ما زال الله -تبارك وتعالى- يؤيد لهذه الأمة من ينصرها، ويهب نفسه لخدمة دين الله تعالى، ويعيش لعزة الإسلام وشموخه، وكان الشيخ أحمد شاكر شمس الأئمة كما أطلق عليه أبوه، وأضحى من بين رايات الخير التي عاشت كالمصابيح توجه الناس في ظلمات الدجى، ترشد من ضل الطريق، فكان -رحمه الله- من أنصار الشريعة الغراء.
مولده ونشأته
هو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، من آل أبي علياء، يرفع نسبه إلى الحسين بن علي، سماه أبوه (أحمد، شمس الأئمة أبا الأشبال)[1].
ولد في 29 جمادى الآخرة سنة 1309هـ (29 يناير 1892م) بالقاهرة، لوالده الشيخ محمد شاكر وهو عالم أزهري[2].
مراحل حياته وأخذه للعلم
في 11 مارس 1900م سافر به والده إلى السودان، حيث ولي منصب قاضي قضاة السودان، وعمره حينها ثماني سنوات، فألحقه والده بكلية غوردون واستمر بها حتى عودة والده إلى مصر في 26 إبريل سنة 1904م، فألحقه أبوه بمعهد الإسكندرية، وكان والده شيخ المعهد[3].
انتقل أحمد شاكر إلى القاهرة سنة (1327هـ/ 1909م) بعد أن عين أبوه وكيلاً لمشيخة الجامع الأزهر، وفي القاهرة اتسعت أمامه آفاق القراءة والتحصيل والاتصال بالعلماء والالتقاء بهم، سواء أكانوا من علماء الأزهر أو من المترددين على القاهرة، ولا يكاد يسمع بعالم ينزل القاهرة حتى يتصل به، فتردد على العلامة عبد الله بن إدريس السنوسي محدث المغرب، وقرأ عليه، فأجازه برواية الكتب الستة، واتصل بالشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وأحمد بن الشمس الشنقيطي، وشاكر العراقي، وطاهر الجزائري، ومحمد رشيد رضا، والشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر، وقد أجازه جميعهم بمروياتهم في السنة النبوية.
وقد هيأت له هذه اللقاءات بعلماء الحديث والتتلمذ على أيديهم أن يبرز في علوم السنة، وأن تنتهي إليه إمامة الحديث في مصر لا ينازعه فيها أحد، وفي سنة (1336هـ/ 1917م) حصل على الشهادة العالمية من الأزهر، واشتغل بالتدريس فترة قصيرة، عمل بعدها في القضاء، وترقى في مناصبه حتى اختير نائبًا لرئيس المحكمة الشرعية العليا، وأحيل إلى التقاعد سنة (1371هـ/ 1951م)[4].
أفكاره ومنهجه
درس الشيخ أحمد شاكر بالأزهر على المذهب الحنفي، وبه كان يقضي في القضاء الشرعي، لكنه كان بعيدًا عن التعصب لمذهب معين، مؤثرًا الرجوع إلى أقوال السلف وأدلتهم، يقول أحمد شاكر بما يوضح مذهبه العلمي، في معرض تحقيقه لكتاب الرسالة للشافعي، بعد أن أكثر من الثناء عليه وبيان منزلته:
"وقد يفهم بعض الناس من كلامي عن الشافعي أني أقول ما أقول عن تقليد وعصبية، لما نشأ عليه أكثر أهل العلم من قرون كثيرة، من تفرقهم أحزابًا وشيعًا علمية، مبنية على العصبية المذهبية؛ مما أضر بالمسلمين وأخّرهم عن سائر الأمم، وكان السبب في زوال حكم الإسلام عن بلاد المسلمين...، ومعاذ الله أن أرضى لنفسي خلة أنكرها على الناس، بل أبحث وأجد، وأتبع الدليل حيثما وجد.
وقد نشأت في طلب العلم وتفقهت على مذهب أبي حنيفة... وبجوار هذا بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل، أحترم رأيي ورأي غيري".
وقد غلب على الشيخ في مجال البحث العلمي الاهتمام بتخريج الأحاديث ودراسة أسانيدها، خاصة في تخريجه لأحاديث المسند.
