خلال 60 عامًا من ثورة يوليو 1952 حرمت مصر من أجيال عديدة بسبب سيطرة جيل واحد على المؤسسات الرئيسية بدءًا من مؤسسة الحكم، وقد كتبت تقريرًا عن تلك الظاهرة في مجلة المجلة اللندنية عام 2000. أجيال ولدت وكهلت وأدركتها الشيخوخة وهي تتفرج على جيل واحد هو الذي قام بثورة الضباط الأحرار أو عاصرها.
ذلك سبب الشيخوخة التي عانتها مصر، والتي انسجمت مع شيخوخة الاتحاد السوفيتي السابق حين كان يعتبر السكرتير العام للحزب الشيوعي وهو المسئول الأول في الدولة شابا إذا تراوح سنه بين 75 و80 عامًا.
حُرمنا من تولي جيل السبعينات للمسئولية مع أنه يعتبر الأفضل في الحراك السياسي طوال النصف الأخير من القرن الماضي، فقد ظهرت فيهم ألوان الطيف المبشرة ما بين الإسلامي والليبرالي والناصري واليساري، كلها ذبلت وتساقطت وشاخت، ثم أتاحت ثورة 25 يناير لبعض من شاخوا الظهور مجددًا، لكنهم أصبحوا أمة قد خلت ولا يمثلون الجيل الحالي الذي ثار لتخليص الوطن من شيخوخته وأقصى بالفعل رأس النظام العجوز.
البكاء على 3000 أو 3500 قاضٍ وفق تقديرات أخرى قيل إنهم سيتعرضون لمذبحة بفعل تخفيض سن التقاعد عن 70 عامًا، مخالف لقيم التغيير التي ثار من أجلها الشعب، فليس منطقيًا أن تضم مؤسسة القضاء هذا العدد من كبار السن ويحرم مثلهم من الأجيال الجديدة أو كما كتب أحد المعلقين أمس كل قاضٍ من الشيوخ يحجب فرص عشرة من الشباب لأن مخصصاته المالية كبيرة، فإذا افترضنا أن 3500 قاضٍ سيحالون إلى المعاش، ممكن أن يصل عدد من يحل محلهم إلى35 ألف شاب تسري فيهم الحيوية والدماء النشطة والتفكير المتقدم العصري والقدرة على الاجتهاد في فهم القوانين وتطبيقها، إضافة إلى أننا سنجد أنفسنا أمام قضاة جدد لا علاقة لهم بالماضي وفساده وتراثه السياسي والاجتماعي المتراكم على ثقافة من مارسوا عملهم القضائي تحت مظلته.
بالمناسبة وقعت في خطأ أمس بالنسبة لحكم المحكمة الإدارة العليا، وهو ما أمكن تصحيحه بالنسبة للنسخة الإلكترونية فقط، فقد صدر عام 2006 وليس 2005، وكان خاصًا بالطعن "رقم 11358لسنة 49 ق عليا جلسة 28/5/2006 "، حيث ناشدت المحكمة المسئولين رفع الظلم الجاثم المتمثل في السماح لطائفة من الراسبين والمتخلفين للانخراط بسلك القضاء، وهو الاتجاه الذي ظهر للمحكمة في عدد من القضايا التي طرحت عليها بهذا الشأن.
الصرح القضائي ظل منذ نشوئه وارتقائه يضم قمم المتفوقين في الهيئات القضائية كافة وأوائل الخريجين في كليات الحقوق بشكل عام، هكذا قالت المحكمة مطالبة أولي الأمر بتدارك الكارثة التي أخرجت طائفة المتفوقين رغم اجتيازهم العقبات كافة، وسمحت لطائفة من الضعفاء في الفكر والكفاءة القانونية باعتلاء مناصب القضاء ليحكموا بين الناس بغير علم فيضلوا ويضلوا، في الوقت الذي يعاني المتفوقون والمجاهدون في سبيل تحصيل العلم من الظلم البين وتعقدهم الحسرة.
هذا لا يعني الإقلال من قيمة القاعدة العريضة للقضاة، ولا من شرفها ونزاهتها وعلمها القانوني وتحريها العدالة، لكن لا يجب أن يلهينا ذلك عن حقيقة أن الجسم يعتل إذا اشتكى منه عضو، فهناك ثغرات كثيرة لا يجب تركها للعواطف والخطب الانشائية، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمن في أيديهم رقاب الناس وحرياتهم وشئونهم الدنيوية.
الأهم أن التغيير يحتاج إلى صدمات شديدة، قد تبدو قاصمة ومرعبة، لكن إذا لم تقم بها الثورة فلا معنى لها ولا جديد يرتجى، وستلازم الأوضاع مكانها ولن تغادره.
إزالة الشيخوخة عن مصر تجعل كل المؤسسات معرضة للصدمة في إطار عملية جراحية خطيرة لابد منها، والمؤسسة القضائية ليست استثناءً