مشهد من التاريخ يختصر القصة كلها
في سنة 1923م وهي سنة سقوط الخلافة العثمانية التي كانت آخر خلافة إسلامية، قررت أوربا النصرانية أن تقيم حفل انتصارها المبين على الإسلام والخلافة بطريقة جديدة وموجعة، حيث عقدت مسابقة لاختيار ملكة جمال أوربا في عاصمة الخلافة (أنقرة)، وكان من ضمن المتسابقات فتاة تركية وذلك لأوَّل مرة في تاريخ البلاد، وتقدمت الفتاة التركية واسمها "كريمان خالص" ممثلة لتركيا العلمانية، وقد استعرضت مفاتنها بلباس البحر على خشبة المسرح..!
وعندها قال رئيس لجنة التحكيم في المسابقة وقتها كلمات تقطر بالتشفي والشماتة، وتكشف عن كمّ الكراهية الدينية المتجذرة في نفوس الأوربيين تجاه دولة الخلافة العثمانية، إذ قال معلقًا:
"أيها السادة، أعضاء اللجنة، إن أوربا كلها تحتفل اليوم بانتصار النصرانية، لقد انتهى الإسلام الذي ظل يسيطر على العالم منذ 1400م، إنّ (كريمان خالص) ملكة جمال تركيا تمثل أمامنا المرأة المسلمة، ها هي (كريمان خالص) حفيدة المرأة المسلمة المحافظة تخرج الآن أمامنا (بالمايوه)، ولا بد لنا من الاعتراف أن هذه الفتاة هي تاج انتصارنا. ذات يوم من أيام التاريخ انزعج السلطان العثماني سليمان القانوني من فن الرقص الذي ظهر في فرنسا، عندما جاورت الدولة العثمانية حدود فرنسا، فتدخل لإيقافه؛ خشية أن يسري في بلاده. ها هي حفيدة السلطان المسلم تقف بيننا، ولا ترتدي غير (المايوه)، وتطلب منا أن نُعجب بها، ونحن نعلن لها بالتالي: إننا أُعجبنا بها، مع كل تمنياتنا بأن يكون مستقبل الفتيات المسلمات يسير حسب ما نريد، فلتُرفع الأقداح تكريمًا لانتصار أوربا".
التاريخ الإسلامي تعرض عبر مراحله لحملات عاتية من التشويه والتزييف لأهداف سياسية أو مذهبية، ولكن في كل مراحله كان التشويه والتحريف يتم بأيدي تنتسب للإسلام بصورة من الصور، إلا التاريخ العثماني فقد نال هذا التاريخ حظه الأوفر من التشويه على يد الأوربيين الذين يحملون قدرًا مهولاً من الحقد والعداء للدولة العثمانية التي أذاقت أوربا والأوربيين طعم الهزيمة والذل والانكسار لقرون؛ مما جعل الأوربيون يجتهدون أيما اجتهاد من أجل تشويه تاريخ الدولة العثمانية العلية، وسجلوا عن العثمانيين كل سلبية، وجالت بها أقلامهم، وحلقت بها أفكارهم، وتجاهلوا كل إيجابية، ونظروا إلى تاريخ العثمانيين بعين البغض التي تبدي المساوي.
التاريخ العثماني كتبه الأوربيون أو من افتتن بهم وسار على منهجهم؛ لذلك نادرًا ما نجد كتابًا تاريخيًّا يتناول الدولة العثمانية بإنصاف وحيادية، فصورة الدولة العثمانية في المراجع الأوربية والعربية -على حد السواء- صورة نمطية شديدة السلبية تتجاهل كل فضيلة وتبرز كل نقيصة، فهي في نظر الكثيرين دولة احتلال للعرب وإبادة ودموية وسلب ونهب، كرّست التخلف والجهل، ونهبت خيرات البلاد، وفي نظر الأوربيين دولة إرهاب وغزو وإغارة وطغيان، دولة تسترق الأطفال وتغتصب النساء وتحتل البلاد وتنهب الخيرات.
فالذاكرة الأوربية لم تنس يومًا، ما قام به العثمانيون في القارة الأوربية، لم ينس الأوربيون أبدًا فتح القسطنطينية عاصمة العالم النصراني وقتها سنة 857هـ على يد محمد الفاتح وتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، في أكبر إشارة على ظفر الإسلام على النصرانية، وكيف أن العثمانيين قد وسّعوا رقعة الأراضي الإسلامية لتشمل معظم يوغسلافيا والمجر وبولندا ونصف روسيا وبلغاريا ومقدونيا ورومانيا واليونان، وامتدت ولاياتها عبر ثلاث قارات.
