المقدمة
لفتتِ القصةُ القرآنية أنظارَ الباحِثين، الذين رأَوا فيها مَعينًا لا ينضب من الجمال والجلال، وحسن العرض وقوَّة التأثير؛ فكثرت الدراسات والبحوث التي جعلتْ منها مجالاً للبحث، ومع اهتمامهم بالعناصر الفنية للقصة القرآنية[1]، إلا أنني لم أقف على دراسةٍ لعنصري البداية والنهاية، بالرغم من أهميتهما في جمال القصة وروعتها؛ لذا رأيت دراسة هذين العنصرين، وإبراز أثرهما في إبداع عرض القصة القرآنية؛ فهما عنصران لا مشاحَّة في وجودهما، وعلى الضدِّ من ذلك المصطلحات القصصية غير الملائمة؛ كمصطلح الحبكة، أو العقدة، أو الحل، فهذه المصطلحات، وإن ناسبت القصة الغربية وما جرى مجراها، فإنها لا تتَّفق مع جلال القصة القرآنية وقداستها، وهي قصص حق تتنزَّه وتجلُّ عن الحيل الفنية للروايات الأدبية المختلفة.
وكما نهل اللُّغويون من لغة القرآن واتخذوها إمامًا لهم، ونهل البلاغيون من بلاغة القرآن واتخذوها إمامًا لهم، فإن من الواجب على النقَّاد المسلمين النهلَ من التقنية الإبداعية في قصص القرآن وجعلها إمامًا لهم، بدلاً من اجتلاب القيم الفنية للقصة من الغرب، وهي قِيَم تلائم طبيعةَ أولئك القوم وتصوراتهم، ومفهوماتهم عن الإنسان والكون والحياة.
كما ينتظر من دراسة النص القصصي القرآني أن تؤدِّي إلى إبراز قواعدَ ومقاييسَ نقديةٍ في البناء الجمالي للقصة القرآنية، وسوف نجد أنها قِيَمٌ عالية، يمكن استثمارُها لقيام رؤية نقدية إسلامية، تقوم على الخصائص المتميِّزة لقصص القرآن، التي ستمنح القصة الإسلامية خصوصية، تعصمها من اللهاث وراء إفرازات الحياة النقدية، التي تتشكَّل في عالم اليوم، ويسير كثير منها في اتجاه مضادٍّ لهدي القرآن الكريم، في ظل هذا المفهوم الواضح ستتم دراسةُ عنصرَي البداية والنهاية.
ونظرًا لكثرة قصص القرآن وتنوُّعها وتعدُّدها؛ فقد اخترت نموذجين منها في كل قسم من أقسام البحث، ممَّا يدعم الفكرةَ التي قام عليها ويثبت صحته، وجعلت البحث في خمسة مباحث، ثم ذكرت خاتمة أجملتُ فيها نتائج البحث، تبعها فهرس للمصادر والمراجع.
هذا، وآمل أن يُلقِي هذا البحثُ الضوء على هذين العنصرين المهمَّين في القصة القرآنية، وأن يكون لبنة في بناء نقدي متميِّز، يقوم أساسه على القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، في إبداعهما وجمال عرضهما.
والله الموفِّق والمعين إلى كل خير، والحمد لله أولاً وآخرًا.
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم.
♦ ♦ ♦
المبحث الأول: بداية القصة ونهايتها في إطار السياق القرآني:
هنالك اتِّساق عام ينتظم موضوعاتِ السورة الواحدة، حيث تأتي القصة القرآنية في مقام ملائم تمامًا لتناسقها مع الجو العام للسورة[2]، وما يسبق القصة وما يعقبها بمثابة الإطار الذي يحيط باللوحة، ويعطيها أبعادها وحدودها المناسبة، وسنلاحظ هذا الاتِّساق في إطار القصة القرآنية، سواء أكانت قصة طويلة أم قصيرة، وذلك على النحو التالي:
1- ما قبل البداية وما بعد النهاية في القصة الطويلة:
ومن ذلك قصة إبراهيم - عليه السلام - حيث نجد أول مشهد للقصة تصويره وهو صبي يقلِّب طرْفَه في ملكوت السموات والأرض، ويسبق الحديثَ عن هذا المشهد قولُه - تعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام : 73].
وهي آية تُعَدُّ تمهيدًا لما سيحدث من إبراهيم - عليه السلام - من تأمُّل السموات والأرض، وإعجابه بكوكبها وقمرها وشمسها، وأنها أعظم من أصنام أبيه وقومه، فهي بشهادتهم أَوْلَى بالعبادة من تلك الأصنام، فلعل تلك الرؤوس تترفَّع عن حمأة الطين، لتنظر إلى أعلى وتتدبَّر خلق السموات والأرض، وتتحرَّر من تلك النظرة الضيِّقة المَقيتة، ولعلهم يخطون خطوات متدرِّجة للوصول بهم إلى الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ.
فما قبل البداية يمهِّد السبيلَ لها، ويحقق الإحاطة بالمعنى الإيماني لقصة إبراهيم - عليه السلام - وأن ما سيظهر منه في محاجَّته قومَه ليس معناه نسيانَ الحقيقة الكبرى، وهي أن الله - تعالى - هو خالق السموات والأرض، وأنه الجدير بالعبادة وحده.
وحين انتهت القصة بأذان إبراهيم في الناس بالحج، كان ما تلا ذلك مناسبًا أتَمَّ المناسبة لها، فإذا كان قد دعاهم إلى المجيء إلى مكة، فليس حضورهم هدفًا بحدِّ ذاته، ولكنه لأداء عبادة خاصة، لها أسلوبها، وطريقتها، وأداؤها الذي به فقط تحقق الاستجابة لدعاء إبراهيم - عليه السلام.