وعند تتبع الأسانيد التي حكم عليها بالصحة، يلاحظ أن أهم القواعد التي يسير عليها في تصحيح إسناد حديثٍ ما، هي كالتالي:
1- إذا ذكر البخاري الراوي في "تاريخه الكبير" وسكت عنه، ولم يذكره في الضعفاء، فإن الشيخ يعتبر سكوته توثيقًا للراوي.
2- إذا ذكر ابن أبي حاتم الراوي في "الجرح والتعديل" وسكت عنه أيضًا، فإن الشيخ يعتبر سكوته عن الراوي توثيقًا له.
3- كان يعتمد على توثيق ابن حبان؛ فالرواة الذين ذكرهم ابن حبان في كتاب "الثقات" ثقات عند الشيخ أحمد شاكر.
4- توثيقه لـ (عبد الله بن لهيعة) بإطلاق.
5- توثيقه للمجهول من التابعين قياسًا لحالهم على حال الصحابة[5].
جهوده في نصرة الشريعة
قام بتحقيق العديد من أمهات الكتب:
1- تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي تحقيقًا علميًّا نافعًا ينم عن غزارة علمه وسعة اطلاعه، وهو أول كتاب عرف به الشيخ أحمد.
2- تحقيق (الجامع) للترمذي عن عدة نسخ، وصل فيه إلى نهاية الجزء الثالث.
3- تحقيق وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وقد شرع بخدمة هذا الكتاب من 1911م حتى بدأ بطباعته سنة 1946م، ففهرس أحاديثه حسب الموضوعات، وخرّجها وشرح مفرداته وعلق عليه تعليقات مهمة ومفيدة، ولكنه لم ينته من تخريج كامل أحاديث المسند بل وصل إلى ثلث الكتاب تقريبًا، وعدد الأحاديث التي حققها (8099)، وقدم للكتاب بنقل كتابين جعلهما كالمقدمة بالنسبة للمسند هما: "خصائص المسند للحافظ أبي موسى المديني"، والمصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد "لابن الجزري".
4- تحقيق مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، ومعه معالم السنن للخطابي، وتهذيب ابن قيِّم الجوزية، بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي، وطبع الكتاب في ثمانية مجلدات.
5- تحقيق صحيح ابن حبان، حقق الجزء الأول منه فقط.
6- شرح ألفية السيوطي في علم الحديث، وطبع الكتاب في مجلدين.
7- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير.
8- تحقيق كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم.
9- عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير اختصره وحذف منه الأسانيد، والروايات الإسرائيلية، والأحاديث الضعيفة، وتفاصيل المسائل الكلامية، وهو أفضل المختصرات التي طبعت لتفسير ابن كثير.
10- تخريج أحاديث من تفسير الطبري: شارك أخاه محمود شاكر في تخريج أحاديث بعض الأجزاء من هذا التفسير، وعلق على بعض الأحاديث إلى الجزء الثالث عشر.
11- تحقيق كتاب "لباب الآداب" للأمير أسامة بن منقذ المتوفى سنة 584هـ.
12- تحقيق كتاب شرح العقيدة الطحاوية، هذا بالإضافة إلى كتب أخرى قيمة في الأدب واللغة، وبحوث مفيدة في الفقه والقضايا الاجتماعية والسياسية كتبها في مجلة "الهدي النبوي" حينما كان رئيس تحرير لها، وقد جمعت بعض هذه المقالات ونشرت في كتاب بعنوان "كلمة الحق"[6].
13- رسالة في الرد على عبد العزيز فهمي باشا، الذي اقترح كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية[7].
وفاته
بلغ الشيخ في معرفة حديث رسول الله رواية ودراية ما لم يبلغه إلا الأفذاذ من المحدثين في عصره، وارتقى قمة تحقيق كتب السنة، وعُدَّ رائدًا لنشر نصوص الحديث النبوي، وتابعه كثير من العلماء في عمله، وقد بلغ مجموع ما نشره سواء ما كان من تأليفه أو من تحقيقه 34 عملاً، وتنوعت أعماله فشملت السنة والفقه والأصول والتفسير والتوحيد واللغة، وسعة هذه الميادين تدل على ما كان يتمتع به الشيخ من غزارة العلم ورحابة الأفق والتمكن والفهم.
وظل الشيخ يعمل في همة لا تعرف الملل في استكمال ما بدأ من أعمال، لكن المنية عاجلته، فلقي ربه في (26 من ذي القعدة 1377هـ/ 14 من يونيو 1958م)[8].