فى طلعةٍ من طلعاته بالسيرك الإعلامي يقول مستشار الفتنة: "القضاء ليس (نجس) [وصحتها فى اللغة نَجِسًا] حتى يُنادَى بتطهيره.." وكأنه جاء بالحجة الداحضة لأي مطالبةٍ بتطهير القضاء.. فهل ادَّعى أحد من الناس أو أطلق هذا الوصف: أن " القضاءَ نجسٌ"..؟! حتى يتصدى المستشار الهُمام لتفنيده..؟
الشعب هو الذى أدرك ما في القضاء من بؤر للفساد وطالب فى ثورته، وما زال مُصِرًّا على تطهير هذه البؤر التي تعفَّنتْ في جسم القضاء.. وأصبحت إقامة العدل مستحيلة مع استمرار وجودها.. وقصة انعدام العدالة ليست واقعة واحدة مُنْحَصِرةً في الأحكام التي صدرت ببراءة جميع المتهمين من رجال النظام السابق في قضايا القتل والنهب.. ولكنها مسلسل طويل بدأ منذ ثلاثة عقود ولا يزال مستمرًّا -بعد الثورة- بوتيرة أسرع وأكثر غلظةً وفجاجةً وتحدِّيًا..
خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر: قضية غرق "عبارة السلام 98" التي راح ضحيتها أكثر من ألف مواطن مصري.. حيث لم يُلْق القبض على مالك العبارة [لصلته بأعلى الرِؤوس فى حاشية مبارك] و لم يُمنع من السفر لمدة 46 يومًا تمكَّن فيها من تكييف أوراقه وتلقين شهود الزور؛ فتحوّلت التهمة على يد النيابة من "جناية القتل العمْد" إلى تهمة الإهمال.. وانتهت القضية ببراءته..
فى هذا الإطار لايمكن التَّغاضى عن انخراط عدد من المستشارين في الفساد السياسيي للنظام السابق؛ ومنهم أولئك الذين عيّنهم المخلوع رؤساءً في الِّلجان العليا للانتخابات البرلمانية والرئاسية، فأغمضوا أعينهم عن عمليات التزوير الواسعة، وأعلنوا أن الانتخابات كانت نزيهة مئة بالمئة.. و كجائزة على خدماتهم منحهم مبارك مناصب عليا في القضاء.. والذي تقاعد منهم اختاره عضوًا في مجلس الشورى.. ومن هؤلاء وأمثالهم نُسِجَتْ وتجذَرت بؤر الفساد في أهم مفاصل القضاء المصري..
لقد تعمّدت بؤر الفساد هذه هدْمَ منجزات الثورة فى التحوّل الديمقراطي باستماتةٍ مذهلة.. والأمثلة على هذا وأسبابه المُعْلَنَةُ والخفيَّة تحتاج إلى كتاب لا مقالة..
اعتاد مستشار الفتن أن يطلق تصريحات عجيبة وتهديدات عنترية.. تحت شعار "استقلال القضاء".. وهو –فى واقع الأمر- لا يؤمن به ولم يعمل قط على تحقيقه.. بل على العكس من ذلك تمامًا؛ فقد كان من أبرزالقضاة الذين تآمروا مع مبارك في الإطاحة بتيار استقلال القضاء الذي قاده المستشار الجريء زكريا عبد العزيز (رئيس نادي القضاة السابق)؛ فأسقطه وحلّ مكانه.. وظل متربِّعا في هذا المركز حتى اليوم.. وذلك بفضل تزعّمه لحركة تعيين أبناء القضاة في النيابة من أصحاب الدرجات المتدنّية في التحصيل الجامعي.. واصفًا حركته بأنها "الزحف المقدَّس".. وهي عبارة من عباراته التي يجيد صكُّها على سبيل الاستهبال؛ يصطنعها كعملية تجميل لسلوك قبيح.. فيه نفاق واستجداء.. أبعد ما يكون عن القداسة والعدالة..