لقد انتهتْ قصة إبراهيم بالدعوة إلى الحج، فناسب ذِكر المشوقات التي تحمس المؤمنين لأداء هذا النسك، وهي:
1- شهود منافع.
2- ذكر اسم الله طوال تلك الأيام المعلومات.
3- الأكل والإطعام من بهيمة الأنعام.
4- قضاء التفث[3].
5- الوفاء بالنذر.
6- الطواف بالبيت العتيق.
7- بيان أجر من يعظِّم حرُمات الله.
8- أمر باجتناب الأوثان واجتناب قول الزور.
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 28 - 30].
لقد كانت بداية قصة إبراهيم إسقاط الأوثان، بتحطيمها في النفوس، ودحض مزاعم الكفار وشبهاتهم فيها، ثم إسقاطها على أرض الواقع بتكسيرها، وجاءت النهاية بالدعوة إلى الحج وبيان مناسكه، واجتناب الأوثان، وربطها بالرجس وقول الزور، الذي يُضادُّ الحق الصريح والحجة البالغة، وليس ثمَّة زور أعظم من الافتراء على الله - تعالى - والإشراك به، وبذا لا تتحوَّل القصة إلى مجرد خبر فحسب؛ ولكنها تعطي إشارة البدء بتنفيذ دعوة إبراهيم - عليه السلام - وتحويلها إلى أرض الواقع، وحث المؤمنين على الاستجابة لها؛ بذكر المنافع المتحققة لهم في دنياهم وأخراهم.
وفي قصة موسى - عليه السلام - نجد أن ملخصًا موجزًا بمجريات الأحداث، يسبق بداية القصة، ويمثِّل إضاءة عامَّة لها، من بدايتها إلى نهايتها، دون دخول في التفصيلات، أو عرض للجزئيات، مما يعطي تصورًا عامًّا عنها[4]، يقول - تعالى -: ﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 1، 6].
ومن شأن هذه البداية إحاطة المرء بالقصة في صورة موجزة، وحفْز اهتمامه إلى معرفة كيف حدث هذا، ثم تبدأ القصة بعد ذلك في عرْض مجريات أحداثها وتفصيلاتها، وحين تختم يتكرر ذِكر امتنان الله على رسوله محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذكر هذه المعلوماتِ الدقيقةِ الصحيحة، التي ما كان له أن يقف عليها وينتفع منها لولا رحمةُ الله، ثم يذكر - تعالى - غرضًا رئيسًا من ذلك، وهو إنذار قومه الذين لم يكونوا يعلمون بهذه الأمور؛ رجاء أن تكون سببًا في تذكيرهم وإيقاظ قلوبهم من الغفلة، بذكر سنة الله - تعالى - في الذين ضلُّوا من قبلهم: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [القصص: 86 - 87].
2- ما قبل البداية وما بعد النهاية في القصة القصيرة:
لقد رأينا في قصتَي إبراهيمَ وموسى - عليهما السلام - أمثلةً بارزة على مجيء القصة القرآنية ضمن إطار عام، يمنح كلَّ قصة تناسقًا متميزًا، بحيث يسبق البدايةَ تمهيدٌ أو تشويق، ويعقب نهايةَ القصة بيانٌ لجوانب العِبرة، وليس ذلك الحكم خاصًّا بتلك النماذج السابقة، التي جاءت فيها القصة القرآنية مفصلة، تتَّسم بشيء من طول العرض؛ بل نجد تحقيقَ الاتِّساق العام في القصص التي تذكره موجزة، فإن من المألوف أن يسبق عرضَها إضاءةٌ لها، بجعلها تجسيدًا عمليًّا لحكم من الأحكام، ثم يعقب نهايةَ تلك القصص إبرازُ أمرٍ من الأمور يمثِّل أهمية خاصة ينبغي التأكيد عليه.
من ذلك أن القرآن الكريم قد مهَّد لعرض عِدَّة قصص من قصص الأنبياء، فقال - تعالى -: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50].
تبع ذلك ذكرُ قصة ضيف إبراهيم، وقصة لوط، وقصة أصحاب الحجر، وهي قصص يتجلَّى فيها ذلك الوصفُ الكريم الذي وصَف المولى به نفَسه من أنه هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم.
وتبع ذِكرَ تلك القصص مباشرةً قولُه - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴾ [الحجر: 85، 89].
حيث يختم - تعالى - هذه القصص بمثل ما بدأها به من الثناء على نفسه، وتصبير الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قومه، والصفح الجميل عنهم، فإن لهم موعدًا لن يخلفوه، ودعوته إلى الاعتزاز بنعمة الله عليه بالقرآن والرسالة، وأنها خيرٌ من الدنيا وما فيها، وهي إشارة لطيفة إلى أن سبب هلاك تلك الأقوامِ اغترارُهم بالدنيا وإعراضُهم عن الآخرة.
♦ ♦ ♦
المبحث الثاني: البداية الموسعة والنهاية المفتوحة:
1- قصة آدم - عليه السلام -:
تظلُّ الإنسانية في لهفة لمعرفة بداية وجودها، ويذهب الباحثون في أصل الإنسان كلَّ مذهب في تخيُّل صورة الإنسان الأول، وكيفية وجوده، ولكن الأدوات التي يملكونها أضعفُ من أن تُوصل إلى الرأي اليقين، ويظلُّ أولئك يقذفون بالغيب من مكان بعيد[5]، فيما يكرم الله - تعالى - عبادَه المؤمنين بتعريفهم ببداية الخلق في تفصيل وبيان مدهشين يشفيان الغليل، ويحس المؤمن أنه قد أمسك بطرف خيط الموضوع.
