في بدايات العِقد الثاني من القرن العشرين، ظهرَتْ محاولات فنيَّة تدعو - على استِحياء – إلى الخُروج على قُيُود الوزن والقافية التي عرفها الشِّعر العربي منذُ نَشأته في العصر الجاهلي، والتي اتَّكأتْ بشكلٍ رئيسٍ على وحدة البحر الشعري، والقافية الموحَّدة.
واحتجَّت هذه الأصوات بأنَّ التزام الشعر بقيدي الوزن الواحد والقافية الموحَّدة قد أعاقَ حركته، وكبَّلَه عن اللحاق بركب النثر في تناوُل قَضايا العصر، والتعبير عن هُموم الشاعر العربي المعاصر الذاتية والاجتماعية، وعن قَضاياه الفكريَّة والثقافيَّة، وقد أشارَ إلى هذا صاحبُ كتاب "ثورة الأدب" في قوله: "وما أظنُّ أحدًا يرتابُ في صحَّة الملاحظات على الشعر العصري، وعلى وُقوفه في قوافيه وأوزانه وفي صُوَرِه ومَعانِيه عن مُجاراة أنغام العصر ومُوسِيقاه"[1].
وبِمُرور الوقت تخلَّص كثيرٌ من أصحاب هذه الدعوات من خجلهم، وعلَتْ أصواتهم، وهاجموا القافية الموحَّدة، بل دعوا إلى تحطيمها، ويتَّضِح هذا من قول الشاعر المهجري ميخائيل نعيمة: "إنَّ القافية العربيَّة السائدة إلى اليوم ليستْ سوى قيدٍ من حديد نربط به قرائح شعرائنا، وقد حانَ تحطيمه من زمان"[2].
وضاقَ بعضهم ذرعًا بهذه القواعد الموسيقيَّة الخليليَّة، وعدُّوا الشعر كالكائنات الحيَّة؛ ينبغي له أنْ يتطوَّر مُسايِرًا طبيعة النشوء والارتقاء التي عوَّل عليها دارون في تفسيره للتطوُّر البيولوجي للكائن الحي، ويظهَرُ هذا في قول الزهاوي: "ولا أرى للشعر قواعد، بل هو فوق القواعد، حرٌّ لا يتقيَّد بالسلاسل والأغلال، وهو أشبَهُ بالأحياء في اتِّباعه سنة النُّشوء والارتِقاء"[3].
ودعا آخَرُون إلى التحرُّر الفني من أسْر الأوزان العتيقة التي جثَمتْ على صدْر الشعر العربي طويلاً؛ فمنعَتْه من الوقوف على قدمَيْه، ويتبيَّن هذا من قول نازك الملائكة في أوَّل عهدها بهذا اللون الفني الجديد: "وقد يرى كثيرون معي أنَّ الشعر العربي لم يقف بعدُ على قدميه بعد الرقدة الطويلة التي جثَمتْ على صدره طِيلة القرون المنصرمة الماضية، فنحن عمومًا ما زلنا أسرى، تُسيِّرنا القواعد التي وضَعَها أسلافنا في الجاهليَّة وصدر الإسلام، ما زلنا نلهَثُ في قصائدنا، ونجرُّ عَواطِفنا بسلاسل الأوزان القديمة"[4].
وقد هاجمت القافية الموحَّدة في قولها: "إنَّ هذه القافية تُضفِي على القصيدة لونًا رتيبًا، فضلاً عمَّا تُثِيره في النفس من شعورٍ بتكلُّف الشاعر وتصيده للقافية"[5].
ولم تمضِ سنواتٌ قليلة حتى شكَّل هذا اللون - أعني: الشعر الحر أو شعر التفعيلة - مدرسةً شعريَّةً جديدة، نجحت في تطوير الشعر العربي، خاصَّة في شكله الموسيقي القائم على وحدة البحر الشعري ووحدة القافية.
وقد مسَّ هذا التطوير الشَّكل في المقام الأول، ثم تجاوَزَه وامتدَّ إلى المضمون؛ لغةً وصورًا وموسيقا داخليَّة وأسلوبًا، وعبَّر عن قَضايا الشاعر المعاصر بكافَّة ألوانها واتِّجاهاتها.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ حركة الشعر الحر في العصر الحديث كانت نقلةً فنيَّة وحضاريَّة جديرةً بالدراسة والتأمُّل؛ حيث إنها انتقلتْ بالشعر العربي من مجالاته الضيِّقة وأغراضه ومعانيه التقليديَّة إلى آفاقٍ أكثر رحابةً ومرونةً، استوعبت كثيرًا من تجارب الشاعر الحديث، وثَقافاته المتنوِّعة التي نهلَتْ مِن منابع عدَّة؛ تراثية، وفلسفيَّة، ويونانيَّة، وفرعونيَّة، وغربيَّة.
ومن الجدير بالذِّكْر أنَّه كانتْ هناك عوامل مُتنوعة؛ اجتماعيَّة وسياسيَّة، وفكرية واقتصاديَّة، أسهمتْ في بُزُوغ شَمْس هذا اللون مِنَ الشعر:
الحقبة الزمنية/ عمر القصيدة (1945 - 1990):
دخلت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية عهدًا جديدًا؛ إذ أنهى استخدام السلاح النووي لأوَّل مرَّة في تاريخ البشر (في هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين) حقبةً زمنيَّة كبرى، انهارَتْ معها الإمبراطوريَّات القديمة، وحلَّتْ محلَّها الولايات المتحدة الأمريكيَّة التي سَيْطرت على مسرح الأحداث في العالم؛ بفضْل ما توفَّر لها من إمكانيَّات أسطوريَّة في مَجالات العلوم والمال والتكنولوجيا والإعلام وصناعة السينما في هوليود؛ ولهذا انتشرت ثقافتها وسادَت الكثيرَ من أنماط حَياتها في كثيرٍ من بِقاع العالم؛ وخاصَّة في أوساط الشباب، وهذا ما عُرِفَ بظاهرة العَوْلمة.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية (1945م) إذًا كانت قد وُلِدت قصيدة الشعر الحر (قصيدة التفعيلة الواحدة)، التي عبَّرت عن جوِّ الحرية النِّسبي الذي ساد العالَم بعد انهيار النازية في ألمانيا.
وقد كانتْ قصيدةُ الشِّعر الحر مسرحًا حيويًّا لتوتُّر الصِّراع بين معسكري الاشْتِراكية والرأسمالية، وانقَسَمَ الشعراءُ العرَب - تبعًا لذلك - ما بين مُناصرٍ لهذا المعسكر أو لذلك؛ ممَّا يُؤكِّد على ذلك الانفِصام الحضاري والثقافي والعقَدِيِّ (والأيديولوجي) الحاد الذي ضرب العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
وخِلافًا للقصيدة القديمة، فإنَّ قصيدة الشِّعر الحر قد تمتَّعت بحظٍّ وافِر مِن حُرية التصرُّف بالشكل؛ كاستِخدام تفعيلات قريبة صوتيًّا مِن بعضها أحيانًا بدَل التقيُّد الصارم بتفعيلةٍ واحدة بعينها، ثم الحرية في طُول وقصر الأبيات والمقاطع، وإدخال الكثير من الرُّموز والأساطير ومصطلحات العصر والمفردات الأجنبيَّة؛ نظرًا لسعة ثقافة شُعَرائها، ومعرفة الكثير منهم لغات أجنبية؛ سَواء بالدراسة أو بالعيش في أوساط وبلدان غير عربية (أوروبا وأمريكا مثلاً).
