في بعض ظروف الخَلل لا نريد الذهاب إلى الطبيب المختص ، ونذهب إلى أطباء نعرف بحواسنا ومشاعرنا، أنهم يستوردون الأمراض التي ليست من أمراض بيئتنا، ويصفون أدْويَة لأمراض غير موجودة.
أما أمراضنا الحقيقية، فهم أبعد الناس عن التعرف عليها وعلاجها. وإنما مرضنا في هذا الجانب هو "الفقر العام"، الذي مبعثه "الفقر العقلي"، والجمود الحضاري الذي يجعلنا نترك الملايين من الأفدنة الخصبة الصالحة للزارعة في بلادنا، بينما يُصلِح غيرنا الأرض الصحراوية، ثم نشكو قلة المحاصيل ونستوردها من بلاد أقل منا في الإمكانيات الزراعية بكثيرٍ، لكنهم أغنى منَّا عقلاً ووعيًا، وتخطيطًا وإرادة.
وإنما أمراضنا في حقيقتها أمراض نَبعت من انحرافات في فترة حضارتنا، وصَلت بنا إلى انحطاط فكري وتخلُّف، وخمول ومضاعفات أخرى، تراكمت في ظل انفكاك ارتباطنا بديننا؛ بشموله وانسجامه، وصفائه وإيجابيته.
بعض المعالم الأساسية في طريق النهضة:
ونبدأ الآن في الإلماع إلى بعض المعالم الأساسية في طريق النهضة بإذن الله، فالخطوة الأولى في عملية العودة إلى قطار الحضارة الإسلامية، تنحصر في شرطين متكاملين:
1- أن تتهيأ النفس المسلمة لتلقِّي الإسلام.
2- أن يُعرض الإسلام كما هو من القرآن والسُّنة، لا من ضغوط الواقع المريض، وبدون أن نلجَأ إلى علم النفس الفردي، أو علم النفس الاجتماعي، فإننا نميل إلى أنه من الصعب التفرقة بين الإنسان كفردٍ، والإنسان كعضو في المجتمع، وبالتالي فإن ما نريد تقديمه من علاجٍ، لا بد أن يُلاحظ التيارات المزاحمة؛ أي: إنه بينما يحاول تهيئة النفس لتلقي الإسلام الصحيح، فإن عليه أن يلاحظ أن عمله هذا يتعرَّض كلَّ يوم لضغوط معاكسة، وما لم يُعِدَّ لهذا التزاحم عناصرَ مقاومة، فإنه لن يصل إلى تقدُّم في العلاج.
كما أن تفريغ النفس مما ورِثته في حضارتها وطفولتها من مفاهيمَ، لن يتم إلا بوضع البديل الذي يطرد القديم، فالنفس لا تعرف "الخلاء المطلق"، وحبَّذا أن نركز على الجيل الجديد، الذي قد يسهُل تقديم التصورات الصحيحة له، عن طريق تقديم "ثقافة إسلامية" تنقل له الإسلام كما هو.
وإذا كان القرآن يقول لنا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، فمن الواضح أن تغيير ما بالنفس لن يتمَّ إلا عن تغيير ما بالفكر، وبالتالي فالثقافة الإسلامية الصحيحة بمجالاتها - في التوجيه، والتربية، والأخلاق، وغرْس النـزعة الجمالية، والسلوك المنسق البناء - هي الخُطوة الأولى لإيجاد "إنسان الحضارة الإسلامية" القادر على النهوض بها في دورة جديدة للتاريخ.
إن حضارتنا تَقبل - بطبيعتها - أيَّ انفتاحٍ أو "عصرية" عقلانية في مجال الدراسات الطبيعية والكونية، وهي واثقة أن علماء الطبيعة وغيرهم لو التزَموا المنهج الموضوعي، فلن يصلوا - ولم يصلوا حتى الآن مع أنهم في القمة - إلى شيء من معطيات هذه العلوم، تستطيع أن تَهُزَّ أُسسها الفكرية.