فقد سجل القرآن الكريم بداية آدم أبي البشر التي تمثِّل البداية الحقيقية للإنسان: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
إن الآيات السابقة لا توقفنا على بداية آدم - عليه السلام - فحسب؛ ولكنها تطلعنا على الظروف التي أحاطتْ بها، فتسجل الآياتُ حوارًا في الملأ الأعلى بين الله - عزَّ وجلَّ - وملائكته، بشأن ذلك المخلوق الجديد الذي سوف يسكن الأرض، وحين يخلق الله - تعالى - آدمَ، يأمر الملائكة بالسجود فتسجد، ويأبى إبليس أن يسجد؛ استكبارًا وحسدًا: {﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].
وتتوالى الأحداث في البداية في تتابُعٍ موجز، ودقة متناهية، تشهد بالإعجاز البياني في القرآن.
ويدْعو الله - تعالى - آدم أن يسكن الجنة، وينهاه عن الأكل من شجرةٍ معينة؛ امتحانًا وابتلاءً له، ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36].
فبداية القصة تتضمَّن التشويق والإثارة من خلال ذلك الخبر الذي أخبر به المولى - عزَّ وجلَّ - ثم نجد صداه يرفع مستوى ذلك التشويقِ وتلك الإثارة، بسؤال الملائكة، الذي يكشف عن خوفها من الله - تعالى - وكمال فضله، فكأنها - وهي على ما هي عليه من العبادة - تخشى أن تكون قد قصَّرت في طاعة ربها، "فسؤالها سؤال استكشاف، وليس سؤال استنكار"[6].
فقد عصَمَهم الله - تعالى - ممَّا يتلبَّس به الإنسان من المعصية والحسد، وتنتهي القصة بمشهد آدمَ وحواءَ يستغفرانِ ربَّهما، ويعترفان بذنبهما، فقد خُيِّر إبليس فاختار الإنظار على التوبة، فكان جزاؤه اللعن والطرد من رحمة الله، وخُيِّر آدم فاختار التوبة، ووقف مع زوجه موقف المنيب، الراجي لفضل الله وكرمه، الذي يشعر بأنه لا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
وموقف التوبة فيه تزكيةٌ وتطهير، فإن الأعمال بخواتيمها، وكما بدأت القصة بمظهر التكريم المشتمِل على خلق آدم وسجود الملائكة له، فقد انتهتْ بنهاية يؤوب فيها آدم وحواء إلى الله - تعالى - نادمينِ معترفين بخطئهما ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].
ويفيد تكرار الأمر بالهبوط في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 38]، بعد قوله - تعالى -: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36]؛ لئلا يظن أن التوبة ألغت الأمرَ الأول بالهبوط[7].
فنحن من خلال هذه النهاية نرى شريط الأحداث يتوقَّف عند هذا الموقف؛ لأنه الموقف الأهم، وتظل نهاية الشخصيات غير مقصودة؛ لأن عنصر الحدث هو العنصر البارز، فالحياة لم تنتهِ من خلال هذه النهاية؛ ولذا لم يُشِر إلى نهاية الشخصيات، وإنما الذي انتهى فقط هي مرحلة من مراحل تلك الحياة، فالنهاية لتلك، بداية لمرحلة أخرى تستمر لدى آدم وذريته إلى قيام الساعة، إنها نهاية مفتوحة، وكأنما التحدي الذي عاشه آدم - عليه السلام - سيتكرر بصورة، أو أخرى، لدى كلِّ أبنائه من خلال الالتزام بهدي الله - تعالى - أو الإعراض عنه ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38].
فأمام آدم وبنيه طريقان لا ثالث لهما: إيمان أو كفر، هدى أو شقاء، فلاح أو خسران[8]، ويستمرُّ النداء الإلهي الكريم داعيًا إلى اتِّباع هدى الله؛ لأن ذلك وحده هو الذي يعصم الإنسانَ من الضلال والشقاء، ويقيه النارَ، ويُدخِله برحمة الله الجنة، وبذا يظلُّ صدى ذلك النداء باقيًا مدى الدهر.
ويُوازِن الأستاذ سيد قطب بين نهاية قصة آدم كما وردت في القرآن بجعل الهبوط والاستغفار آخِر القصة، وكما وردت في التوراة، فيرى أن ختام القصة في القرآن قد تحقَّق فيه المستوى الإبداعيُّ الرائع، الذي ترك نهاية القصة مفتوحة للخيال؛ لتذهب في تصور آدم وزوجه في الأرض غريبين لم يعرفَا أقطارَها، ولم يتعوَّدا حياتها، وليس لهما من خبرة بالمعاش فيها، إلى آخر ما يتملاه الخيال من مشاهِدَ وفروضٍ[9].
إن الامتحان الذي خاضه آدمُ - عليه السلام - سيخوضه أبناؤه، ويتعرضون لمثل ما تعرَّض له من إغراء الشيطان وفتنته، فالقصة نفسُها تتكرَّر في البشر إلى قيام الساعة، وتغدو المحرَّمات التي حرَّمها الله - تعالى - على عباده ونهاهم عنها، المعادلَ الموضوعي لتلك الشجرةِ التي نُهِيَ آدم - عليه السلام - عن الأكل منها، ويتمحض الناس إلى فريقين:
فريق يطيع الله - عزَّ وجلَّ - ويعصي الشيطان، فيكون جزاؤه الجنة، وفريق يعصي الله - عزَّ وجلَّ - ويطيع الشيطان، فيكون جزاؤه جهنم - والعياذ بالله.
