الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد..
فإن ما أطرحه في هذه الورقة هو اجتهاد أسجل في مفتتحه احترامي وتقديري لرأي من يخالفني فيه؛ فالإسلام لا يعرف القهر والإكراه حتى في العقيدة، فكيف يرضاه في الفكر والرؤى؟!
وإنه لا يخفى الآن على أحد أن نقاشات وحوارات واسعة تجري الآن على كل الأصعدة، وفي كل الأروقة تبحث عن التغيير والإصلاح تتداخل فيها الوسائل مع المقاصد والغايات، والرؤى الشخصية مع الحزبية، والطروحات الفردية مع الجماعية، والمصالح الفئوية مع المصلحة العليا للوطن.
ومنذ البداية لا ينبغي أن نتهم النيات أو نشكك في إخلاص أحد، لكن الإخلاص وحده دون فهم دقيق ووعي عميق وبصيرة نافذة لا يكفي؛ إذ لا بد من فهم الواقع وفهم الواجب في الواقع.
ومن هذا المنطلق اسمحوا لي أن أبدأ بالمرتكزات والأصول التالية:
أولاً: مصر بلد مسلم دينه الرسمي الذي يحكم به منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا هو الإسلام، ومرجعية التشريع فيه للشريعة الإسلامية.
فهي المصدر الرئيسي للتشريع، ولن يسمح شعب مصر كله ولا قواته المسلحة بالمساس بالمادة الثانية من مواد الدستور. فإذا كان الشعب قد خرج من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ورفع الظلم، فالشعب مستعد بكل أفراده للتضحية بدمه من أجل دينه.
وليس هذا تخويفًا لغير المسلمين من المواطنين؛ فالإسلام يضمن لهم حقوقهم كاملة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره أن النبي قال: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة".
ثانيًا: يجب علينا أن نعلم يقينًا أن ما فسد في كل النواحي طيلة السنوات الكثيرة الماضية لا يمكن أبدًا أن نصلحه ونغيره في أسبوع أو شهر أو عام، فما هُدم في سنوات لا يمكن أن يبنى في أيام، وأؤكد على هذا ليتحلى الجميع بالصبر والمسئولية وقوة الإرادة وعقد النية على العمل وحسن الإدارة.
ثالثًا: التغيير والإصلاح لا يتم أبدًا دفعة واحدة وإنما بالتدرج، فهذه سنة كونية لا تتبدل ولا تتغير، لا يجدي معها تعجل الأذكياء ولا أوهام الأصفياء، حتى يتم التغيير والإصلاح في كل نواحي الحياة باتزان وترابط، وهذا بلا شك يلقي بالتبعية الثقيلة والمسئولية العظيمة على المؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية والفكرية، لتبدأ بداية جديدة للإصلاح وتغيير منظومة القيم لاستئصال الفساد، وشحذ الهمم، لتصحيح الهوية وتقوية الإرادة وتصحيح الإدارة وحسن العمل.
رابعًا: ليس الوقت وقت تصفية حسابات، بل هو وقت نبذ الفرقة وتوحيد الصفوف للعمل بصدق وإخلاص من أجل ديننا وبلدنا، مع مراعاة مساحة الحرية المنضبطة والمسئولة.
خامسًا: ما أطرحه في هذه الورقة إنما هو اجتهاد فردي لا أحمله لأي اتجاه، ويحتاج مزيدًا من البحث والدراسة ووضع الخطط والبرامج وآليات التنفيذ من المتخصصين في كل الميادين، مع تقدير الرأي المخالف؛ فالإسلام لا يعرف القهر والإكراه حتى في العقيدة، فكيف يرضاه في الفكر والرؤى؟!
والسؤال المهم الآن: من أين يبدأ التغيير والإصلاح؟!
