أحمد بن حجر كان مولده بمصر القديمة سنة 1373م، وتوفي أبوه -وهو مُحدِّث نابه في زمنه- ولما يبلغ أحمد من العمر سنتين فنشأ يتيمًا في كنف أحد أوصيائه، ودخل الكُتَّاب بعد إكمال خمس سنين، واستظهر القرآن وهو ابن تسع، ويقال إنه حفظ سورة مريم في يوم واحد، بل قيل إنه بلغ من قوة الاستذكار أنه كان يحفظ الصحيفة من الكتاب مرتين، الأولى تصحيحًا والثانية قراءة في نفسه، ثم يعرضها عن ظهر قلب في الثالثة.
سافر ابن حجر إلى مكة وجاور بها وهو في سن الحادية عشرة، فسمع بها وتفقه؛ ثم حُبِّب إليه الحديث وانصرف إلى دراسته انصرافًا كُليًّا بالحجاز والشام ومصر واليمن، حتى صار حُجّة عارفًا بالعوالي والنوازل.
واشتهر ابن حجر في عالم التدريس والفتيا، وذاعت شهرة مؤلفاته الضخمة المتعددة في الحديث والفقه والتراجم، وأشهرها كتابة المسمى (فتح الباري في شرح البخاري) وهو في ثلاثة عشر مجلدًا، ولو لم يكن له غيره من المؤلفات لكفى للتنويه بعلوّ كعبه على قول معاصريه(1) والمتنفعين به من المحدثين حتى وقتنا الحاضر، وبلغ من شهرة هذا الكتاب أن السلطان شاه رخ بن تيمورلنك وغيره من ملوك البلاد الإسلامية بعثوا في طلبه بسؤال علمائهم، وأن نسخًا منه بيعت بثلاثمائة دينار.
بدأ ابن حجر هذا الكتاب سنة 1410م، فلما فرغ منه أُقيمت لختمه وليمة كبيرة بمنظرة التاج والسبع وجوه بأرض منية السيرج الحالية، ألقيت فيها المدائح نظمًا ونثرًا، وحضرها ابن السلطان جقمق(2) ورجال الفكر والأدب والعلم، ومن بينهم المقريزي، الذي كانت صداقة ابن حجر له وإعجابه بتأليفه جدّ عظيمين، حتى إن ابن حجر نفسه لم يكتف بالإطناب في مدح المقريزي حين ترجم له في كتابه (المجمع المؤسس والمعجم المفهرس) [قرأت نسخة هذا الكتاب بدار الكتب المصرية بالقاهرة]، بل عرض ما كتبه قبل أن يأذن للناسخ بنسخه.
لقد عاش ابن حجر شخصية بارزة في مجالس الدولة المملوكية الثانية، وذلك منذ سنة 1424م؛ حيث وَلِيَ منصب قاضي القضاة الشافعية، وهو أكبر مناصب القضاة وقتذاك، ولصاحبه الأولية على سائر قضاة المذاهب؛ لكون مذهب الشافعي هو المذهب الرسمي للدولة. وظل ابن حجر متقلدًا هذا المنصب الخطير مدة واحد وعشرين سنة، على أنه عُزِل عنه وأعيد إليه مرارًا في أثناء تلك الفترة الطويلة لاستقلاله في الرأي واستمساكه بكلمة الحق، مع لين الجانب والاحتياط والتواضع والميل إلى النكت اللطيفة والنوادر الظريفة؛ ولذا جاءت حولياته أو مذكراته بعبارة أدق وهي المسماة بـ(إنباء الغمر بأبناء العمر) مرآة لشخصيته الفذة وصفاته المحمودة، فضلاً عن أنها من أهم المراجع الأصلية لعصره، إذ كثيرًا ما يمضي فيها المؤلف بالقارئ إلى ما وراء الستار؛ فينير ما استغلق فهمه من حوادث الدولة وسياستها العامة بالمراجع الأخرى.
وبدأ ابن حجر العسقلاني هذه المذكرات بسنة ميلاده، وهي لذلك قاصرة على تاريخ الدولة المملوكية في حياته، وتشبه في ذلك إلى حد صغير كتاب (الاعتبار) لأسامة بن منقذ الشيرزي، وربما كان أدلّ ما فيها على صفاته وأحاسيسه الرقيقة أنه حرص مثلاً على ذكر حال الورد كلما وصل إلى موسم الربيع والأزهار في حولياته حتى وفاته سنة 1449م.
ومن أعمال ابن حجر الشهيرة (الإصابة في تمييز الصحابة)، ويذكر فيه مجموعة ضخمة من الصحابة رضوان الله عليهم، مترجمًا لهم تفصيلاً، والكتاب مُرتَّب على حروف المعجم العربي، سهل التناول يسهل على الباحث الاستفادة منه.
ومنها (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)(3) الذي يضم أكثر من ألف ترجمة من القرن الثامن الهجري لرجاله الأعلام ونسائه أيضًا، وهو أول كتاب عربي أُلِّف على عنوان القرون، عاكسًا أحوال المملوك والسلاطين والحروب بحاسة نقدية متميزة.
ومنها (رفع الإصر عن قضاة مصر) الذي ذيّله السخاوي، و(تهذيب التهذيب) وهو عبارة عن اختصار لتهذيب الكمال للمزيّ مع زيادات كثيرة ومفيدة، و(تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة)، و(القول المسدد في الذبّ عن المسند للإمام أحمد بن حنبل)، و(بلوغ المرام في أدلة الأحكام) وهو في الحديث، و(نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر)، و(نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر)، و(طوالع التأسيس في معالي ابن إدريس) وهو تاريخ شخصي للأسرة الإدريسية، و(غبطة الناظر في ترجمة الشيخ عبد القادر)... إلخ من المؤلفات التي تزيد عن مائة وخمسين كتابًا.