2- قصة عيسى - عليه السلام -:
ومن قصص القرآن التي تبدأ بداية موسَّعة وتنتهي بنهاية مفتوحة، قصةُ عيسى - عليه السلام - التي تبدأ بقصة أخرى، هي قصة مريم - عليها السلام - وأمها امرأة عمران المرأةُ الكريمة في الأسرة الكريمة، التي اصطفاها الله على العالمين؛ فهي بيئة طيبة تمثِّل الطُّهرَ والعفاف والنقاء في أجلِّ صوره ومظاهره.
فتنذر امرأةُ عمرانَ لله - تعالى - ما في بطنها، وحينما تضع مولودَها تفاجأ بأنها أنثى، ولكنها مع ذلك تظل وفيةً بنذرها، وتنشأ مريم - عليها السلام - في كفالة زكريا على خير ما تنشأ عليه الفتاةُ المؤمنة الكريمة، ويصطفيها الله - عزَّ وجلَّ - لتكون أمًّا لعيسى - عليه السلام - ثم تتتابع التفصيلات الدقيقة لحقيقة ما جرى بعد ذلك حيث يرسل الروح القدس.
وتمضي قصة مريم في أحداث صاعدة، كلُّ حدث أقوى إثارةً من سابقه، بدءًا من رؤيتها الروحَ القدس ونفخه فيها من روح الله، وحتى تضع حملها، فتقول في لهفة: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]، فكيف ستواجه قومَها؟ وأنَّى لهم أن يصدِّقوا أنها ما زالتْ عفيفة طاهرة، ومعها هذا المولود؟ ثم تنزل عليها السكينةُ والطمأنينة، فتأكل وتشرب، وتقرُّ عينًا، ويذهب روعها، وتعلم أن ما حدث آيَة معجزة فضَّلها بها الله – تعالى - ولن يخذلها؛ فهي دليل فضلٍ وكرم، ولن يخذلها الله - عزَّ وجلَّ.
وتنتقل الدهشة إليهم، فيسألون في تعجب واستنكار: ﴿ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27- 28]، إن الهزَّة لتطلق ألسنتهم بالسخرية والتهكُّم على (أخت هارون)، وفي تذكيرها بهذه الأخوَّة ما فيه من مفارقة، فهذه حادثة في هذا البيت لا سابقة لها، ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيًّا، فأشارت إليه، ويبدو أنها كانت مطمئنَّة لتكرار المعجزة هنا، أمَّا همْ، فما عسى أن نقول في العجب الذي يساورهم، والسخرية التي تجيش بها نفوسهم، وهم يرَوْن عذراء تواجههم بطفل، ثم تتبجح فتشير إليه، ليسألوه عن سرِّها ﴿ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 29][10].
وفي مشهدٍ مثير تكلَّم ذلك الغلام مُبعِدًا كلَّ شائبةِ نقصٍ تلحق بوالدته، ومظهرًا كرامتَها عند ربها ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30- 33].
ويصبح دليل الاتِّهام نفسُه دليلَ البراءة، والتأييد الرباني الذي جعل من تلك البراءة حقيقةً من الحقائق العظمى في تاريخ الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - ولأن المهم في مجال بحثنا هو الحديث عن البداية والنهاية فحسب؛ فإننا سنطوي الذِّكر صفحًا عن تفاصيل حياة المسيح - عليه السلام - لنقف على آخر مشهد في حياته، وهو مشهد مؤامرة اليهود لقتله وصلبه، أو ما بدَا للمتآمِرين أنهم قد قتلوه - عليه السلام - في حين أن الذي قُتل هو شبيهه، أما عيسى - عليه السلام - فقد رفعه الله إليه ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157].
وقد تداخلتْ في نهاية هذه القصةِ الدنيا مع الآخرة على نحو لا نشهده في أيِّ قصة أخرى، فنهايتها الأولى تتضمَّن اختفاء (البطل) بانسحاب مؤقت عن مسرح الأحداث، ويظلُّ غير المؤمنين في حيرة من أمرهم، ويختلفون في موته كشأن اختلافهم في مولده.
هذه هي النهاية الأولى في الدنيا، ولكنها لا تمثِّل خاتمة المطاف؛ بل تنقلنا القصةُ لتصوُّر عيسى - عليه السلام - يقف يوم القيامة على رؤوس الأشهاد متبرئًا من الذين اتخذوه وأمَّه إلهين من دون الله، وهي خاتمة تسجِّل ضلال الذين عبدوا عيسى - عليه السلام - وتؤكِّد أنه هو نفسه لا يرضى بذلك، فهو عبد الله ورسوله، فضلاً أن يكون قد أمرهم بذلك؛ إنما كان قوله لهم: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة: 117].
وبذا يسقط في يد كلِّ الذين أشركوا به، ويعلمون أنهم قد ضلَّ ضلالهم: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 116، 118].
إنها نهاية تبعث على الرهبة في ذلك اليوم المشهود، وفي خطاب المولى - عزَّ وجلَّ - لعبدِه عيسى - عليه السلام - وفي تبرُّؤ الرسول من الذين أشركوا به، مؤكدًا أنه قد بلَّغ الرسالة، وكان شهيدًا عليهم طوال وجوده معهم، ثم يَكِلُ الأمر كلَّه لله - عزَّ وجلَّ - إن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم، فالكل عبيده - سبحانه وتعالى.