ومِن أبرز عوامِل نَشأة هذا اللون أيضًا نشاطُ حركة ترجمة الأشعار الأخرى إلى اللغة العربية؛ حيث أفاد منها الشعراء الشباب، ليجدوا أنفسهم قريبين جدًّا من شُعَراء الأمم الأخرى، ولا سيَّما شُعَراء النصف الأول من القرن الماضي؛ حيث ترك بعضهم بصمات قويَّة على شعر هؤلاء الشباب؛ وخاصَّة الشاعر الإسباني (جارثيا لوركا)، والشاعر الإنكليزي (توماس إليوت)، والشاعر الشيلي (بابلو نيرودا)، ثم الشاعر التركي (ناظم حكمت)، هذا بالإضافة إلى بعض شعراء فرنسا الرمزيين والسورياليين؛ مثل: (رامبو)، و(بول فاليري)، و(أراغون)، ثم (بودلير).
وقد شكَّل هذا العصر بمتغيِّراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية مناخًا جديدًا أتاح قدرًا أكبر من الحرية لشُعراء قصيدة التفعيلة الواحدة، فتحرَّرت جزئيًّا من سَيْطرة العقل الواعي، ومن رقابة الفكر وضَوابط المجتمع وأنظمة الحُكم الصارمة.
وفي خِضَمِّ هذه الظروف كان الشاعرُ العربي منقسمًا على نفسه، ويُعانِي من صِراعٍ حادٍّ بين مذهبين فنيَّين: يرتكز أولهما على عالم شعر بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، بينا أَمَّ الآخَر قبلة الشعر الغربي، ولفحَتْه رِياح التغيير العاتية؛ فثار على البحر الخليلي، ودعا إلى ضرورة تعديله؛ بحيث يَتَوافَق مع الظروف الجديدة، ويستوعب ثقافة العصر وظواهره الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وقد جاءَتْ قصيدة الشعر الحر في أغلبها مزيجًا مخفَّفًا ومقبولاً من الواقعية والرمزية، كما لم تبتعد هذه القصيدة عن السياسة وأجوائها الصاخبة أبدًا؛ بدعوى الدِّفاع عن قَضايا إنسانية أو وطنية وقومية؛ مثل: قضيَّة فلسطين التي احتلَّت مركز متميِّزًا في شعر أغلب هذه الحقبة، وكان الشاعر الفلسطيني (محمود درويش) فارسها العظيم.
وإذا ما حاوَلنا البحث عن الإرهاصات الأولى لهذه الاتِّجاه الفني الجديد وروَّاده الذين فتَقُوا المجال أمام غيرهم للإنشاء فيه، وأفسَحُوا الطريق أمام الشعراء للتنفيس بحريَّةٍ أكثر عن رُؤَاهم؛ فإنَّ ذلك يحتاج إلى وقفةٍ متأنِّية.
ويُطالِعنا في هذا المقام قولُ أحد الباحثين المحدَثِين: "لقد جاءت خمسينيَّات هذا القرن بالشكل الجديد للقصيدة العربيَّة، وكانت إرهاصاتها قد بدَأتْ في الأربعينيَّات، بل لا نكون مُبالِغين إذا قلنا: في الثلاثينيَّات؛ من أجل التحرُّك إلى مرحلة جديدة، مَدعاة للبحث عن أشكال جديدة في التعبير، لتُواكِب هذا الجديد من الفكر المَرِنِ... وقد وجدَتْ مدرسة الشعر الحر الكثير من المريدين، وترسَّخت بصورةٍ رائعة في جميع البلدان، بدءًا بالملائكة والسيَّاب والبيَّاتي في العراق في الأربعينيَّات، ثم ما لبثَتْ هذه الدائرة أنِ اتَّسعت في الخمسينيَّات فضمَّت إليهم شعراء مصريين آخَرين؛ مثل: صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وفي لبنان ظهر علي أحمد سعيد (أدونيس) وخليل حاوي، ويوسف الخال، وكذلك فَدوَى طوقان، وسلمى الخضراء الجيوسي في فلسطين، أمَّا في السودان فقد برز في الأفق نجم كلٍّ من محمد الفيتوري، وصلاح محمد إبراهيم"[6].
أمَّا عن أوَّليَّة الكتابة في الشعر الحر فإشكاليَّةٌ اختلف حولها النقَّاد والشعراء أنفسهم؛ فقد زعمتْ نازك الملائكة في مقدمة كتابها "قضايا الشعر المعاصر" أنَّ "بداية حركة الشعر الحر كانت سنة 1947م في العراق ومن العراق، بل من بغداد نفسها، وزحفت هذه الحركة وامتدَّتْ حتى غمرت الوطن العربي كله"[7]، وكذا زعمت أنَّ باكورة الإبداع في هذا اللون الفني كانت قصيدتها (الكوليرا)، ثم قصيدة (هل كان حبًّا) لمواطنها الشاعر العراقي بدر شاكر السيَّاب، وكلتاهما نُشِرتا سنة 1947م.
لكنها عدَلتْ عن هذا الرأي بعد ذلك، واعترفَتْ بأنَّ بدايات الشعر الحر كانت قبل عام 1947م في قولها: "في عام 1962م صدر كتابي هذا، وفيه حكمتُ بأنَّ الشعر الحر قد طلع من العراق، ومنه زحَف إلى أقطار الوطن العربي، ولم أكنْ يوم قرَّرت هذا الحكم أدري أنَّ هناك شعرًا حرًّا قد نُظِم في العالم العربي قبل سنة 1947م، سوى نظمي لقصيدة "الكوليرا"، ففُوجِئت بعد ذلك بأنَّ هناك قصائد حرَّة معدودة، قد ظهرت في المجلات الأدبيَّة والكتب منذ سنة 1932م، وهو أمرٌ عرفتُه من كتابات الباحثين والمعلِّقين؛ لأنَّني لم أقرأ بعدُ تلك القصائد من مصادرها، وإذا بأسماء غير قليلة تَرِدُ في هذا المجال؛ منها: اسم علي أحمد باكثير، ومحمد فريد أبي حديد، ومحمود حسن إسماعيل، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض وسواهم"[8].
وقد أورَدَ الدكتور أحمد مطلوب في كتابه: "النقد الأدبي الحديث في العراق"[9] نصًّا من الشعر الحر عنوانه: (بعد موتي)، منشورًا في "جريدة العراق" عام 1921م، ولم يجرُؤ صاحبه على ذكر اسمه، لكنَّه وقَّع عليه برمز مُكوَّن من حرفين هما (ب.ن)، وزعم الدكتور مطلوب أنَّ هذا النص يعدُّ أقدم نصوص الشعر الحر.
وفي تصوُّري أنَّ إثبات أوليَّة الشعر الحر لن تفيدنا كثيرًا في دِراسة هذا اللون الجديد من الشعر، بقدْر ما ستعيدُ الحقَّ إلى نِصابه وتنسب الشيء إلى أصله؛ فقد كانت أولى محاولات كتابة هذا اللون على يد شاعر القطرين اليمني المصري علي أحمد باكثير، الذي ترجم مسرحية (روميو وجولييت)؛ لشكسبير إلى العربية على شعر التفعيلة، وكان وقتها طالبًا في السنة الثانية بقسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة (1936م)، وقد جاءت هذه الترجمة ردًّا على زعمٍ خاطِئٍ من أستاذه الإنجليزي بأنَّ اللغة الإنجليزيَّة هي اللغة الوحيدة التي تتَّسِع للأشكال الجديدة، وأنَّ وسيلة التعبير بالشعر الحر أو المرسل المنطلق لا توجد في غيرها من اللغات، ومنها اللغة العربية.
فردَّ عليه باكثير غاضبًا: إنَّ اللغة العربية تتَّسع لكلِّ أشكال التعبير، وإنَّه من الممكن كتابة الشعر المرسل بها، فسخر منه أستاذه، وركب ناقة الخُيَلاء والشطط، فعكف باكثير على المسرحيَّة فترجمها وأتمَّها، وكانت بحقٍّ أولى التجارب الشعرية الناضجة التي مهَّدت الطريق أمام شعراء مدرسة الشعر الحر بعد ذلك، يقول باكثير: "ولكن ليس هناك ما يحولُ دُون إيجاده - الشعر الحر - في اللغة العربية، فهي لغة طيِّعة تتَّسع لكلِّ شكلٍ من أشكال الأدب والشعر"[10].