الذاكرة الأوربية لم تنس كيف وقف العثمانيون في وجه الصليبيين على مختلف الجهات، فقد هاجموا شرق أوربا لتخفيف الضغط الواقع على مسلمي الأندلس، وواجهوا البرتغاليين في جنوب الخليج العربي، وواجهوا الأسبان في شمال إفريقيا وسواحل البحر المتوسط، وواجهوا الروس القياصرة في وسط آسيا، وواجهوا البرتغاليين في شرق إفريقيا، ولم يستطع الأوربيون احتلال المنطقة الإسلامية إلا قُبيل سقوط الدولة العثمانية، في حين أن البلاد التي لم تخضع للدولة العثمانية مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا وقعت مبكرًا بيد الاحتلال الأوربي، وعانت منه لما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولم ينس الأوربيون أن العثمانيين قد قاموا بنشر الإسلام في العديد من أجزاء أوربا، وأن مسلمي أوربا عامة وشرقها خاصة يدين بالفضل للدولة العثمانية في دخول الإسلام، حتى أصبح للمسلمين جاليات كبرى في أوربا، كانت مجهولة لكثير من المسلمين حتى وقعت مجازر البوسنة والهرسك في أواسط التسعينيات.
الذاكرة الأوربية متخمة بالكثير من المشاهد المؤلمة والمهينة والتي كان العثمانيون سببًا مباشرًا فيها، فالأوربيون لم ينسوا معارك كوسوفو الأولى والثانية وموهاكس وحصار فيينا وبلجراد ونيكوبولس وفارنا والقسطنطينية وغيرها كثير. كما لم ينس الأوربيون كيف أن العثمانيين قد أخذوا الأطفال اليتامى من البلاد المفتوحة في أوربا، وربُّوهم تربية إسلامية خالصة، وشكلوا بهم نواة الجيش العثماني الشهير بـ"الإنكشارية"، والذي ظل مصدر قوة وفخر للعثمانيين لفترة طويلة.
الأوربيون -ومن سار على دربهم من العلمانيين والمفتونين في بلادنا- كانوا وما زالوا يحقدون على الدولة العثمانية ويكرهونها بشدة، ورغم كل ما جرى للدولة العثمانية والأتراك على يد الأوربيين إلا أنهم ما زالوا يعتبرون العثمانيين المسلمين الخصم التاريخي اللدود الذي لا تنمحي عداوته ولا تفنى كراهيته؛ لذلك فهم لا يدخرون وسعًا في قطع الطريق على أي فكرة أو مشروع للحديث عن أمجاد الدولة العثمانية وتذكير الناس بمآثرها.
من هذه الزاوية، ولكل هذه الأسباب كان المسلسل التركي الشهير (حريم السلطان)، الذي تولى سيرة أعظم سلطان عثماني ظهر في أوائل الحقبة المعاصرة وهو السلطان (سليمان القانوني)، الذي يعتبر عصره هو ذروة النفوذ والاتساع والقوة في الدولة العثمانية، فقد كانت الدولة في أقصى اتساعها الجغرافي ونفوذها السياسي وتقدمها العلمي واستقرارها الاجتماعي وثباتها المؤسسي وثرائها الاقتصادي وتفوقها العسكري وذكائها الدبلوماسي، حتى إن الأوربيين قد أطلقوا على سليمان لقب "الفخم"، وهو السلطان العثماني الوحيد الذي قهر الإمبراطور شارلكان عاهل الإمبراطورية الرومانية الشهيرة، وحاصر عاصمته فيينا وكاد أن يفتحها.
منتجو ومؤلفو ومخرجو هذا المسلسل -وبالمناسبة مؤلفة المسلسل قد توفيت بالسرطان منذ فترة وجيزة- أرادوا تقديم الدولة العثمانية على أسوأ مثال وبأسوأ صورة، بصورة الدولة التي ينغمس سلطانها ووزراؤه وقادة دولته في الخمر والنساء والحريم، وهي نفس الصورة المترسخة في العقلية الأوربية عن المسلم عامة والمسلم العثماني خاصة، صورة الرجل الذي لا يفكر إلا في شهوته وملذاته، صورة السلطان العثماني في العقلية والثقافة الأوربية ليس له هدف سوى الجلوس مع الحريم والتنقل بين أفخاذ الجواري والاستماع لنميمة هذه وتلك، على الرغم من أن السلطان سليمان القانوني ظل في جهاد مستمر على عدة جبهات لأكثر من ثلاثين سنة، ولم يعرف الراحة إلا في أواخر أيامه بعد أن تقدمت به السن.
بضاعة أوربا اليوم ترد إليها عبر هذه الأفلام والمسلسلات التي ينتجها العلمانيون والكارهون لتاريخ الأمة المجيد، مسلسلات وأفلام تشوِّه التاريخ وتطمس الأمجاد وتبرز السلبيات وتضخم الأخطاء وتجافي الحقائق، وترسِّخ في عقول الناشئة هذه الصورة السيئة والمعيبة عن التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره، بصورة سينمائية باهرة تخلب الألباب وتجذب الأنظار.
أوربا اليوم تصفي حساباتها مع الإسلام والمسلمين، وتحاول الأخذ بثأرها، ليس من الدولة العثمانية كما يظن الكثيرون، ولكن من الإسلام نفسه وتاريخه العظيم.