♦ ♦ ♦
المبحث الثالث: الارتباط العضوي بين البداية والنهاية:
1 - قصة إبراهيم - عليه السلام -:
ومن أبرز القصص التي يتجلَّى فيها عنصر الربط واضحًا بين البداية والنهاية، قصةُ إبراهيم - عليه السلام - ولقد كان أولُ مشهدٍ نرى فيه إبراهيمَ - عليه السلام - مشهدَه وهو صبي صغيرٍ يقلِّب طرْفه في ملكوت السموات والأرض، ويتظاهَر أمام قومه أنه يبحث في لهفة عن الهداية إلى الدين الحق، لقد رآهم يعبدون أصنامًا يتَّخذونها آلهة، لم يكن إبراهيم شاكًّا أو ضالاًّ عن معرفة ربه - عزَّ وجلَّ[11].
لكنه أراد أن يتدرِّج في ترقيَة عقولهم، فجعل تساؤله تساؤلاً خارجيًّا شارَكَه قومه فيه، وتابعوا معه الاحتمالات المناسبة: من كون الرب هو الكوكبَ، أو القمر، أو الشمس؛ حيث يتجلَّى للجميع ضعفُ هذه المخلوقاتِ وأفولها، في مشهد لا يقبل الجدلَ، وتشرق اللحظة المعرفية التي ينتظرها إبراهيم - عليه السلام - فالربُّ - عزَّ وجلَّ - أعظم من "كوكب يلمع، أو قمر يطلع، أو شمس تسطع، ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس، إنه يجده خالقًا لكل ما تراه العيون، ويحسه الحس، وتدركه العقول"[12].
وهنا يقرِّر بجلاء أن هذه المخلوقاتِ كلَّها لا تصلح أن تكون آلهة ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: 75- 79].
وفي المشهد السابق يتجاوَز إبراهيمُ مرحلةَ الكشف عن الخطأ، إلى مرحلة عمل الصواب، حين يخاطبهم بقوله: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، ويذهب بعض الباحثين إلى أن حوار إبراهيم - عليه السلام - السابق في سورة الأنعام، يكشف عن خطوات التفكير العلمي في حلِّ المشكلات؛ ويتمثل هذا المنهج في أن خليل الله إبراهيمَ - عليه السلام - قد شعر بوجود مشكلة أولاً، وثانيًا جمَعَ بياناتٍ كافيةً حول موضوع المشكلة، وثالثًا وضع الفروض، ورابعًا قوَّم فروضه، ووصل في نهاية المطاف إلى هدفه المنشود[13].
والأمر لا ينتهي بهذا الاكتشاف المُثِير فحسب؛ لكن مشهد البداية يستمرُّ في رصد التداعيات التي أحدثها موقفُ إبراهيم - عليه السلام - حين راح الملأ يحاجُّونه: ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 80، 81].
لكنه كما انتصر في إيضاح ضلالهم باتِّخاذ تلك الأصنام، فقد انتصر أيضًا في دفع كل شبهة ألبستْ على أذهانهم وخُيِّل لهم معها أن لديهم ما يسند موقفَهم الهش الضعيف، واليقين الذي انتهى إليه إبراهيم لا يظل في إطار المعرفة، لكنه يتحوَّل إلى موقف تطبيقي؛ حيث يمضي إلى تلك الأصنامِ يحطمها ويجعلها جذاذًا، يحطمها في الحس كما حطَّمها في النفس، ويجعلهم يعترفون بأنفسهم بأنهم ضالُّون، وعلى هذا النحو تمضي قصة أبي الأنبياء تعرض مشاهدَ من الإيمان الذي لا يتزعزع.
وفي القصة تتجلَّى شخصيةُ الداعية الذي يواجه مختلفَ الظروف بما يناسبها؛ فهو: "الداعية الحكيم في مواجهة السلطان، والداعية البصير في نقضه لمعبودات قومه، والداعية الشجاع في تحطيم الأصنام ومحاجَّة قومه، والداعية الشفيق في محاجَّته لوالده، ودعوته إياه، واستغفاره له"[14]، وقد تعرَّض - عليه السلام - لصنوف الابتلاء: من الطرد، والإيذاء، والإلقاء في النار، والأمر بذبح ابنه؛ لكنَّه خرج من كل ابتلاء ظافرًا منتصرًا.
ثم توَّج إبراهيم - عليه السلام - حياتَه الرائعة ببناء بيت الله الحرام، وهو آخر مشهد نراه فيه، حين يقوم على جبل عرفة يؤذن للناس بالحج: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 26- 27].
وانتهاء قصة إبراهيم بهذه النهاية تجعل ذلك النداءَ يبدو في صورة مستمرَّة، ومشهده - عليه السلام - لا يبرح مخيلتنا وهو يؤذن بالحج، ويتوافد حُجاج بيت الله إلى ذلك المكان الطاهر؛ تلبيةً لذلك النداء الكريم، الذي تتجاوَب النفوسُ المسلمة معه، وتتأثر به، وتهرع إلى أداء النسك على النحو الذي أدَّاه أبوهم إبراهيم - عليه السلام.
وجمالية هذه النهاية تقوم على بقاء المشهد الأخير حيًّا مؤثِّرًا، فلم يعد المشهد مجرَّد تاريخ ماضٍ، ولكنه حاضر في واقع الحياة كلما حجَّ حاجٌّ إلى هذا البيت.
والنهاية ترتبط ارتباطًا عضويًّا ظاهرًا بتلك البدايةِ التي بدأتْ فيها قصةُ إبراهيم - عليه السلام - فهو هناك صبي يتظاهَر بالبحث عن الإله، وهو هنا شيخ كبير، عرف ربَّه - عزَّ وجلَّ - وآمَن به، وبنى بيته، ودعا إلى حجه؛ فالارتباطُ بين البداية والنهاية في القصة واضحٌ جلي.