وعلى الرغم من انتهائه من ترجمة هذه المسرحية عام 1936م إلا أنها لم تنشر سوى عام 1947م، وقد اعترف الشاعر العراقي بدر شاكر السيَّاب لباكثير برِيادة الشعر الحر في قوله: "وإذا تحرَّينا الواقع وجدنا أنَّ الأستاذ علي أحمد باكثير هو أوَّل مَن كتب على طريقة الشعر الحر، في ترجمته لرواية (روميو وجولييت)؛ لشكسبير، التي صدرت في كانون الثاني عام 1947م، بعد أنْ ظلَّت تنتظر النشر عشر سنوات"[11].
والحقيقة أنَّ باكثير كانتْ له تجارب أخرى في ترجمة بعض مسرحيات شكسبير قبل ترجمته روميو وجولييت، فقد كان شديدَ الإعجاب بشكسبير وفنِّه، فترجم فُصولاً من مسرحيَّته (الليلة الثانية عشرة)، ونشر أجزاء منها في "مجلة الرسالة" (رسالة الزيَّات) عام 1932م، ولكن على طريقة الشعر المقفَّى المألوف، لكنَّه عزف عن هذا ورأى أنَّ الشعر المقفَّى لا يناسب فن المسرحية[12].
وأكَّد باكثير أنَّه توصَّل بعد تفكيرٍ عميق وجهد جهيد إلى أنَّ البحور الموحَّدة التفعيلة أو القافية، هي الأنسب للشعر الحر؛ كالكامل، والرجز، والمتقارب، والمتدارك، والرمل، ويتَّضح هذا من قوله: "فاكتشفتُ بعد لَأْيٍ أنَّ البحور التي تصلُح لهذا الضرب الجديد من الشعر هي تلك التي تتكوَّن من تفعيلةٍ واحدة مكرَّرة؛ كالكامل والرجز، والمتقارب والمتدارك والرمل، لا تلك التي تتألَّف من تفعيلتين مختلفتين؛ كالسريع والخفيف والبسيط والطويل، فإنها لا تصلح"[13].
وفي البداية، ينبغي أنْ نتعرَّف على ماهيَّة الشعر الحر وأنماطه، وأهم الفروق بينه وبين الشعر المرسل أو المنطلق، يقول أحد أساتذة النقد الأدبي مُوضِّحًا الفرقَ بين هذين اللونين الشعريَّين: "الشائع بين نقَّادنا المعاصِرِين أنَّ أهمَّ خَصائص الشعر المرسل هي الإبقاء على الوزن، مع التنويع في القوافي، وأهمُّ خَصائص الشعر الحر هي عدم التزام الوزن التقليدي، والاعتماد على وحدة التفعيلة، بدلاً من وحدة البيت، مع التزام القافية أحيانًا"[14].
وممَّا يجدر بالذِّكر أنَّ الشِّعر الحرَّ قامَ على إهمال قاعدة البحر الواحد والقافية الموحَّدة، وإلغاء فكرة البيت المكوَّن من شطرين متساويين، فأصبحت القصيدة عندهم تتألَّف مِن سُطُور تَطُول وتقصر؛ فالطول حسب الحالة النفسية للشاعر، ولم يعد الشاعر بحاجةٍ للحشو لإكمال وزن البيت.
وقد اتَّخذ الشعر الحر عدَّة مسمَّيات في بداية ظهوره؛ مثل: الشعر المرسل، والنظم المرسل المنطلق، والشعر الجديد، وشعر التفعيلة، وقد سمَّاه بعضُ الباحثين بالغُصن، واستلهامًا من فنِّ الموشَّحات الأندلسيَّة الذي كانت له إرهاصات مشرقيَّة[15].
أمَّا أنماط الشِّعر الحر فمُتَنَوِّعة، وقد حصرها (س. موريه) في دِراسته لحركات التجديد في موسيقا الشعر العربي الحديث في خمسة أنماط من النَّظم، أطلق عليها جميعًا مصطلح (الشعر الحر) فيما بين عامي 1926م - 1946م، وتتلخَّص فيما يأتي:
1- النمط الأول: استخدام البحور المتعدِّدة التي تربط بينها بعض أوجُه الشبه في القصيدة الواحدة، ونادرًا ما تنقسم الأبيات في هذا النمط إلى شطرين.
ووحدة التفعيلة فيه هي الجملة، التي قد تستغرق العدد المعتاد من التفعيلات في البحر الواحد، أو قد يضاعف هذا العدد، وقد اتَّبَع هذه الطريقة كلٌّ من: أبي شادي، ومحمد فريد أبي حديد.
2- النمط الثاني: وهو استخدام البحر تامًّا ومجزوءًا، دون أنْ يختلط ببحرٍ آخَر في مجموعة واحدة، مع استعمال البيت ذي الشطرين، وقد ظهرت هذه التجربة في مسرحيَّات شوقي.
3- النمط الثالث: وهو النمط الذي تختفي فيه القافية وتنقسم فيه الأبيات إلى شطرين كما يوجد شيء من عدم الانتظار في استخدام البحور، وقد اتَّبع هذه الطريقة مصطفى عبداللطيف السحرتي.
4- النمط الرابع: وهو النمط الذي تختفي فيه القافية أيضًا من القصيدة وتختلط فيه التفعيلات من عدَّة بحور، وهو أقرب الأنماط إلى الشعر الحر الأمريكي، وقد استخدمه محمد منير رمزي.
5- النمط الخامس: ويقوم على استخدام الشاعر لبحرٍ واحد في أبيات غير منتظمة الطول ونظام التفعيلة غير منتظم كذلك، وقد استخدم هذه الطريقة كلٌّ من علي أحمد باكثير وغنام والخشن.
وهذا النمط الأخير من أنماط الشعر الحر الذي ذكَرَها موريه هو فقط الذي ينطبق عليه مسمَّى الشعر الحر بمفهومه بعد الخمسينيَّات، والذي نشَأت أوليَّاته على يد باكثير - كما ذكر موريه - ومن ثَمَّ نُسِبت ريادته الفعلية لنازك الملائكة ومَن عاصرها ولحق بها من شُعَراء جيلها؛ كالسيَّاب، وصلاح عبدالصبور، والبيَّاتي، ومحمود درويش... وغيرهم.
وإذا ما حاوَلنا أنْ نتَتبَّع إرهاصات الشعر الحر عند باكثير فمن الواجب علينا أنْ نُمهِّد لذلك بالإشارة إلى أنَّ ثقافة الشاعر الأولى كانت تقليديَّة خالصة؛ حيث بدَأ خطوات تعليمه الأولى في الكتاتيب على يد أساتذةٍ تعمَّقوا في دِراسات اللغة العربيَّة وفُروعها، ثم انتقل بعدها إلى المعهد الدِّيني، ثم إلى مدرسة النهضة، التي تلقَّى فيها علوم الأدب واللغة والفقه والفلسفة والمنطق والبلاغة وغيرها من العلوم العربيَّة والإسلاميَّة التي كوَّنت شخصيَّته الأدبيَّة.
هذا بالإضافة إلى هذا الري الحضاري الذي اكتسبه الشاعر من معارف عصره المتنوِّعة، فكما كان معجبًا بالمتنبي وابن المعتز، كان معجبًا أيضًا بشوقي وبمسرحيَّاته وقصائده المتنوِّعة، خاصَّة قصيدة (نهج البردة) التي نظم على غرارها قصيدته (نظام البردة) أو (ذكرى محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم)، وبلغ عدد أبياتها 256 بيتًا، حاكَى فيها شوقي في أفكارها ومعانيه، وضمَّنها روح العصر ومشاكل المجتمع الإسلامي.