وبالتالي، فهي ترى ضرورة الجمع بين "الثابت" (الأصالة)، و"المتغير" (نتاج الفكر)، وترى أن ما جاء في القرآن والسُّنة الصحيحة، هو هذا "الثابت" الذي تُبنى فوقه الطوابق "المتغيرة"، ولا تعارض بين الثابت المتصل بالفطرة، الممنوح ممن خلَق الخلق، ويعلم جوهرهم، وبين المتغير المحض من اجتهاد العقل البشري، الذي يتطوَّر عامًا بعد عام، وقد يُرفَض في جيلٍ ما أثبتَته أجيال كثيرة سابقة.
إن "الأصالة" شرط أساسي من شروط بقاء هُويَّتنا وكِياننا الداخلي في عالم يَعِجُّ بألوان الصراع الحضاري، كما أننا في حاجة إلى "العصرية"؛ لكي نستطيع الحياة مع أبناء هذا العصر، وبهما معًا - وممتزجين - نستطيع أن نسير في موكب التاريخ.
إن الاعتماد على ما تُقدمه الأصالة وحدها، إنما يعني الاكتفاء بالحلول المستوردة من الماضي، كما أن الاعتماد على التجارب المعاصرة، إنما يعني الاكتفاء بالحلول المستوردة من الخارج، وكلا النوعين من الاستيراد لن يكون مطابقًا لِما تحتاجه ذاتنا وظروفنا بكل أبعادها وأجزائها وتحدياتها، وبالتالي فإن استئناف حضارتنا الإسلامية في القرن الحادي والعشرين (الخامس عشر للهجرة)، يقتضي أن ننطلق من فكرٍ إسلامي أصيل، يعي جذوره الحضارية، ويعي التحديات التي يواجهها، والواقع الذي يعيشه؛ ليعبر عن الشخصية المسلمة، وعن غاياتها وأهدافها في الحضارة والتاريخ بكافة أعماقها وشمولها[1]، وهو عمل لا يصنعه فرد واحد؛ لأنه لا بد أن يكون شاملاً للجوانب الاجتماعية كلها - سياسية واقتصادية وأخلاقية - بل هو مهمة المؤسسات العلمية والإعلامية، والمفكرين الإسلاميين والحكام، بل وكل مهتم بقضية مستقبل هذه الأمة، ودورها الحضاري في التاريخ.
لقد واجه الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حضارتين انفتَحتا على الدولة الإسلامية، وقدَّمتا من التصورات والمشكلات والأوضاع والضغوط، ما كان كافيًا لأن يَهُزَّ قواعد الدولة الإسلامية الناشئة من أساسها، لكن عبقرية عمر - رضي الله عنه - وعبقرية الجيل الإسلامي الأول، وشعوره، وإيمانه بتفوُّق مبادئه، ووعْيه بدور الأصالة في تكييف المعاصرة، وضمان السيطرة عليها لا الذوبان فيها، هذا كله كان له أكبر الفضل في أن يستطيع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجيله الراشدي تحقيقَ الانتصار الحضاري أيضًا - بعد العسكري - على الحضارات الجديدة، ونجَح المجتمع المسلم في الإفادة من إيجابيَّاتها، ونفْي سلبياتها، وتَمَّ صهر هاتين الحضارتين في الوعاء الإسلامي، وأصبحتا جزءًا من الحضارة الإسلامية.
وما فعلته الحضارة الإسلامية في موقفها من الرومان والفرس، فعلته أوروبا في أخذها من الحضارة الإسلامية حين قطَعت الجذور الإسلامية لما اقتبسَته.
ولا يتردَّد مفكر كبير كـ"أرنولد توينبـي" - خلال أبحاثه الحضارية - في الربط بين الحضارة الأوروبية والكنسية الكاثوليكية، وفي رأيه أن الحضارة عمومًا تنشأ عن الأديان؛ أي: من "الشرارة الإلهية الخلاَّقة"؛ فلماذا لا ننطلق من ديننا وأصالتنا، حاملين القرآن والعربية في يد، وكل ما نستطيع الوصول إليه من إبداع علمي وفني في اليد الأخرى؟!
إن العالم المتحضر يقوده خلاصة صفوته المثقفة، وإن هذه الصفوة لتشكِّل مؤسسات تستغل كل مُعطيات العقل الحديث، وتتمتَّع - كقيادة حضارية - بكل الإمكانات الاجتماعية التي تُمكنها من أداء دورها.