سِجلّه مع الإعلامي – المشكوك في قواه العقلية- مشهور.. ويتندّر به الناس حتى الآن؛ فهو الذي امتدحه على الهواء قائلًا: "يادكتور"ع..." لقد صِرْتَ علامةً على الوطنية والشهامة والرجولة.. يعرف الناس أن هذا ضرب من النفاق والتَّماهِى، مع شخصية أفَّاق، لمجرد أنه يُشبع نهَمَهُ في الظهور المستمر على شاشات التلفزة؛ والحقيقة أنه لا هو دكتور ولا فيه شهامة ولا رجولة.. بل متهرّب من تنفيذ أحكام قضائية تدينه بسبّ زوجته وإهانتها على الهواء.. إنها تتهمه بأنه تنصُّل من النفقة على ابنه، أو الاعتراف به لأن الطفل المسكين وُلد معوَّقا.. وكأنه بتنصُّله يحتجُّ على مشيئة الله..! فأين هي الشهامة والرجولة يا فخامة المستشار..؟!
يقول له المستشار الجاهل باللغة:" سير [وصحتها فى اللغة سِرْ] على بركة الله..! لن يستطيع أحد أن يمسّك بسوء.." وبالفعل تمكّن المجرم من التهرّب من تنفيذ الحكم عليه بالسجن.. ثم جاء قاضٍ من أتباع المستشار ليعلن أن المتهم مصاب بالجنون.. ومن ثم لا يمكن تطبيق الحكم عليه..! وهذه بعض مساخر العدالة المزاجية..
يُذكر عن المستشار الأعجوبة أنه عندما بدأ مجلس الشعب المنحلّ في مناقشة قانون جديد للسلطة القضائية هدَّد "بأنه إذا انعقد مجلس الشعب وأصدر قوانين جديدة فإن القُضاة لن يلتزموا بها.."..
ثم عاد يهدد مجلس الشورى -الذى يحاول الوصول لقانون مماثل- قائلًا: لن نسمح بأن يناقش مجلس الشورى قانون السلطة القضائية"..
وقبل ذلك أصدر تهديدًا أنكى من هذا عندما قال: "لن نعترف بالدستور الجديد حتى لو وافق عليه الشعب في الاستفتاء".. وهو الذي حرَّض القضاة على الامتناع عن الإشراف على الاستفتاء على الدستور.. وهو الذي حرّض وكلاء النيابة التابعين له من "فئة المقبول" على النائب العام الحالي؛ فهاجموه في مكتبه وحاولوا إجباره على الاستقالة تحت تهديد السلاح".
إنه لا يعبأ بالشعب ولا بإرادته.. ولا بالمجالس التي انتخبها الشعب ولا بالقوانين ولا الدستور..! ولا برئيس الجمهورية المنتخب؛ يعنى [شُغْل] بلطجة سافر.. وعناد وخروج على قواعد الأدب والقانون.. ثم يتبجح بعد كل هذا فيقول: "نحن كتيبة الحق والعدل".. فأي حق وأي عدل يتحدث عنه هذا الرجل..؟!
العلّة الكامنة في أعماق هذه الشخصية المضطربة -بكل بساطة- شعور بالرعب مكبوت: أن يأتي يوم يضطر فيه للوقوف أمام محكمة نزيهة تحاسبه على التهم الموجّهة إليه بنهب أراضي الدولة.. لذلك يتشبث بموقعه في منظومة القضاء.. معتمدًا على بؤر الفساد فيها، والتى تشاركه في علّته ويخشى أصحابها مثله من المساءلة القانونية..
لقد طلبت نيابة الأموال العامة من مجلس القضاء الأعلى رفع الحصانة عنه لتقديمه إلى المحكمة.. [فتلكَّأ] المجلس وطلب منه أن يردَّ على مذكرة الاتهام.. وأمهله مدة أسبوعين.. وقد انتهت المدة، ولم يقدّم الرجل أي ردّ على المذكّرة؛ لأنه يعلم ويشارك مع آخرين في التآمر على النائب العام لإزاحته من منصبه على أمَلٍ في إسقاطه سريعًا، ليفسح الطريق أمام عودة حبيبهم العتيد.. أو أي مسخٍ آخر من طرازه.. ومن ثَمَّ لن يكون هناك حاجة للمستشار المأزوم أن يجيب على أي مذكرة اتهام بسرقة أموال الدولة..