وعندما قَدِمَ أبو كثير - كما سمَّاه المازني - إلى مصر في أوائل الثلاثينيَّات من القرن العشرين - قادمًا من حضرموت - تفتَّحتْ أمامه آفاق جديدة للشعر، خاصَّة بعد أنِ التَحقَ بقسم اللغة الإنجليزيَّة في كلية الآداب - جامعة القاهرة، فأتاح له ذلك الاطِّلاع على الآداب الأوربيَّة، وانضمَّ إلى المتأثِّرين بالثقافة الإنجليزيَّة من شعراء عصره، خاصَّة هؤلاء الشعراء الرومانسيين؛ كالعقاد والمازني وغيرهما.
هبط أبو كثير إلى مصر، وكانت دَعوات التجديد على أَشُدِّها؛ فهناك كتاب "الغربال"؛ لميخائيل نعيمة (1922)، وهناك كتاب "الديوان"؛ للعقاد والمازني (1923)، وهناك العديد من المقالات النقديَّة المنشورة في الصحف والمجلات لكبار النقَّاد؛ كالدكتور طه حسين، وأحمد حسن الزيَّات، وعبدالرحمن شكري، والمازني وغيرهم، وقد أحدثَتْ هذه الآراء هزَّة عنيفة، وانقِلابًا شديدًا في مفهوم الشعر، بصفةٍ عامَّة عنده، كما أحدَثتْ بلبلةً في فكره؛ لهذا نسج شعرًا آنذاك على كلا المذهبين:
• القديم التقليدي، وكان ينشُره في "مجلة الفتح"؛ لمحب الدِّين الخطيب، و"مجلة الشبان المسلمين".
• والشعر الجديد في موضوعه ومعانيه؛ الذي تبدو عليه طوابع الذاتيَّة، وكان ينشُره في مجلتي: "الرسالة"؛ للزيات، و"أبوللو"؛ لأبي شادي، من مثل قصيدته: (الشاعر وسريره)، وقصيدته: (بين الهدى والهوى)، وقصيدته: (وحي سمراء)، وقصيدته: (وحي الشاطئ)... وغيرها.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هذه الفترة مِن أخصب فَترات النَّهْضة الأدبيَّة؛ سَواء مِن حيث الإبداع ومُحاوَلات التجديد، أو من حيث التنوُّع الثقافي والنقدي الذي اتَّسَمَ بالتحرُّر والانطِلاق؛ حيث نادَى الشعراء المجدِّدون بإطْلاق النفس على سجيَّتها، وثاروا على العَروض الخليلي، ودعوا إلى التحرُّر مِنْ أسْر القافية الموحَّدة، وطالبوا بأنْ يقول الشاعر ما شاء، على أيِّ شكلٍ ترتَضِيه قريحته، وفي أيِّ قالب، المهمُّ هو الوحدة المعنويَّة والعضويَّة، والصدق الفني، والخيال المحلِّق.
وكان لهذه الدعوات وغيرها أثَرٌ واضحٌ في اتِّجاه أبي كثير إلى إبداع شعر التفعيلة؛ الذي يُعَدُّ طورًا جديدًا من أطوار القصيدة العربيَّة، يعدل فيها دون أنْ يهدمها، ومن هنا شرع باكثير يُوازِن بين شعره التقليدي، الذي قالَه قبل قُدومه مصرَ، وبين المقاييس الفنيَّة الجديدة التي زخر بها الشعر الحديث؛ ولذا بدَأتْ تَتَشَكَّل لدَيْه رؤيةٌ جديدة لمفهوم الشِّعر.
واتَّكأت هذه الرؤية الجديدة على التجديد في المعاني والموضوعات، فلم نعدْ نتبيَّن في شعره ذلك الخطاب التقليدي القديم، وإنما مالَ شعرُه إلى التعبير عن هُموم العصر، واكتسبَتْ لُغته دلالات جديدة، كما تميَّزت قصائده بالتماسُك والوحدة العضويَّة، ويتَّضح هذا من قوله في مسرحيَّته (إخناتون ونفرتيتي)[16]:
طالَما كانَت تستيقِظ في الأسْحار فتكتُم أنفاسَها
وتُقبِّل ما بَيْنَ عَيْنيَّ في رِفق حتَّى لا تُوقِظني
أُسارِقُها الطَّرفَ حِينًا فحِينًا فألْمَحُ في
شفتَيْها ارتِعاش الصَّبيِّ قَدِ اختَلسَ الحلوى
من مِخدَع جدَّته الشَّمطاء وفي عينَيْها
اغتباط الطِّفل تملأ من ثَدْيِ أمِّه!
ثم يَغزُو التثاؤُب فاهَا الجَمِيل
ويَلُوذُ النُّعاس بأهْدابِهَا فتَمِيل
إلى جَنبِي وتَعودُ إلى نَومِها في طمأنينةٍ وغَرارة
ويذهب أبو كثير مغتبطًا إلى أنَّ هذه المسرحية (إخناتون ونفرتيتي) تُعَدُّ نقطة انقلابٍ في تاريخ الشعر العربي الحديث كله؛ باعتبارها التجربة الأم فيما عُرِفَ بالشعر الحر أو شعر التفعيلة، ويتَّضح هذا من قوله في مقدمة المسرحية: "فأُقدِّمها اليوم للقرَّاء العرب كما خرجَتْ للناس في طبعتها الأولى سنة 1940م، أُقدِّمها منتشيًا ممَّا أجد في سُطورها من أنْفاس شَبابي الأول، ومغتبطًا لما أصابَتْ من حظٍّ عظيم؛ إذ صارَتْ نقطةَ انقلابٍ في تاريخ الشعر العربي الحديث كله، فقد قُدِّرَ لها أنْ تكون التجربة الأم فيما شاعَ اليوم تسميته بالشعر الحر أو الشعر التفعيلي وأسميتُه أنا قديمَّا: (الشعر المرسل) أو (المنطلق)"[17].
ويُؤكِّد أنَّ هذه التجربة قد بدأت في مصر، ثُمَّ انطَلقتْ لتُؤثِّر في شُعَراء كثُر بعد إنشائها بعشر سنوات، كالشاعرة العراقيَّة نازك الملائكة، وبدر شاكر السيَّاب، "تجربة انطلقَتْ في منيل الروضة على ضِفاف النيل بالقاهرة، ثم ظهر صَداها أوَّل ما ظهر بالعراق لدى الشاعرين المجدِّدين الكبيرين: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، بعد انطلاقها بعشرة أعوام"[18].
وقد اختارَ باكثير بحر المتدارك وزنًا لهذه المسرحية؛ وهو من الأبحر الصافية التي تقومُ على تفعيلة واحدة خماسيَّة متكرِّرة أربع مرَّات في كلِّ شطرة، وهي (فاعلن)، لكنَّه لم يستخدم نظام الشطر، بل استخدم السطر الذي يطولُ ويقصر بحسب انفعال الشاعر وعاطفته.
وقد عدَّ هذا البحر من أنسب البحور، وأكثرها مرونةً وطواعيةً لشعر التفعيلة، يقول: "ثم لاحَظتُ أنَّ أصلحَ هذه البحور كلها وأكثرها مرونةً وطواعيةً لهذا النَّوع الجديد من الشعر هو البحر المتدارك، فالتَزمتُه في هذه المسرحية"[19].
ويُلاحَظ أنَّ البيت - أو السطر الشعري - في هذه المسرحية يتألَّف غالبًا من ستِّ تفعيلات، وقد تزيدُ أو تنقصُ عن هذا العدد في القليل النادر، ويُلاحَظ أيضًا أنَّ البناء الفني لقصيدة الشعر الحر يختلف شكلاً ومضمونًا عن ذلك البناء الفني للقصيدة التقليديَّة؛ فالقصيدة لا تعتمدُ على وحدة البيت، وإنما وحدة الجملة التامَّة المعنى، التي قد تستغرق بيتين أو ثلاثة أو أكثر، دون أنْ يقف القارئ إلا عند نهايتها، وهذا ما دعا باكثير إلى نعت هذا النوع من الشعر بالمنطلق.