وقد فطِنت "اليابان" - بعد أن دُمِّرت في الحرب العالمية الثانية - إلى أهمية هذا الأساس في بناء الأمم، فأعطَت للمدرسين رواتبَ وُكلاء الوزارة، وصلاحيات وكلاء النيابة، ووفَّرت لهم كل إمكانيات البناء، أما طبقة "العلماء" أو "التكنوقراطيين"، فهي تتمتَّع في العالم المتقدم كله بما كانت تتمتع به أيُّ صفوة ممتازة في الحضارة السابقة؛ ولذا فليس عجبًا أن عادت اليابان خلال أقل من رُبع قرن لتُشارك في قيادة العالم، بعد أن كانت قد دُمِّرت تدميرًا شبه كامل بأسلحة أمريكا الذرية.
إن الطبقات التي تقود الفكر والأخلاق، يجب أن "تستشار" - على الأقل - بطريقة مدروسة ودائمة، وبشكل قانوني في خطوات الطريق الحضاري للأمة المسلمة، على أن تكون هذه الطبقات موثوقًا في انتمائها لعقيدة الأمة وتراثها، وعلى أن تكون من أهل الكفاية والدين، لا من أهل الثقة والدنيا.
ومن خلال الخطين المتكاملين - لا المتوازيين - أي: خط القيادة الحضارية المتمثلة في الصفوة المختارة، وخط الرعية المسؤولة أيضًا قَدْر حجمها: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيَّته))؛ (متفق عليه).
من خلال هذين الخطين المتكاملين، تتحرَّك الأمة كلها في سُلَّم الحضارة بانسجام وتآزُر.
"ولا ريب أن أعباء ومسؤوليات التوجيه والابتكار، والنظر إلى المستقبل، والتطلع إلى الأعلى - تُلقي بثِقَلها على كواهل النخبة والصفوة، وبقدر ما يكون شعور الطليعة بضخامة الأعباء مُرهقًا، وبقدر ما تواجهه النخبة بتصورات سليمة وبعقليات متفتحة، بقدر ما تتمكَّن هذه النخبة من تجاوُز المشكلات الحضارية، ومن دفْع الأمة في مجالات الرقي والتصعيد".
"وتظل الأمة والجماعة بخير، طالَما أن هذه الطليعة متفتحةُ الأُفق، مدركةٌ لحركة التطور، عارفة بطبيعة عصرها، وبأساليب الحياة المُستجدة، وعندما تبدأ هذه النخبة بالانغلاق على نفسها، أو عندما تصاب هذه الفئة أو تَفسُد، أو يقع الشِّقاق بين أفرادها - فإنها تكون قد استنفدَت أغراضها، فتَعجِز عن القيادة الراشدة"[2].
فالنخبة في ظل القاعدة البشرية التي تتجاوب معها، تستطيع أن تترجم تطلُّعات الأمة إلى واقع ملموس، كما أن القاعدة الواعية تستطيع أن تُحاسب النخبة الراشدة، وتَعصمها من أمراض الزعامة وانحرافاتها، وبالتالي تتبادل النخبة والقاعدة التأثيرَ والتأثر، وتمضي سفينة الأمة متخطِّيةً العواصف والتقلُّبات، بفضْل تماسُكها التام ووعْيها الحضاري الكامل.
الدور العالمي:
لن يستطيع المسلمون الخروج من مشكلاتهم الصغيرة والجزئية والمبعثرة في أكثر أركان فكرهم وحياتهم - إلا بالإصرار على رفض التمزق الداخلي، والانهيار النفسي الذي تُحدثه هذه المشكلات، ولن يتمَّ لهم ذلك إلا بالإحساس بمسؤولية كونية وعالمية، ليس تُجاه أنفسهم ومجتمعاتهم فحسب، بل تجاه الإنسانية كلها، وهذا ما تُحدده لنا الآية الكريمة: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، وكما يقول المفكر الهندي المسلم: "وحيد الدين خان": "فإنه لم يوجد عصر من العصور تفتَّحت فيه آفاق العمل لرسالة الإسلام العالمية مثل القرن العشرين، بفضل النتائج الدنيوية لثورة الإسلام التوحيدية".