2- قصة يوسف - عليه السلام -:
ومن قصص القرآن التي يتجلَّى فيها الارتباطُ بين بداية القصة ونهايتها، قصةُ يوسف - عليه السلام - حيث تبدأ بدايةً مُثِيرة للتشويق، وهي بداية هادئة تزيح الستارَ عن المشهد ببطء: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، وتتحوَّل تلك الرؤيا إلى ما يشبه اللغز المحيِّر بما تضمَّنه من رمز خفي على يوسف - عليه السلام - لكن الأب عرف دلالته واستبشر به، ثم توالَتْ أحداث الحياة فيما بعد لتحيله من مجرَّد رؤيا إلى أمر واقعي، وخلال تلك الأحداث ينتقل الرسول الكريم في أوضاع متقابلة: طردًا وتشريدًا، وإغواءً وسجنًا، وفقرًا وغنى.
وفي مشهد البداية ينشأ حوارٌ بين يوسفَ وأبيه - عليهما السلام - وحظُّ الأب أكبرُ من حظِّ الابن في هذا الحوار، فالابن ذَكَر لأبيه تلك الرؤيا ولم يعقِّب، وظل يستمع بإنصاتٍ إلى ما يقوله والدُه عن هذه الرؤيا العجيبة، أمَّا الأب فكان وقوفه على خبر تلك الرؤيا داعيًا إلى التعامل معها بطول نفَس، والتأكيد على أهمية أن يبقى خبرُ هذه الرؤيا سرًّا من الأسرار، لا يذيعه على إخوته، ولا يبوح به لأحد منهم ﴿ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ [يوسف: 5]، مبينًا مغبَّة مخالفة هذا الأمر، حيث يناصبونه العداء، وينافسونه على هذا الفضل ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ﴾ [يوسف: 5]، وتنبيهه إلى عنصر الشر الذي سوف يحرِّكهم ضده؛ ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5].
وفي إطار هذه التحذيرات يؤكِّد على دلالة الفضل العظيم التي تبشر به: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6][15].
بعد هذه البداية تمضِي القصة في تنقُّلات عجيبة، وأوضاعٍ مختلفة، حتى يوقفنا القرآنُ على مشهد النهاية، وهي نهاية سعيدة مُفرِحة، تغمرها بهجةُ اللقاء بعد طول فراق، وتخضلُّ العيون بدموع الفرح، وفي هذه النهاية نلاحظ كثرةَ الأحداث وتتابعها في إيقاع سريع، مؤذِن بقرب الخاتمة، حيث يدخل الإخوة ومعهم أبوهم وأمُّهم على يوسفَ في ملكه وسلطانه، فيدعوهم للاستقرار الآمِن في مصر، ويرفع أبويه على العرش احتفاء وتكريمًا، وبعد ذلك يخرُّ الجميع له سُجَّدًا، فيرى أمام عينيه المشهد نفسَه الذي رآه في المنام، لقد تحقَّقت الرؤيا بكل تفصيلاتها، ويخاطب أباه: ﴿ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100].
إنه يعدِّد نِعَم الله عليه ولطفه به، ولأن نعمه - تعالى - لا تحصى؛ فإنه يذكر ما يناسب المقام، ومن أبرزها: تحقق تلك الرؤيا المباركة، وإخراجه من السجن، وانتقال أهله من حياة البداوة بما فيها من جفاء وشظف، إلى حياة المدينة بما فيها من لطف وهنية عيش، وإصلاح ما بينه وبين إخوته، والملاحظ أن يوسف - عليه السلام - لم يستثمر قوته للبطش والانتقام؛ وإنما قابل فعلتهم بالصفح والغفران.
وبعيدًا عن الغرور والعجب، يحيل النبي الكريم نصر الله إلى موقف شكر له - سبحانه - على كمال إفضاله وإنعامه، وبعد أن سوَّى كل شيء بينه وبين أسرته، انتقل إلى الأمر الأهم، وهو رفع آيات الحمد والثناء على الله - عزَّ وجلَّ - في حديث ضارعٍ، يبدأ بتعداد تلك النعم والإقرار بها، وينتهي بسؤاله المزيد[16].
فلقد ذاق يوسف - عليه السلام - الدنيا: حلوها ومرها، وعرف أنها ليست بشيء؛ ولذا اشتاق إلى ما عند الله من نعيم، فما كان الجاه والسلطان ليصرفاه عن أمنيته الغالية بأنْ يتوفَّاه الله مسلمًا، وأن يلحقه بالصالحين من عباده[17].
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، وتبقى روعة هذه النهاية في تسجيلها لهذا المشهد الاحتفالي الرائع، ممَّا لا يمكن أن يبلغه إلا هذا التعبيرُ القرآني المعجِز.
♦ ♦ ♦
المبحث الرابع: نهاية القصة بنهاية الأحداث:
1- نهاية قصة نوح:
قصة نوح - عليه السلام - مثل أكثر قصص الرسل الآخَرين التي نرى فيها الواحد منهم أوَّل ما نراه في موقف دعوة، وقد بلغ الأشدَّ، وتلقَّى الوحي وأُمر بالبلاغ، ونهايات قصص هؤلاء الرسل تنطق بالسنة الإلهية التي لا تتخلَّف، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [يونس: 103].
وهي واقعة لا محالة وإن بدَتْ في وقت من الأوقات بعيدة المنال ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، ولذا فإن عنصر النهاية يعد هو العنصر الأهم، ولذا تسلط عليه الأضواء، ويبدو المشهد النهائي معروضًا عرضًا موسعًا، وتُتاح له مساحةٌ أكبر في مجال القصة، ولعل ذلك العرض الموسَّع يهدف إلى استبقاء صورة النهاية في الذهن؛ لأنها الحلقة الأهم التي تتجلَّى فيها العبرة والموعظة على أقوى ما تكون.