أمَّا نعتُه بالمُرْسل فيعني في رأيه: أنَّه مرسل من القافية؛ أي: متحرِّر منها، على الرغم مِن أنَّه لم يتحرَّر من سُلطان القافية تحرُّرًا مطلقًا في هذه المسرحية سوى في الفصل الثاني؛ لأنَّ وحدة القافية - في رأيه - قد تُساعِد الشاعر على عرض أفكاره ومشاعره، بحيث تسمَح للتتبُّع في انسيابيَّة رائعة، ويتَّضح هذا في قوله:
إنَّها يَا بنيَّ استَراحَتْ من أعْباءِ الحَيَاه
وَاسْتَقرَّتْ بدارِ الخُلْدِ يمتعُهَا بالنَّعِيم الإِلَه
إنْ تحزَن لها فَمَا عِنْدَ الرَّبِّ خيرٌ وَأبْقَى
أو تَحزَن لنَفْسِكَ فارْفق بنَفسِك رِفقَا
لا تجمَع عَلَيْها مُصابَ النَّفسِ ومَوْتَ الحَبِيب
فالعاقل مَن يتلقَّى خُطوب الحياةِ بصَدْرٍ رَحِيب
أمَّاه؟ لقد حاوَلت العَزاء ولكنْ كيف العَزَاء؟
إنَّها كانَتْ سَلوَتِي في هَذِه الحَياة حَياة الشَّقاء
فعَلامَ بَقائِي بَعدَها؟ لا رغبةَ لي فِي البقاء
تَذكُرِين الإلَهَ وَما شَأنِي والإِلَه؟
أَو لم يلف مخلوقةً غير تادو لتَلقَاه؟
لا أَحسبُها آثَرَتْ لُقيَاهُ على لُقْيَاي
كلاَّ! إنَّ هذا مُحال، فقد كانَتْ لا تحبُّ سِواي!
فأبو كثير لم يتحرَّر من القافية في الأبيات - أو الأسطر - السابقة، بقدر ما نوَّع فيها تنويعًا يدفَع الرَّتابة التي قد تحدُث من تَكرارها؛ فقد جعل لكلِّ سطرين قافية واحدة؛ كما في قوله في البيتين الأول والثاني: (الحياه - الإله)، وقوله في البيتين التاليين: (أبقى - رفقَا)، ثم فيما تلاهما: (الحبيب - رحيب)... وهكذا.
وفي محاولةٍ لأنْ يحيا نبْض عصره في تجربته الشعريَّة، اتَّجَه في صُوَره الشعريَّة إلى إلغاء ما يمكن أنْ يُسمَّى بالمعجم الشعري؛ ذلك الذي كان يتحرَّى جَزالة الألفاظ ورَصانتها في القصيدة العربية التقليدية والرومانسية، وهنا حطَّم الشاعر الجديد ما كان يُردِّده بعض النقَّاد المحافظين من أنَّ هناك ألفاظًا شعريَّة وألفاظًا غير شعريَّة؛ حيث أصبحت كلُّ لفظةٍ قادرةً على أنْ تَفِي بالمعنى المراد، طالما أنَّ الشاعر أحسن توظيفها واستعمالها في مكانها الصحيح.
وخِلال ما سبَق، يتَّضِح لنا أنَّ الشعر الحر شعرٌ يجري وفق القواعد العروضية للقصيدة العربية، ويلتزم بها ولا يخرج عنها إلا من حيث الشكل، والتحرُّر من القافية الواحدة في أغلب الأحيان؛ فالوزن العروضي موجودٌ، والتفعيلة مُوزَّعة توزيعًا جديدًا ليس إلا، فإذا أراد الشاعرُ أنْ ينسج قصيدةً ما على بحرٍ معيَّن، وليكن "الرمل" مثلاً، استَوجَب عليه أنْ يلتزم في قصيدته بهذا البحر وتفعيلاته من مَطلَعها إلى مُنتهاها، وليس له من الحريَّة سِوى عدم التقيُّد بنظام البيت التقليدي والقافية الموحَّدة، وإنْ كان الأمر لا يمنع من ظهور القافية واختفائها من حينٍ لآخَر حسب ما تقتضيه النغمة الموسيقيَّة وانتهاء الدفقة الشعوريَّة، كما رأينا في المثال السابق.
وقد ألَحَّ أبو كثيرٍ كثيرًا في التأكيد على أصالته ورِيادته للشعر الحر، ورأى أنَّ مَنحاه في كتابة هذا اللون الفني يختلف عن مَنحَى كثيرٍ من الشعراء المحدَثين؛ كجميل صدقي الزهاوي، ومحمد فريد أبي حديد، وغيرهما؛ حيث إنهم بنوا كثيرًا من أشعارهم على الشعر المرسل من القافية، وانحصَرَ تجديدهم في التحرُّر من القافية وحسب، وما عدا هذا فإنَّ نظمهم سارَ على النهج القديم، حتى إنْ لم يلتزموا بوحدة البيت من المعنوية والإعرابية، لكنهم التزموا بوحدته الموسيقيَّة؛ إذ كان لكلِّ بيت أو سطر وحدته النغمية التي يستقلُّ بها عن بقيَّة الأبيات، يقول أبو كثير: "وهذه الطريقة تختلف اختلافًا أساسيًّا عن الطريقة التي سلَكَها كثيرٌ من الشعراء المحدَثِين؛ كالزهاوي وأبي حديد، وغيرهما ممَّا أسموه الشعر المرسل؛ فالنظم على طريقتهم تلك لا يختلف عن النظم العربي القديم إلا في إرساله من القافية، وإذا اتَّفق أحيانًا أنَّ البيت ليس بوحدةٍ فيه من حيث المعنى أو الإعراب، فإنَّه على أيِّ حال يكون وحدةً مستقلَّة من حيث النَّغم الموسيقي؛ أي: إنَّ النغم لا يطَّرد في بيتين بل ينقطع عند نهاية البيت الأول، ويبتدئ من جديدٍ في أوَّل البيت التالي، وهكذا دواليك، وفي نظري أنَّ هذه الطريقة الجديدة - التي لم أعلم أحدًا سبقني إليها - هي أصلح طريقة للشعر التمثيلي"[20].
ومهما يكنْ من أمرٍ فإنَّ بعض ذوي الأصالة الفنيَّة من شُعَراء مدرسة الشعر الحر المُعاصِرة، قد مزَجُوا في أشعارهم بين الشعر الحر والشعر المرسل - على حدِّ قول أستاذنا الدكتور عثمان موافي[21] - وأصبح هذا المزْج سمةً غالبةً على أشعارهم؛ مثل: نازك الملائكة، والسيَّاب، وصلاح عبدالصبور، وعبدالوهاب البيَّاتي.