لابُدَّ لى هنا أن أقرّر: أنه رغم هذا النقد لمؤسسة القضاء فإن هناك حقيقة لا يصح أن يتجاهلها مُنْصِف، وأعتقد أن من يتجاهلها يأثم في حق نفسه قبل أن يأثم في حق العدد الكبير من القُضاة الشرفاء الوطنيين.. الذين وقفوا مع العدل في أحلك عصور الاستبداد والدكتاتورية.. وبعد الثورة لم يستجيبوا لتهديدات أو غواية الزند وأمثاله، وكانوا دائمًا مستعدّين بل مصمِّمين على أداء واجبهم الوطني مهما كانت المشاقّ والتضحيات.. ولولا شجاعتهم وتضحياتهم ما جرت الانتخابات والاستفتاءات بالنزاهة والشفافية التي رضي عنها الشعب وقدّرها..
ولكن جاءت بؤر الفساد في المنظومة نفسها لتدمِّر هذه الجهود المخلصة البنّاءة.. هذا التناقض الهدّام يقابله في الجسم البشري أمراض جهاز المناعة التي تدمر خلايا الدفاع عن الجسم وتعوقها عن مواجهة الجراثيم والفيروسات المهلكة.. وكذلك تفعل بؤر الفساد التي زرعها ورسّخها نظام مبارك في منظومة القضاء.. ليمرّر بها سياساته في القمع والنهب والتوريث.. ولقد حان الوقت لاستئصال بؤر الفساد وتطهير القضاء منها..
والذين يعتقدون أن منظومة القضاء بوضعها الراهن يمكن أن تصلح نفسها بنفسها واهمون؛ فأصحاب هذه البؤر يمسكون بمفاتيح هذه المنظومة ويتحكمون فيها.. وقد استطاعوا تشكيل رأي عام داخلي يُرهبون به كل من يتحدث عن تطهير القضاء بِحُسْبانه عدوًّا لقدسية القضاء الشامخ..!.. يجب معاقبته وعزله والسخرية منه واتهامه بالأخونة.. وللأسف الشديد يبدو لى أن وزير العدل نفسه قد تأثر بهذا الإرهاب الفكريّ، كما تأثّر به المستشار طارق البشري.. وآخرون..
بعضهم التزم الصمت وبعضهم أطلق تصريحات تدل على الانهزام والتراجع.. خشية اتهامهم بالانحياز ضد استقلال القضاء.. وكنت أتصوّر أن يكون لهؤلاء موقف إيجابي مؤثر وفاعلية وقدرة على النفاذ، بأفكار جديدة، لمعلاجة هذه العاهة المستعصية..
فإذا كانت عبارة "تطهير القضاء" تسبب لهم حساسية فلْنتحدث عن إصلاح القضاء.. بعيدًا عن الحساسيات، وبعيدًا أيضًا عن الهالات والعبارات التقليدية المحنَّطة، التى لم تعد تنطلي على أحد.. مثل: قدسية القضاء وشموخه، أو التذرع بشعار استقلال القضاء.. فهناك مرض حقيقي وبؤر فساد في جسم القضاء لابد من الاعتراف بوجودها وتشخيصها.. ولابد من التصدِّي لها بالعلاج.. فاستمرارها خطر على القضاء واستقلاله وعافيته، وخطر على الأمة التي لن تغفر تبديد طاقتها وإعاقة تطلّعاتها المشروعة نحو استكمال مؤسساتها الديمقراطية.. للوصول إلى الاستقرار والتنمية.. لن يغفر االشعب لحفنة من القضاة سوَّغوا لأنفسهم الوصاية عليه فأغلقوا البرلمان الذي انتخبه بإرادته الحرة.. ولا يزالون يترصدون بالهدم لكل إنجازاته الديمقراطية..
لابد أن نعترف بأن القضاء بتركيبته الحالية التى صُنعت في عهد الاستبداد والفساد لا يمكن أن يقوم بإصلاح نفسه بنفسه، ما لم تساعده قوى أخرى من خارجه على استئصال بؤر الفساد؛ بتشريعات وقوانين جديدة.. هناك ضرورة مُلِحَّة لإصلاح القضاء من أجل مصر.. ومن أجل العدالة المُعاقة في مصر..
ومن أجل هذا الشعب الذي ينفق من عرقه وماله ليطعم هؤلاء القضاة ويوفّر لهم سبل العيش الكريم.. بينما فئاتٌ كثيرة منه محرومة من أبسط وسائل الحياة الإنسانية.. وتزداد معاناتهم وتتواصل بسبب عناد فئة قليلة فاسدة في منظومة القضاء، تقف حجر عثرة في طريق الاستقرار والإصلاح والنهوض...