لقد أبدى نوح - عليه السلام - صبرًا غير عادي على تكذيب قومه، واستغرقت منه الدعوة قريبًا من ألف سنة، فما كَلَّ ولا مَلَّ، حتى تأكَّد له أن القوم لن يسلموا ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ﴾ [هود: 36]، فترَكَهم وما هم عليه، ودعا الله - تعالى - أن ينتقم منهم، وفي مشهد النهاية يظهر نوح - عليه السلام - وقد أتَمَّ صناعة الفلك، وأصبح ينتظر الإشارة الإلهية ليركب السفينة مع المؤمنين من قومه.
وتُطالِعنا قصَّة نوح مع ابنه، وهي حلقة من حلقات النهاية في هذه القصة؛ فنوح - عليه السلام - يدعو ابنه إلى ركوب سفينة النجاة، والابن يرفض ذلك ويُدِير ظهره لدعوة أبيه، وينضمُّ إلى الذين يتسابَقون إلى صعود الآكَام والجبال، طمَعًا في السلامة، مع أن الأب يؤكِّد له أن ذلك لا ينفعه، ويستمرُّ الحوار لا ينهيه إلا الموج الذي يَحُول بينهما؛ فيهلك الابن غرقًا وتطفو جثَّته على سطح الماء مع جثث الغارقين من قومه: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 42- 43].
وبعد هلاك القوم الكافرين غاضَ ماء الأرض، وتوقَّف مطر السماء، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44].
وبدَت الأرض في خلق جديد ولم يعد على ظهرها إلا هذه الثلَّة المؤمنة، التي رأتْ مصارع القوم، ووَعَتْ رعاية الله لها وحفظه.
إن حشد تلك الأحداث الكثيرة المهمَّة في هذا الحيِّز لَيُعطِي النهاية طابع الإثارة الذي يأخذ بمجامع القلوب، وإذا كانت الأحداث قد انتهَتْ فإن ذلك يعني أن القصة قد بلغت أمدها ووصلت إلى نهايتها؛ لأن الاتِّجاه السائد فيها هو اتِّجاه الأحداث، والتركيز عليها وإبراز ما فيها من مواطن الاعتبار.
فتتوارَى الشخصيات ويصبح دورها تحريك تلك الأحداث، وتبادل التأثُّر والتأثير معها؛ ولهذا - والله أعلم - لم تسجل نهاية تلك الشخصيات التي كانت على ظهر السفينة؛ لأنها لن تمرَّ على امتحان أعظم من ذلك الامتحان الذي تخطَّته بنجاح، فالحديث عنها بعد ذلك يُضعِف فنية النهاية ويسحب منها طابع القوة والتأثير.
2- قصة موسى - عليه السلام -:
تُعَدُّ قصة موسى - عليه السلام - أكثر قصص القرآن تكرارًا[18]، وتتضمَّن سيرته ولادة موسى في قصر فرعون، وخروجه إلى مدين، وتكليم الله - تعالى - له، ثم سيرته مع بني إسرائيل، ويعنينا أن نقف على نهاية هذه القصة التي تتمثَّل في مشهد تحريضه بني إسرائيل على دخول الأرض المقدَّسة ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21]، إنه يقدِّم لهم البُشرَى بوعد الله - تعالى - لهم، ويسمِّي البلاد بأزكى أسمائها ﴿ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ﴾ تشجيعًا لهم، ويؤكِّد لهم أنها معركة محسومة النتيجة سلفًا، فقد كتَبَها الله لهم، ومع ذلك يتثاقلون ويخلدون إلى ما ألفوه من الذل والهوان، ويرفضون الجهاد، ويظلُّ يتودَّد إليهم ويحرضهم على القتال، ولكن لا فائدة؛ لأنهم يريدون نصرًا بلا معركة!
والحل في رأيهم أن يخرج القوم الجبَّارون من تلقاء أنفسهم ويسلموا لهم البلاد وهو أمر يرفضه منطق الواقع ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22]، ولعل في تكرار: ﴿ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ﴾ ما يكشف عن الصدق التعبيري في تصوير الجبن والخَوَر الذي ابتُلِي به بنو إسرائيل، وحين أكثر عليهم في ذلك قالوا قولتهم المنكرة: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].
فلمَّا قالوا ما قالوه أحلَّ الله عليهم عقوبته ﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ [المائدة: 26].
وبهذا الخطاب الإلهي يدخل بنو إسرائيل في التِّيه، وينتهي الفصل الأخير من قصة موسى - عليه السلام - فلا يَرِد ذكر بعد هذه الحادثة فلقد وفَّى بالأمانة وجاهَد في الله حقَّ جهاده، ولم يعد هناك ما يفعله معهم، أمَّا بنو إسرائيل فدخَلوا في التِّيه أربعين سنة، والمشهد السابق يحدِّد بدء هذا التِّيه إيذانًا بأن تذهب النفس في استبقاء مشهد التِّيه كل مذهب، وهي نهاية مأساوية مؤلمة، تظلُّ مثيلات لها متكرِّرة في تاريخهم الطويل مع أنبياء الله ورسله.
ويظلُّ ذلك الانطباع هو الأثر النفسي الذي يدوِّي في الذاكرة كلَّما ذكرت تلك القصة، وكأنهم ما زالوا حتى الآن في تيههم الذي دخلوه ذات، يوم وهذا ما جعل الأستاذ سيد قطب يُبدِي إعجابه بهذه النهاية المثيرة لقصة موسى - عليه السلام - مع قومه ويتساءل: " ترى أكان هناك ختام فني أجمل من مشهد التِّيه في نهاية ذلك الجهد الجهيد، وبعد ذلك التردُّد الشديد؟ إن مشهد التِّيه هو المشهد الفني الأنسب"[19].