هل يبدأ من الأخلاق والقيم لتصحيح ما فسد واعوج منها؟ أم يبدأ بالتعليم؟ أم بالإعلام؟ أم بالاقتصاد؟ أم بالمؤسسة الأمنية؟ أم بالمؤسسة الدينية؟
والجواب: لا يجوز أبدًا أن يكون التغيير والإصلاح في ناحية واحدة، وأن نعطل التغيير في النواحي الأخرى من أجلها، بل يجب أن يبدأ التغيير في هذه النواحي كلها حيث يوجد كل فرد فينا، مهما كان موقعه أو عمله أو منصبه، والله إنها لأمانة سنسأل عنها جميعًا بين يدي الله جل وعلا.
لأنني على يقين أن التغيير يبدأ بالأفراد من داخل النفوس؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ولقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
ونظرًا للظروف الحرجة التي تمر بها بلادنا في هذه الأوقات العصيبة فإنني أرى أن نبدأ:
أولاً: التغيير والإصلاح في المؤسسة الأمنية (جهاز الشرطة):
فما حدث في الأيام الماضية من انفلات أمنى مروع أصاب الناس بالهلع والفزع، يحتم علينا أن نعيد النظر في هيكلة ومنظومة جهاز الشرطة بالكامل، لتحويل شعارها (الشرطة في خدمة الشعب) إلى واقع عملي. وذلك لا يكون في المرحلة الحالية والمقبلة إلا بالتخلي الكامل عن السياسية القديمة في طريقة التفكير والتخطيط والتنفيذ، بدءًا من تعليم طلبة كلية الشرطة وانتهاء بكيفية التعامل مع الجمهور؛ فوظيفة جهاز الشرطة بكامله على اختلاف تخصصاته تحقيق (الأمن) للمجتمع بكل فئاته.
فنعمة الأمن نعمة عظيمة جليلة لم يعرف كثير من الناس قدرها إلا في الأيام الماضية، ولا يعقل أبدًا أن يسخِّر هذا الجهاز الضخم بكل طاقاته وإمكانياته لتأمين شخص "رئيس" الدولة فقط، وهذا يقتضي وبشدة تحديد مهام جهاز الشرطة بكل فروعه.
ومن أوكد واجبات جهاز الشرطة الاحترام الكامل لجميع المواطنين، دون تمييز بين غني وفقير، ووزير وخفير. ومن أهم واجباتهم منع الظلم والقمع والتعذيب والاعتقالات دون محاكمات عادلة.
وإن كنا نطالب جهاز الشرطة بكل عناصره بتحقيق ما عليه من واجبات، فمن العدل أيضًا أن نعطيهم ما لهم من حقوق؛ إذ لا بد من العدالة الكاملة داخل الشرطة على نظام التمييز بين الضباط في الرواتب والمكافآت والحقوق.. فليس من العدل أن يحصل ضابط على عشرات الآلاف، في الوقت الذي لا يحصل فيه زميله في نفس المصلحة أو في نفس الجهاز على عشر ما يكفيه هو وأسرته، أو يحصل ضابط مجموعة من الرواتب من عدة جهات قد تصل إلى عشرات الآلاف، في الوقت الذي لا يحصل فيه الضابط أو الجنود الذين يسيرون العمل في هذه المصالح أو هذه الأجهزة إلا على الفتات.
لا يمكن أبدًا أن يكون هذا الجهاز قادرًا على تحقيق العدل، ورفع الظلم بين الجماهير، وهو غارق من داخله في هذا الظلم في التعامل مع أفراده بالمجاملات الكاذبة، والمحسوبية الباطلة.
ثم لا يجوز أبدًا في المرحلة القادمة أن نزج برجال الشرطة في كل شيء بما يثير عليهم غضب الجماهير، ويفقدون بسبب ذلك ثقة الشعب واحترامهم، كالتدخل مثلاً في الدعوة إلى الله والتحكم في العلماء والدعاة، ومنعهم من التحرك للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذ ليس من حق الضابط أن يقيم العالم أو الداعي من الناحية العلمية والدعوية أو التدخل في الجامعات والكليات لاختيار رؤساء الجامعات والعمداء واتحاد الطلاب، وغير ذلك.
أرجو أن يُراعى هذا جيدًا في المرحلة المقبلة، فليس من صالحنا أو من صالح بلدنا أن تضيع الثقة والاحترام المتبادل بين الشعب والشرطة.