فهناك كل أنواع التأييد للفكر الإسلامي والتصور الإسلامي للكون والحياة، تُقدمها العلوم الإنسانية التي تَندرج تحتها علوم النفس والاجتماع والتاريخ والتشريع، كما أن ما اكتُشِف من حقائق الكون قد دحَض بعض الأساطير التي قدَّمتها الأديان الأخرى، وأكَّدت - في الوقت نفسه - أحقيَّة الدين الوحيد الجدير بهذه التسمية، وهو الإسلام.
ومما قدمه العصر من وسائل العون للدعوة الإسلامية والحضارة الإسلامية[3]:
1- شيوع حرية الرأي والبحث.
2- شيوع تدبر ظواهر الكون وتسخيرها.
3- شيوع المنهج العلمي والفكر التاريخي، الذي قضى على الأسطورة والفكر الخرافي.
4- توفُّر الوسائل الإعلامية كأجهزة الإعلام السمعية والمرئية والمطبعة.
وثمة جانب آخرُ خطر، يساعد تحوُّل المسلم إلى رسول حضارة إنسانية في هذا العصر، بحيث يُنظَر إليه على أنه المُنقذ من خطر الفناء الإنساني الشامل، وهذا الجانب يتمثل في الأوضاع التي انتهت إليها الحضارة الأوروبية التي توشك أن تقضي على إنسانية الإنسان ومستقبله.
الأفول الحضاري:
في ظل هذه الحضارة "لا ندري إلى أين نحن سائرون، ولكننا نسير"، كما عبَّر الشاعر الأمريكي "بينيه"، أما "رينيه دوبو"، فيعبِّر عن هذا الانهيار في كتابه "إنسانية الإنسان"، ويصف الحضارة الأوروبية في كلمات قليلة: "كل حياة شخصية ناجحة، وكل مدينة ناجحة عمَّتْها أجهزةٌ منظمة من العلاقات التي تصل الإنسان بالمجتمع وبالطبيعة، وهذه العلاقات الأساسية تَضطرب بسرعة وعمقٍ الآنَ بسبب الحياة العصرية التي نحياها، والخطورة ليست مقصورة فقط على اغتصابنا للطبيعة، بل في تهديدنا لمستقبل البشرية نفسها".
وعن "دوبو" ننقل كلمة رئيس بلدية "كليفند" متهكِّمًا: "إذا لم نكن واعين، فسيذكرنا التاريخ على أننا الجيل الذي رفَع إنسانًا إلى القمر، بينما هو غائص إلى رُكبته في الأوحال والقاذورات".
ولن نستطيع تتبُّع ما قاله كل المشخِّصين لحضارة أوروبا من أبنائها، وذلك كـ"ألكسيس كاريل" في كتابه: "الإنسان ذلك المجهول"، أو "أرنولد توينبي" في دراسته للتاريخ، أو "إشبنجلر" في كتابه: "عن أقوال الغرب"، أو روجيه جارودي في كتابه: "حوار الحضارات"، أو "كونستاتنان جورجيو" في قصته: "الساعة الخامسة والعشرون"، وهي الساعة التي يرمز بها "جورجيو" إلى أُفول الحضارة الأوروبية وانهيارها، واكتساح حضارة جديدة قادمة من الشرق: "حيث يَكتسح رجل الشرق المجتمع الآلي، وسيستعمل النور الكهربائي لإضاءة الشوارع والبيوت، لكنه لن يبلغ به مرتبة الرقيق، ولن يرفع له معابد وصوامع كما هو الحال في بربرية المجتمع الآلي الغربي، إنه لن يضيء بنور "النيون" خطوط القلب والفكر، إن رجل الشرق سيجعل نفسه سيدًا للآلات والمجتمع الآلي".
إن الفكر الإنساني المتحرر المستوعب لأزمة الحضارة المادية، التي تكاد تَخنُق إنسانية الإنسان، وتدمِّر الجنس البشري، هذا الفكر الإنساني سيجد في الصياغة الإسلامية للحضارة المَحضن والملاذ والملجأ، لكن المهم أن يُدرك المسلمون دورهم، ويُخطِّطوا له، ويستغلوا الإمكانات المتاحة للدعوة في هذا العصر، ويتقدموا بقلبٍ واثقٍ مؤمن، وعقل قوي مُنفتح إلى الساحة التي تناديهم: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 4 - 5].