هذا عن نهاية قصة موسى - عليه السلام - مع قومه، أمَّا نهاية موسى نفسه فقد سجَّلته السنة النبوية فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُرسِل ملك الموت إلى موسى - عليه السلام - فلمَّا جاءه صكَّه؛ فرجع إلى ربِّه فقال: أرسلتَنِي إلى عبدٍ لا يريد الموت، فردَّ الله عليه عينه وقال: ارجِع، فقل له: يضع يده على متن ثور؛ فله بكلِّ ما غطَّت به يده بكلِّ شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يُدنِيَه من الأرض المقدَّسة رميةً بحجر، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر))[20].
♦ ♦ ♦
المبحث الخامس: نهاية القصة بنهاية الشخصيات:
1 - نهاية قصة سليمان - عليه السلام -:
تأتي نهاية قصة سليمان - عليه السلام - مُثِيرة مدهشة؛ حيث يبدو واقفًا متَّكئًا على عصاه فلا يظنُّ أحد أنه ميت، ويخفى الأمر على الجن أنفسهم مع أنهم على مقربة منه، لقد أمر سليمان الجن بالعمل، وكان يعرف شرَّهم وخطورتهم فأخذَهَم بالشدة والعذاب.
والقصة القرآنية تختصِر الكثير لتُظهِر سليمان وقد قضى الله عليه بالموت واقفًا ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14].
ها هو ذا سليمان واقف يتَّكئ على عصاه يرقب عمل الشياطين والجن، وهم يصنعون له ما يشاء، ويؤدُّون أشغالاً شاقَّة، قد أصابهم العناء والتعب، ونبيهم لا يعطيهم فرصة للراحة، بل ما زال واقفًا أمامهم، ترَك كل أعماله، ووجَّه اهتمامه لهم؛ فأنَّى لهم أن يكسلوا أو يتهاونوا، إن عينيه تنظران إليهم وترصد كلَّ حركة من حركاتهم، وبمرور الوقت يتحوَّل العمل إلى عذاب مهين لا يُطاق، ذلك كله وسليمان - عليه السلام - واقِف على رؤوسهم، يخشون بطشه وعقابه، ويستمرُّ الأمر وهم لا يعلمون أنه قد توفي، وأن الماثِل أمامهم هو الجسد فقط، أمَّا روحه فقد صعدت إلى بارئها.
ها هم الجن الذين يظنُّ الناس أنهم يعلمون الغيب، يجهلون وفاة سليمان - عليه السلام - وهو قريبٌ منهم، فأي دليلٍ أعظم من هذا الدليل يفضح دعواهم ويكشف زيفها، ولكن وقوف سليمان - عليه السلام - لا يستمرُّ إلى ما لا نهاية؛ إذ يسلِّط الله دابَّة الأرض فتظلُّ تأكل عصاه، وحينئذ يهوي جسده على الأرض، وتكتشِف الجن موته، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن أخذ منها التعب كل مأخذ.
وهذه النهاية المؤثِّرة تسجِّل أبعادًا فاعِلة في حياة الناس الذين يعتقدون، بالجن وعلمهم الغيب، ولا يزال في ضِعاف الناس إلى يومنا هذا مَن يظن ذلك الظن، ويخافهم ويعوذ بهم، ومشهد نهاية سليمان - عليه السلام - يحمل أمرًا يتعلَّق بالتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، فها هو ذا سليمان - عليه السلام - الذي بلَغ من القوة والعظمة في الملك ما لا يبلغه أحدٌ من بعده، لا يستطيع أن يمنع عن نفسه الميتة التي كتَبَها الله عليه.
والعجيب اختيار الأستاذ سيد قطب أن تكون نهاية قصة سليمان هي مشهده وهو يحكم في الحرث ويعلِّل ذلك بقوله: "مشهد الحكم والحكمة هنا له قيمته الفنية أيضًا في حياة سليمان، فهو "سليمان الحكيم" كما يُلقَّب، وهو "سليمان الملك"، وفي هذا الحكم المبكِّر شاهِد بالحكمة الموهوبة وإرهاص للملك العريض، ثم هي طريقةٌ من طرق العرض؛ أن تنتهي قصة البطل بمشهدٍ من مشاهد طفولته أو صباه ذي علاقة وثيقة بمحور قصَّته من البدء للختام.
وما قاله الأستاذ سيد قطب مُستَبعد؛ إذ إن مشهد النهاية ليس محلَّ اختيارٍ مِنَّا، وإنما القصة القرآنية نفسها هي التي تحسِم ذلك الأمر وتحدِّده، فما دام أن القرآن الكريم قد صوَّر قصة وفاة سليمان - عليه السلام - فإن هذه الحلقة بالضرورة هي خاتمة القصة، واختيار حلقة أخرى من حلقات الحياة غير هذه النهاية يُخالِف منطق سير الأحداث، فضلاً عن أن هذه النهاية تحقِّق غرضًا مؤثرًا يجعلها لو لم تكن بالفعل هي نهاية القصة، لكان الأَوْلَى اختيارها على غيرها من المواقف.
2- نهاية قصة الرجل المؤمن:
أمَر الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يضرب مثلاً للمشركين، يتمثَّل في قصة أصحاب القرية التي ذكَرَها الله - تعالى - في القرآن، وأن الرسل الذين أرسَلَهم الله لهذه القرية قد كذَّبهم أهلها، وهمُّوا بطردهم، ثم يذكر المولى - عز وجل - أن رجلاً تدخَّل في اللحظات الأخيرة، وسعى ليُقنِع أصحاب القرية بضرورة الإيمان وترك ما هم عليه: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ق