ثانيًا: التغيير والإصلاح في المؤسسة الدينية:
ويبدأ حتمًا بتحرير المساجد وإعادة دورها ورفع القيود عنها وإلقاء الرقابة عليها؛ فالمساجد قطب الرحى في الإسلام.
وأول ما فعله النبي -وهو مؤسس دولة الإسلام في المدينة النبوية- هو بناء المسجد، فكان المسجد مكانًا للصلاة والصلة بالله ومكانًا للتشاور في أمور الدولة وجامعة للتعلم والتربية، ومكانًا للتكافل الاجتماعي، ومأوى للفقراء والمساكين، ومنه خرجت البعوث وأرسلت الكتب والرسائل للحكام والملوك.
فلا بد أن يعود المسجد إلى رسالته، وأنا أنادي بصوت مرتفع بتجديد الخطاب الديني والدعوي في المرحلة المقبلة للربط ربطًا صحيحًا بين الأصول والثوابت والمتغيرات؛ لتحقيق المناطات العامة والخاصة للربط ربطًا صحيحًا بين دلالات النصوص الشرعية والواقع الذي تغير ويتغير كل ساعة بلا مبالغة؛ ليؤدي كل عالم وداعية دوره إرضاءً لله بلا خوف أو وحل بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، وبما يتفق مع ما يحتاج إليه الناس عامة والشباب خاصة؛ لأن كثيرًا من شبابنا قد انصرف عن المساجد، ربما لأنه يأتي إلى كثير من المساجد فنجد طرحًا دعويًّا بعيدًا تمام البعد عن مشكلاته وأزماته التي يحياها ويريد أن يعرف حكم الله فيها. ويزداد الأمر خطرًا إذا كان الشباب في محنة أو نازلة ثم يبحثون عن العلماء والمشايخ لتوجيههم فلا يجدونهم، وهنا سيتقدم حتمًا للتأثير على شبابنا وتوجيههم من لا يحسن أن يتكلم عن الله ورسوله ، ثم بعد ذلك نلقي اللوم على شبابنا وأولادنا إن انحرفوا عن الحق والهدى!!
وأنا أرى أنه لا يمكن أبدًا أن تعود للمؤسسة الدينية ريادتها ومكانتها في الأمة لتصبح مهابة الجانب مسموعة الكلمة والفتوى، وهذا لصالح البلاد والعباد في المحن وغيرها، لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالأمور التالية:
أولاً: استقلال المؤسسة الدينية بالكامل كالأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف استقلالاً كاملاً عن الحكومة أو السلطة التنفيذية.
ثانيًا: تشكيل هيئة كبار العلماء من الأزهر وغيره من العلماء الربانيين الفضلاء المعروفين بالعلم والحكمة والأمانة والدعوة والصدق، وتكون وظيفة هذه الهيئة اختيار شيخ الأزهر. ثم تكون الهيئة مجلس شورى لشيخ الأزهر فيرجع إلى الهيئة من كبار العلماء في كل أمر من أمور الدولة الداخلية والخارجية، بل وفي كل الأمور التي تخص الإسلام والمسلمين في كل مكان.
ثم يقوم شيخ الأزهر بالتواصل الدائم مع رئيس الدولة، انطلاقًا من رؤية جماعية لهيئة كبار العلماء ليبذل له النصيحة في كل شئون البلاد، ويجب على الحاكم في هذه المرحلة أن يقرب منه شيخ الأزهر الذي ينقل له بدوره حكم الإسلام ورأي الهيئة في كل ما يحتاج إليه.
ثالثًا: التغيير والإصلاح في المؤسسة التربوية والتعليمية:
لا شك أن العملية التعليمية تمر بأزمة حقيقة على مستوى العالم، ومن التربويين المتخصصين من يرد هذه الأزمة إلى أسباب اقتصادية، ومنهم من يردها إلى أسباب نفسية، ومنهم من يردها إلى أسباب تربوية أخلاقية.
لكني أرى أن أخطر ما يواجه التعليم في بلادنا أنه تعليم بلا هدف!!