وممَّا يُصوِّر هذا قصيدةُ نازك الملائكة (الخيط المشدود إلى شجرة السرو)، التي تقول فيها[22]:
فِي سَواد الشَّارِعِ المُظلِم والصَّمتِ الأصمّْ
حَيْثُ لا لَوْنَ سِوَى لَوْنِ الدَّياجِي المدلهمّْ
حَيْثُ يُرخِي شَجَرُ الدِّفلَى أَساه
فَوْقَ وجهِ الأرض ظَلاَّ
قصَّةً حدَّثني صَوتٌ بها ثم اضمَحَلاَّ
وتَلاشَتْ في الدَّياجِي شَفتاهْ
قصَّة الحب الذي يحسبه قلبك ماتَا
وهْو ما زالَ انفِجارًا وَحَياهْ
وغَدًا يعصرك الشَّوْقُ إليَّ
وتُنادِيني فتَعيَى
تضغَطُ الذِّكرى على صَدرِك عِبئَا
من جُنونٍ ثم لا تلمَسُ شيئَا
أي شيءٍ حلم لفْظ رَقِيق
أي شيءٍ ويُنادِيكَ الطَّرِيق
ويَراكَ اللَّيل في الدَّرْبِ وَحِيدًا تَسأَلُ الأمسَ البَعِيدَا
فتُفِيق
أنْ يَعُودا
فالقصيدة - كما نلاحظ - قائمةٌ على السطر لا الشطر، وقد اعتمدَتْ في مُوسيقاها على بحر الرمل، وهو من الأبحر الموحَّدة التفعيلة؛ حيث يقوم على تفعيلةٍ سُباعيَّة هي (فاعلاتن)، وقد أعادَت الشاعرة توزيعَها بشكلٍ جديد؛ بحيث تستَوعِب تجربتها الوجدانيَّة، فتارةً تتكرَّر أربع مرَّات كما في السطرين الأول والثاني مثلاً، وتارةً تتكرَّر ثلاثًا كما في السَّطرين الثالث والرابع، وتارةً ثالثة تأتي مفردةً كما في السطرين الأخيرين.
ويُلاحَظ كذلك أنَّ الشاعرة لم تتحرَّر تمامًا من القافية الموحَّدة، بل جاءت بعض قوافيها مسجوعةً مثل: (الأصم - المدلهم)، ومثل: (ظَلاَّ - اضمحَلاَّ)، ومثل: (عبئَا - شيئَا)، وغيرها، ممَّا يُؤكِّد أنَّ التنويع في القوافي يُعَدُّ من أخصِّ خصائص الشعر المرسل، كما أنَّ التنويع في الكم الصوتي للإيقاع يُعَدُّ خصيصةً من خصائص الشعر الحر.
ومن هنا فإنَّ الشعر الحر يُعَدُّ أسلوبًا جديدًا أعاد توزيع وترتيب تفاعيل الخليل، وهو شعرٌ ذو شطر واحد لا شطرين، وليس له طولٌ ثابت، "وإنما يصحُّ أنْ يتغيَّر في كلِّ سطرٍ شعري عدد التفعيلات، ويكون هذا التغيُّر وفْق قانونٍ عروضي يتحكَّم فيه"[23].
وفي ترجمته (روميو وجولييت)، اعتمد باكثير على هذا اللون الجديد، وبدَتْ جمله متماسكة، يأخُذ بعضها بتلابيب بعض، وتكمل الجملة سابقتها، ويتَّضِح هذا من قوله[24]:
أوَّاه إن استَيْقظت وحَوْلي هذي المَرائِي التي
تقشَعِرُّ لها الأبْدانُ، ألَيْسَ يجنُّ جُنُوني
فألعَبُ بالمُتَناثِر من أوْصال جُدُودِي
وأقصد نَحْوَ الممزَّق تيبالت أنسله من أكفانِه
ثم أَعمدُ فِي هذه السُّورة العُظْمَى
لفقار نسيب كبير فأحملها كالهراوة
أحطِّم رَأسِي بها وأطيرُ دِماغي شعاعَا!
وَيْكأنِّي أرى شبَحًا لنسيبي تيبالت
ينشُد روميو الذي شكَّه بذُبابِ حُسامِه
قِفْ يا تيبالت مكانَكَ! ها أنا يا روميو جِئتُك!
أنا شاربةٌ هذا مِن أجْلِك!
فالوحدة هنا ليست وحدة الوزن والقافية، ولكنَّها وحدة المعنى والجملة التامَّة، كما أنَّ النَّغَمَ الموسيقيَّ لا ينتهي بانتهاء السطر، بل يطَّرد ليستغرق السطرين والثلاثة، وقد اعتمد الشاعر على وسائل شتَّى لتحقيق هذا الترابُط المعنوي والسردي الرائع بين الأسطر؛ فاستخدم الاسم الموصول (التي) في نهاية السطر الأوَّل، وجاءت جملة الصلة (تقشعرُّ لها الأبدان) في السطر الثاني، كما استخدم كثيرًا من حُروف العطف؛ مثل: (الفاء) التي تُفِيد التعقيب والترتيب في أوَّل السطر الثالث، و(الواو) في أوَّل السطر الرابع، و(ثم) في أوَّل السطر الخامس... وهكذا.
وتُطالِعنا أشعار عدَّة لباكثير، غير مسرحيَّاته الشعريَّة، تنهج هذا النهج الجديد، الذي يعتَمِد على التنويع في القوافي، واستخدام الموسيقا بحرفيَّة جديدة تخضَع في تشكيلها للحالة النفسية أو الموقف الانفعالي، "بحيث أصبحت القصيدة الجديدة صورةً موسيقيَّة متكاملة، تتلاقَى فيها الأنغام المختلفة وتفترق مُحدِثة نوعًا من الإيقاع الذي يُساعِد على تنسيق مشاعر الشاعر وأحاسيسه المشتَّتة، وحتى يستطيع الشاعر أنْ يجعَلَها صورةً مقفلة ومكتفية بذاتها، ولها دلالتها الشعوريَّة الخاصَّة، التي يستطيع متلقِّي القصيدة أنْ يُدرِكها في غير عناء، وأنْ يحسَّ تساوقها مع المضمون الكلي للقصيدة"[25]، ويتضح هذا بجلاء في قصيدته التي يقول فيها[26]:
في غُرفَةٍ واجِمَةٍ قَفْرةٍ
ليسَتْ لها بارِقةٌ لِلمُنَى
هادِئة لا عَنْ طُمَأنينةٍ
ساكنة مِثْل سُكُون الفَنَا
النُّور فِي أرْجائِهَا حائِرٌ
يَصِيح من يَأسٍ: أقَبرِي هُنا؟!
وَلاَ جَوابٌ غيْر هَمْسٍ بِها
وبك يَا ابْنَ الشَّمسِ أينَ السَّنَا؟
لا ذَنْبَ للنُّورِ ولا غَيْرِه
في غُرفةٍ خالِيَةٍ مِن (أنا)
يا لَيْتَ لليأس سبيلاً إلى
قَلْبِي فَأَحْيا بِفُؤادٍ خَلِي
وا عَجَبًا منِّي أأستَنجِد اليأس
كأنِّي لم يَمُتْ مَأمَلِي
ما أنا فِيهِ اليَأس لَوْ لم أكُنْ
عن راحَةِ اليائِسِ في مَعزِل
مُصِيبتي هذا الشُّعور الذي
يَربِط ماضيَّ بمستَقبَلِي
وما الَّذِي أنْسانِيَ اسمِي فَلا
أذكُرُ ما اسمِي خالدٌ أمْ علي!
فهذه تجربةٌ تأمُّليَّة بدا فيها الشاعر فيلسوفًا متحيِّرًا، يبحَثُ عن نفسه في خضمِّ هذا التِّيه الدنيوي، الذي تجسَّم أمامه في هذه الغُرفة الصامتة المُقفِرة التي لا حياةَ فيها ولا مُنى ولا طمأنينة، لكنَّها هادئة وساكنة سُكونَ الفناء.
فكلُّ شيءٍ يوحي بصورة الموت، الذي يمتدُّ من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، صورةٌ فنيَّة مليئة باليأس والقتامة التي تبدو في هذا النور الحائر في أرجاء الغُرفة، وهذه الاستغاثة التي تتوسَّل إلى اليأس أنْ يُخرِجها من ظلمات الجهل والنسيان.
