذكرني بطرفة مرت بي في كتاب "الأيام" للدكتور طه حسين، يروي فيها أنه وزملاءه من طلبة الجامعة امتنعوا عن حضور درس لأستاذ إيطالي مستشرق كان يدرسهم احتجاجاً على إيطاليا لأنها قامت بغزو ليبيا، كما لو كان هذا الأستاذ الإيطالي "نلينو" هو المسؤول عن الغزو وكما لو كان الامتناع عن حضور درسه هو الرد الصحيح، يومها قال الأستاذ الإيطالي لطلبته: مثلكم مثل الذي أراد أن يعاقب زوجته فخصى نفسه.
ومن العجب أيضاً أن إنتاج هذا الرجل قليل بالقياس إلى عمره المديد وإلى العقود السبعة التي عاشها متفرغاً لما يريد بدون عمل ولا دخل، ولو أنه أحسن استثمار وقته، لكان إنتاجه أكثر بكثير، فسبعون عاماً مدة طويلة مباركة، وبخاصة لشخص في ذكاء محمود محمد شاكر وعلمه وتفرغه وسعة مكتبته والتفاف الناس حوله، ولكن المزاج الحاد أضاع عليه -وعلى الأمة من بعده- هذا العطاء المنتظر. لقد كان هناك من هو أقل منه علماً وغيرة وحرقة على الدين والأمة واللغة، ولكنه كان أكثر إنتاجا منه، ومرد ذلك، إلى حسن التعامل مع الوقت ومع الناس، فضلاً عن اعتدال المزاج والتوازن بين العلم والحكمة، ولولا أن تسمية بعض هؤلاء لها محاذيرها لفعلت.
ومن العجب أيضاً أن هذا الرجل لم يستطع تجاوز أزمته مع الدكتور طه حسين، فقد ظلت هاجساً ملحاً عليه منذ أن وقعت حتى مات، أي سبعين عاماً. حقاً لقد كانت الأزمة مهمة على مستواه الشخصي وعلى مستوى الأمة، لكن التعامل مع أزمة ما ينبغي ألا يتحول إلى عقدة دائمة بحيث تأخذ أكبر من الاهتمام المكافئ لها وبحيث تجور على اهتمام آخر ينبغي أن يوجه لأزمة أخرى قد تكون أخطر وأكبر، ولكنه -مرة أخرى- المزاج الحاد وعقابيله.
وثمة نقطة أخرى هي من العجب، بل من أعجب العجب، وهي أن الرجل الغيور على دينه ولغته وأمته وثقافته لم يشتغل بفكر البدائل كما اشتغل بفكر المكاشفة والمواجهة. إن معرفة الداء تحتاج إلى شجاعة عقلية لأن هذه المعرفة عمل فكري بالدرجة الأولى، وإن الجهر بهذه المعرفة يحتاج إلى شجاعة أدبية لأن الجهر قوة نفسية تصدم الآخرين فيما يعتقدون، ولقد امتلك الفقيد الشجاعتين العقلية والنفسية على السواء. ولكن هذا كله هو نصف المطلوب، أما النصف الآخر والأخطر أيضاً فهو تقديم البدائل، وماذا عسى ينفعك الطبيب الحاذق إذا عرف داءك وأعلمك به ولم يصف لك الدواء؟ نعم لقد كان للفقيد اجتهاده في هذا المجال لكنه كان أقل من المتوقع من رجل في حجمه، وكان أيضاً أقل مما شغل به نفسه في عمره المديد.
أبا فهر: لقد حاولت أن أكون منصفاً صريحاً وعساي وفقت. فإن كان في حديثي ما يغضب أحداً من محبيك -وأنا منهم- فلي العذر، وقد تعلمنا منك فيما تعلمنا الشجاعة في الجهر بالرأي.
رحمك الله يا أبا فهر وأجزل لك المثوبة "اللهم تقبل عمله واغفر زلته غير خال من عفوك ولا محروم من إكرامك، اللهم أسبغ عليه الواسع من فضلك والمأمول من إحسانك، اللهم أتمم عليه نعمتك بالرضا وآنس وحشته في قبره بالرحمة واجعل جودك بلالاً له من ظمأ البلى ورضوانك نوراً في ظلام الثرى"[2].
أبا فهر: للشعر فيك موعد قادم بإذن الله أرجو أن أوفق فيه لما يليق بمكانتك.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] في أفغانستان سقط الحكم الشيوعي، وآل الأمر إلى الذين قادوا الجهاد الأفغاني ضد الشيوعيين فاقتتلوا فيما بينهم، وقضوا على الأمل الذي تعلق به المسلمون في العالم كله ودعموه، وهو أمل الالتفاف حول جهاد خالص يقيم حكماً عادلاً ونموذجاً مشرفاً للعمل الدعوي والجهادي إذا انتصر، وظهروا خليطاً من نسب متفاوتة من العصبية القبلية الجاهلية، والرغبة الحادة في السلطة، وولاء إسلامي مشوش، فضلاً عن الجهل بحقائق السياسة والجغرافية والاقتصاد، والعجز عن إيجاد طرق حضارية لحل الخلافات تعتمد على ضوابط ومرجعيات لها احترامها، وكل ما يقال عن التدخلات الأجنبية في إيقاد الفتن فيما بينهم لا يصلح للدفاع عنهم فهم المسؤولون أولاً وقبل كل أحد عن الكارثة، لقد كانوا -في جملتهم- نموذجاً رائعاً في إزهاق الباطل لكنهم لم يكونوا كذلك في إحقاق الحق، وكانوا نموذجاً رائعاً في مرحلة القتال لكنهم لم يكونوا كذلك في مرحلة الدولة. والتمييز بين المراحل يحتاج إلى ذكاء وشجاعة نفسية، وكما ينبغي للقائد أن يشهر سيفه عند الحاجة للحرب ويحشد الناس لها، ينبغي له أيضاً أن يغمد سيفه عند الحاجة للسلم ويحشد الناس للبناء والتعمير. إن للموت صناعة، وإن للحياة صناعة، ولا بد من كل منهما في ظروفه، على أن صناعة الحياة أهم وأجدى، ودواعيها أكثر، وحساباتها أدق، والحكيم من يحسن اختيار الصناعة المطلوبة أولاً، ويعرف أدواتها ثانياً.
[2] هكذا دعا الفقيد لأخيه الشيخ أحمد رحم الله الجميع.