فالحصول على المؤهل الدراسي أصبح الغاية التي من أجلها تبرر أي وسيلة، ولو كانت بالغش والتزوير والطرق غير المشروعة!!
ولذا صار التعليم في وادٍ ودفع عملية الإنتاج والإبداع والتنمية في وادٍ آخر تمامًا، وأصبح عاجزًا عن تقديم الكوادر العلمية والتربوية والفنية المتخصصة القادرة على تلبية حاجات المجتمع في كل مناحي الحياة الطيبة والهندسية والإعلامية والتعليمية والاقتصادية والتجارية والزراعية والحياتية اليومية من أعمال السباكة والنجارة والنظافة، وغيرها من الأعمال المهنية التي تعاني نقصًا حادًّا، كميًّا ونوعيًّا.
ويزداد الأمر سوءًا حينما ينفصل التعليم عن الدين، ويجعل تدريس الدين أمرًا ثانويًّا عابرًا لا يضاف إلي المجموع، فيفقد الطلاب احترامهم للدين والقيم وتتزعزع في قلوبهم الهوية والانتماء، فيتمردون على دينهم، ومن ثَمَّ على مدرسيهم ومجتمعهم، ليصلوا في النهاية إلى مرحلة التمرد على الذات، ثم يخرج علينا وزير بعد وزير يقترح أن حل هذه الأزمة في محاربة الكتاب الخارجي، أو في جعل المرحلة الابتدائية خمس سنوات، ثم يعدِّد آخر ويقول الرجوع للحق فضيلة، فيجعلها مرة أخرى ست سنوات. ويرى ثالث أن حل هذه المشكلة تكمن في توفير الإمكانيات ورصد الميزانيات وزيادة عدد الفصول، إلى غير ذلك من مسكنات جزئية محدودة جدًّا، لا تصلح أبدًا أن تكون علاجًا لهذه المشكلة الكبيرة والأزمة الخطيرة.
وأرى أن يقف المتخصصون المخلصون من التربويين والتعليميين -وما أكثرهم بفضل الله جل وعلا في بلادنا- مع جذور المشكلة وعناصر العملية التربوية والتعليمية؛ للوقوف على الأسباب الحقيقية للمشكلة في كل عنصر من عناصرها للبحث عن علاج ناجح
1- المدرس:
لن يحدث تغيير وإصلاح حقيقي في العملية التربوية والتعليمية إلا إذا أعدنا النظر إلى المدرس على أنه ليس شخصًا أو موظفًا يؤدي وظيفة، وإنما هو شخص صاحب رسالة محترمة راقية، ويجب أن نوفر له كل ما يحتاج إليه للقيام بهذه الرسالة على أكمل وجه.
لا بد أن نوفر له ما يكفيه من الراتب ليعيش حياة كريمة طيبة؛ فالمدرس الآن صار مادة للسخرية في وسائل الإعلام، ويشعر في داخله بالمهانة؛ لأنه أصبح أجيرًا لدى الطالب يأتيه في بيته، ويأخذ منه أجر تعليمه، ففَقَد الطالب احترامه لمدرسه، وجرحت كرامة المدرس الذي لا يملك من الأمر شيئًا لحاجته الشديدة إلى هذا المال لنفسه وأسرته من ناحية، ولعدم امتلاكه للوسائل الإدارية والتربوية التي يضبط بها سلوك الطالب من ناحية أخرى.
فكيف نطلب من هذا المدرس أن يكون قدوة بين طلابه، أو كيف نطلب منه أن يكون متقنًا لمادته ملمًّا بكل جديد، متفاعلاً مع أدوات العصر الحديث؟
علينا أن نوفر له ما يحتاجه للقيام بهذه الرسالة، ثم نحاسبه إن قصَّر في أدائها، مع التركيز على تقديم الأكفاء في كل مرحلة دراسية دون مجاملات كاذبة أو محسوبيات فاسدة.
إن المعلـم والطبيـب كلاهما *** لا ينصحـان إذا هما لم يكرمـا
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه *** واصبر لجهلك إن جفوت معلمـا