فالغرفة القفرة الساكنة ما هي إلا الدُّنيا الضيِّقة، وما هذا اليائس البائس سوى الإنسان الذي لا حول له ولا قوَّة؛ فهو الذي استبدَّ به اليأس والنسيان، فلم يعدْ يذكُر أقرب مفردات المعجم إلى ذاكرته؛ وهي اسمه، وهذا يُعبِّر - بلا شكٍّ - عن مأساة الإنسان بعامَّة، ومأساة الشاعر العربي المعاصر بخاصَّة.
ويُلاحظ أنَّه لا يمكن اختزال أو حذف أيِّ سطرٍ من القصيدة؛ إذ قد يُسِيء ذلك إلى مجمل معمار بنائها شكلاً وفنًّا، بل وربما يهدم شُموخ هذا البناء، أو يُشوِّه جمال توازُنه الهندسي فيفقد القارئ القُدرةَ على التذوُّق الجمالي، والانسجام مع سحر الإبداع، وهذا يُؤكِّد معنى التلاحُم الشديد بين الجمل والمعاني في هذا النوع من الشعر.
كما يلاحظ هنا أنَّ باكثير قد استخدم مفردات صورته الشعرية كإشاراتٍ انفعاليَّة، تختزن في داخلها تجارب ومواقف متعدِّدة، وتُلخِّص موقف الإنسان في كلِّ زمان ومكان، فتكون هذه المفردات بمثابة الاستحضار الانفعالي لهذه المواقف وتلك التجارب.
وهنا يتمثَّل جوهر الشعر الحر ومَغزاه الحقيقي؛ فهو يهدف إلى التعبير عن مُعاناة الشاعر الحقيقيَّة للواقع الذي تعيشُه الإنسانية المعذَّبة.
فالقصيدة الشعريَّة إنما هي تجربة إنسانيَّة مستقلَّة في حدِّ ذاتها، ولم يكن الشعر مجرَّد مجموعة من العواطف والمشاعر والأخيلة والتراكيب اللغوية فحسب، وإنما هو إلى جانب ذلك طاقة تعبيريَّة، تُشارِك في صُنعها كلُّ القدرات والإمكانيَّات الإنسانية مجتمعةً - كما أنَّ موضوعاته هي موضوعات الحياة عامَّة، تلك الموضوعات التي تُعبِّر عن لقطات عاديَّة، تتطوَّر بالحتميَّة الطبيعيَّة، لتصبح كائنًا عضويًّا، يقومُ بوظيفة حيويَّة في المجتمع.
ومِن أهم تلك الموضوعات ما يكشف عمَّا في الواقع من الزيف والضلال، ومواطن التخلُّف والجوع والمرض؛ ممَّا يدفع الناس إلى فعل التغيير إلى الأفضل، خاصَّة المجتمع العربي إبَّان هذه الحقبة التاريخيَّة.
وفي ظنِّي أنَّ كتابة باكثير لشعر التفعيلة على هذه الصورة، قد سبقَتْه مرحلةٌ تطوُّريَّة جوهريَّة؛ وهي كتابة الشعر على نظام الموشح أو المزدوج أو المسمط أو المخمس[27]، وقد تَمثَّل هذا في كِتابته قصائدَ على نظام الشعر المزدوج، نلمَحُ فيها التنويع الموسيقي، والتجديد الإيقاعي؛ ومن أمثلة هذه القصائد قصيدة (كلنا عرب)، التي نشرها في "مجلة الفتح" العدد (433)، عند سَماعه إلغاء تأشيرة الدُّخول، وقيود الجوازات بين المملكة العربية السعودية ومملكة العراق.
والقصيدة تبلُغ ستة وأربعين بيتًا، بَناها على نظام المزدوج، وجاء وزنها على مخلع بحر المتدارك، ذلك البحر الذي كان مفضَّلاً لديه في كتابة هذا الشعر الحر بعد ذلك، ويقول في هذه القصيدة[28]:
فَأَجَابَ الدَّمُ ثَائِرًا مُحْنِقَا مُغْضَبًا يَكْظِمُ نَفَسًا مُحْرِقَا مَا شَكَكْتُ بِهِ أَبِهَذَا الغَبِي قَدْ أَحَسَّ بِهِ دَمُكَ اليَعْرُبِي أَعَجِيبٌ أَخٌ ضَمَّ عَطْفًا أَخَاهْ كَبُرَتْ جُمْلَةً حَمَلَتْهَا الشِّفَاهْ أَوَ لَيْسَ العَجَبْ طَامِعًا فِي أَخِيهْ مُستَعِينٌ عَلَى أَهْلِهِ صَائِدِيهْ مَا لِهَذِي الحُدُو دِ ارْفَعُوهَا ارْفَعُوا وَيْلَهُمْ قَطَّعُو نَا لِكَيْ يَبْلَعُوا
نلاحظ أنَّ لغة الشاعر الرَّصينة التي عُرِفت في شِعره التقليدي قد اختفَتْ، وحلَّت محلَّها لغةٌ أخرى عذبة قريبة في معانيها، وتقترب كثيرًا من لغة الحياة اليوميَّة، من مثل قوله: (الغبي - قطعونا - يبلعوا).
كما نلاحظ أنَّ موسيقا تفعيلة المتدارك (فاعلن) والخبب[29] قد أتاحَ للشاعر إمكانيَّة واسعة للتحرُّك خلال أشكال غير محدودة من الموجات النفسيَّة، التي جاءتْ أشبه بالصرخة التي نادَتْ على العرب: أنِ اتَّحدوا من جديد، والغوا هذه الحدود التي صنَعَها الاستعمار بينكم ليقطع أوصالكم، ثم يبتلعكم بعدها.
وهناك قصيدة أخرى هي (أغنية النيل)، وقد نشرها في "مجلة الرسالة" العدد (57) سنة 1934م، ويبدو أنها متزامنة مع القصيدة السابقة، وقد بَناها على المزدوج، وجاء وزنها على مخلع بحر البسيط يقول فيها[30]:
وَالزَّوْرَقُ النَّاعِسُ يَغْفُو عَلَى المَاءِ كَالبَائِسِ اليَائِسِ فِي وَسْطِ نَعْمَاءِ يُرَتِّلُ الشِّعْرَ مِجْدَافُهُ اللاَّغِبْ يُشَيِّعُ العُمُرَا وَيَنْدُبُ الصَّاحِبْ يَجْرِي فَيَرْعَاهُ فِي أَلَمٍ بَالِي يُهِيجُ مَسْرَاهُ ذِكْرَى الهَوَى الخَالِي غَنَّى بِهِ المَلاَّحْ أُغْنِيَّةَ الحُبِّ يُكَرِّرُ التَّصْدَاحْ بِالنَّغَمِ العَذْبِ يَمُدُّهَا يَا لَيْلْ يَا لَيْلِي يَا عَيْنِي مُنَادِيًا بِالوَيْلْ مِنْ أَلَمِ البَيْنِ
وتبدو هذه القصيدة أقرب إلى المقطَّعة الشعريَّة، التي تقومُ على انفعالٍ واحد مُهَيمِن على جميع أبياتها وكلماتها، كما أنَّ لغة الشاعر أوغَلتْ في السُّهولة، حتى استعارت ألفاظ وتعبيرات العامَّة؛ مثل قوله: (يا ليلي يا عيني)، وجاءت الموسيقا هادئةً لصُنْعِ بِناء سيمفوني مُتنوِّع الدرجات اللحنيَّة.
وهناك نماذج أخرى تُشبِه النموذجين السابقين؛ مثل: قصيدة بعنوان: (شهر الصيام)، التي نُشِرت في "مجلة الفتح" في العدد 478 - السنة العاشرة، وقصيدة أخرى بعنوان: (فلسطين المجاهدة)، ونُشِرت في العدد 505 - السنة الحادية عشرة)، وثالثة عنوانها: (تحية الدكتور سوتومو) ونُشِرت في العدد 514 - السنة الحادية عشرة.
ثم جاءَتْ تجربة ترجمة مسرحية (الليلة الثانية عشرة) لشكسبير، على طريقة الشعر المقفَّى المألوف، وأردَفَها بترجمة مسرحية (روميو وجولييت) على تفعيلة بحر المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعول)، ومن أبياتها قوله على لسان جولييت وهي تُوشِك أنْ تحتسي السائل المنوم الذي أعطاه لها الراهب؛ لتكونَ في هيئة الموتى مدَّة اثنتين وأربعين ساعة، رَيْثما يحضر زوجها روميو فينطلق بها من القبر[31]:
الوَداع الوَداع! إلَهِي يعلَمُ وَحْدَه
أَيْنَ يجمَعُنا الدَّهر بعدَ اليوم
هذي برِداء الخَوْفِ النافِض راجفة فِي عُرُوقِي
حتَّى لَتَكادُ تجمد سِعر حَياتِي
فلأُنادِهِمَا لتَعُودا إلَيَّ لتَسكِين رُوعِي
يا حاضِن! لا، لا، فَماذا عَسَايَ تَصنَعُ عِندِي؟
إنَّ هذا الدَّور القائظ لا بُدَّ لي أنْ أُمثِّلَه وحدي
يا جام هَلُمَّ إليَّ!
ربما لا يصنعُ لِي شَيْئًا البتَّةَ هَذَا المَزِيج
أفأغدو غَداةَ غَدٍ زوجَ باريس؟
كلاَّ، يَأبَى خِنجَري هذا، فلتَبقَ إِلَى جانِبِي
ربَّما كانَ سمًّا أرادَ بِهِ القسُّ ألاَّ أعيش
لئلاَّ يكون زَواجي الجديد وَبالاً عَلَيْه
إذَا عَلِمُوا أنَّه قد زوَّجَنِي من قبلُ بروميو
ثم جاءت تجربته الناضجة في مسرحيَّته (إخناتون ونفرتيتي)؛ التي تعدُّ بحقٍّ أوَّل محاولة شعرية عربية معروفة لكتابة شعر التفعيلة أو الشعر الحر؛ الذي عرَّفَه باكثير بأنه: "حر لعدم التزام عدد معيَّن من التفعيلات في البيت الواحد"[32]؛ ولهذا يقول د. عز الدين إسماعيل: "فحركة الشعر الجديد التي بدأت منذ أواخر الأربعينيَّات في العراق، والتي امتدَّت فيما بعدُ إلى سائر الأقطار العربيَّة، وما زالت حتى اليوم تنمو وتتطوَّر، لم تحدث في شكل القصيدة منذ البداية إلا ما أحدَثَه باكثير؛ من كسر وحدة البيت، وطرح القافية بصورتها القديمة، واتِّخاذ التفعيلة أساسًا للبناء الموسيقي"[33].
ويمكن القول: إنَّ شغف باكثير بفنِّ المسرح - خاصَّة مسرح شكسبير - كان البوَّابة الرئيسة التي ولَج منها إلى الشعر المرسل المنطلق والشعر الحر، وكأنه قد أعاد فرعًا إلى أصله؛ إذ إنَّ المعروف أنَّ المسرحيَّة كانت تُكتَب شعرًا - لا نثرًا - في بدايتها، منذ نشأتها في الأدب اليوناني الكلاسيكي على يد أبرز أعلامها: صوفوكليس، ويوروبيدس، وإيسخيلوس، وأرسطوفان؛ ولهذا فإنَّ النقَّاد كانوا يُطلِقون على المسرحي لقب شاعر حتى وإنْ كان ناثرًا[34]، يقول باكثير: "حقًّا كان الشعر لغة المسرح عند كتَّاب اليونان والرومان، وكذلك عند شكسبير وأقرانه في العصر الإليزابيثي، وعند راسين وكورني في فرنسا... ومن أشهر مَن حاوَل ذلك الشاعر الأيرلندي الكبير ييتس، الذي كان يعتَقِد أنَّ إحياء الشعر في المسرح هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ المسرح من غلَبَة الاتجاه الذهني عليه، ولإعادة الوَقْدِ العاطفي إليه، وقد نجح في ذلك"[35].
كما أنَّ المسرحيَّة - حتى بعدَ أنْ صارت تُكتَب نثرًا - "لم تفقد جوهر الفن الشعري أو رُوحه، وإنما ظلَّت في كثيرٍ من الأحيان محافظةً على هذا الجوهر وتلك الرُّوح الشعريَّة، ويبدو هذا بوضوحٍ في مسرحيَّات ذوي الحس المرهف والأصالة الفنيَّة من كُتَّابنا المُعاصِرين"[36].
وتبدو هذه الرُّوح الشعريَّة واضحةً في كثيرٍ من المسرحيَّات التي كتَبَها باكثير على نظام الشعر الحر، مثل: إخناتون ونفرتيتي، والوطن الأكبر، وهمام في بلاد الأحقاف.
ولم تكنْ نزعته التجديديَّة محصورة في التخلُّص من رتابة القافية المتكرِّرة، التي ميَّزت القصيدة التقليديَّة، وإنما تجاوَزت ذلك إلى تحطيم البيت الشعري واستبداله باصطلاح "وحدة التفعيلة"، كما أنَّه أدخل فكرة الجملة الشعريَّة المنطلقة بدلاً من البيت الشعري المغلق، خاصَّة في مسرحيَّاته؛ حيث استقرَّ في نفسه عدم صلاحية الشعر المقفى لفن المسرح، فاعتمد على هذه الجملة الحواريَّة، التي كانت تَطُول وتقصر حسب الموقف الدرامي.
ومن هنا فإنَّ مَنحَى باكثير قد اختلف عن مَنحَى شوقي في كتابة المسرحيَّة؛ حيث إنَّ شوقي في مسرحيَّاته الشعريَّة كان يعتمد على تنويع الوزن، عندما كان ينتقل من شخصيَّةٍ إلى أخرى في الحوار، لكنَّ باكثير اعتَمَد على الشعر المرسل المنطلق - المعتمِد على وحدة التفعيلة - والمصاغ على هيئة سُطور؛ ممَّا جعل المتلقِّي لا يَكاد يشعُر أنَّه شعر!
لكنَّ باكثير في النهاية اقتنع من خِلال تجاربه الشخصيَّة أنَّ الشعر لا يصلح سوى لكتابة المسرحيَّة الغنائيَّة، أمَّا النثر فهو الأنسب لكتابة المسرحيَّة عُمومًا، ويتبيَّن هذا من قوله: "وأرى أنَّ النثر هو اللغة الطبيعيَّة للمسرحيَّة، وأنَّ الشعر لا ينبغي أنْ يُكتَب به غير المسرحيَّة الغنائيَّة؛ التي يُراد بها أنْ تُلحَّن وتغنَّى وهي الأوبرا"[37].
ولهذا فإنَّ تجربته التجديديَّة تبدو ناضجةً في قصائده العديدة، التي لم تُجمَع في دِيوانه المعروف "أزهار الرُّبى في شعر الصبا"[38]؛ الذي تنتمي قصائده إلى المرحلة التقليديَّة من حياته الفنيَّة شكلاً ومضمونًا، وإنما جاءت قصائده على شعر التفعيلة متناثرةً في المجلات الأدبية والصحف التي كانت سائدة إبَّان هذه الفترة؛ مثل: مجلة أبوللو، والرسالة، والفتح، والكاتب، والمسرح، والنهضة الحضرمية.
ومن هذه القصائد قصيدته التي يقول فيها[39]:
يَا لَهَا مَهزَلَه
يَا لَهَا سَوْءة مُخجِله
مَثَّلتْ دَوْرَها أمَّة تدَّعِي ضلَّةً أنَّها من كِبار الدُّوَل
سلَّمت لِلْمُغِيرين أَوْطانَها لِتُوارِي فِي سُورِيا أَوْ في لبْنان الخَجَل