توقفت طويلًا أمام الخبر الذي بثته وسائل الإعلام عن ضبط مخرج جورجي الجنسية قام مع مصري بالسطو على عشر صيدليات في مدينة نصر ومصر الجديدة وسرقة مبالغ مالية كبيرة وأدوية غالية الثمن.
المخرج الجورجي أصاب عددًا كبيرًا من العاملين في تلك الصيدليات بعد إطلاق الرصاص عليهم، وعند ضبطه كان يحمل بندقية آلية وعشر طلقات وقناعًا أسود وثلاث قفازات وسبع هواتف محمولة.
كان يتكفل باقتحام الصيدلية المستهدفة، فيما يقوم شريكه المصري بقيادة السيارة المستأجرة من أحد المعارض.
من العجيب أن مصر كانت هدفًا في السنوات الماضية لبائعات الهوى القادمات من روسيا وأوكرانيا وجورجيا وكلها كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، الآن يبدو أن الرخاوة الأمنية أغرت العصابات المسلحة بالقدوم إليها، خصوصًا من جورجيا التي كانت مركز تدريب للمجرمين وأرضًا فسيحة يتحركون عليها بحرية بسبب فساد جهاز الشرطة وعدم قيام أفراده بواجباتهم وتفرغهم للرشا.
إصلاح سريع وجذري وحاسم حول جورجيا إلى دولة آمنة فهجرتها العصابات إلى دول أخرى يبدو أن مصر واحدة منها، وإن كان الأمر حتى الآن لا يخرج عن حالة واحدة تتمثل في ذلك المخرج، لكنه فقط الذي اكتشفناه ولا نعلم عن عشرات الجرائم المنظمة التي تشهدها العاصمة والمدن الأخرى شيئًا سوى بلاغات يتقدم بها أصحابها وتفشل الشرطة في منعها أو إلقاء القبض على مرتكبيها.
لا أحد ينكر أن مصر تشهد انفلاتًا أمنيًا، وأن الشرطة غير متحمسة لمواجهته. لا نعمم بالطبع فهناك استثناءات من رجال يحملون أرواحهم على أكفهم لأداء الواجب، لكن الشائع أن هناك ترددًا وبرودًا وتعاملًا بملهاة وسخرية مع ضجر الناس.
البعض طالب بإعادة اللجان الشعبية، لكن الفكرة غير واقعية لأن الجريمة صارت معقدة وينفذها مسلحون بأحدث الأسلحة التي انتشرت بطول مصر وعرضها. لاحظ الطريقة التي تم بها اقتحام موكب رئيس الحكومة ثم الانسحاب السريع والهروب، وتكاسل وزارة الداخلية بإصدار بيان فوري بمجرد القبض على السيارة التي كانت تقل المهاجمين بأنها مصادفة ولم يكن الهدف هو الاغتيال.
العصابات المحترفة يريحها مثل هذا البيان لأنه يعني ببساطة أن القصة بدأت وانتهت بالنسبة لجهاز الشرطة الكسول، والحقيقة أننا لا نعلم ما إذا كانت تلك السيارة مجرد تغطية على الفاعل الأصلي الذي سيظل طليقًا.
الحل هو تجديد شامل للشرطة التي صارت عاجزة أو مترددة أو غير متحمسة للعمل مع النظام الجديد. المشكلة أن اتهامات "الأخونة" جاهزة وستنطلق سريعًا في حال قررت الحكومة القيام بعملية جريئة كهذه. يكفي أن الوزير الحالي محمد إبراهيم متهم بأنه إخواني أو يمالي الإخوان مع أن أكثر أهداف الشرطة في عهده إسلاميون أو مؤيدون للدكتور مرسي.
كانت جورجيا أرض العصابات المسلحة والشرطة الفاسدة وأكثر المناطق الحافلة بالجرائم في الاتحاد السوفييتي السابق، خصوصًا عاصمتها مدينة "تبليسي" رغم أن عدد سكان هذه الجمهورية لا يزيد عن 4 ملايين نسمة.
جاء ترتيبها عام 2002 في المركز 83 عالميًا بعد فنزويلا في معدل انتشار الجريمة، ووصل الأمر إلى اشتغال رجال الأمن بالبلطجة والسرقات. البيوت والسيارات تسرق جهارًا نهارًا فإذا ذهب المواطن طالبًا الحماية ومبلغًا عن سرقة يطلب منه مركز الشرطة رشوة وأن عليه أن يدفع مبلغًا من المال مقابل استرجاع سيارته أو مسروقاته.
أحكمت الجماعات المسلحة بالتعاون مع الشرطة قبضتها على العاصمة، فلم يتمكن شخص من حماية بيته أو أطفاله من الخطف إلا بدفع إتاوة شهرية.
عندما انتخب ميخائيل ساكاشفيلي رئيسًا للحكومة عام 2004 وكان عمره 36 عامًا قام فورًا بإصلاحات جذرية حاسمة في جميع المؤسسات وبدأ بالشرطة. حينها تخوف الإعلام والخبراء من تأثير ذلك لأنه بدأ بالمؤسسة التي يمكنها أن تنقلب عليه لأنها المستفيدة من الجريمة، ونصح بأن يؤجل ذلك لحين الانتهاء من إصلاح المؤسسات الاقتصادية والقضائية والسياسية، فرد بحزم: الأمان هو غاية الناس فإن لم نوفره سريعًا فلن ينهض أي مشروع تنموي. أنت لا تستطيع أن تبني بيتًا في الهواء. الناس إذا لم تر تغييرًا في الشارع ممثلًا في جهاز الشرطة الذي يتعاملون معه فلن يحسوا بأي تغيير آخر.
وهكذا بدأ ساكاشفيلي إصلاحاته بمغامرة قيل إنها ستنتهي بالقبض عليه وإيداعه السجن وربما إعدامه. قام بفصل 18 ألف شرطي في يوم واحد. كان زملاء رئيس الحكومة خائفين من مغامرته واعتبروه مراهقًا لا يدرك أن هؤلاء المفصولين مسلحون ولديهم علاقاتهم بالعصابات المسلحة وأن عددًا محدودًا منهم يستطيع القيام بانقلاب عسكري ناجح بحماية البلطجية والعصابات.
قال له وزير الداخلية: أنت ستغرق البلاد في الفوضى. سيلعنك الناس لأن ما ستفعله هو انقلاب على مؤسسة.
خلال شهر واحد تم الإعلان عن وظائف في الشرطة للمؤهلين وإجراء اختبارات بشفافية كاملة دون واسطة شملت المعلومات العامة والصحة البدنية واللياقة، والتركيز على الأذكياء الذين يجتازون التدريبات سريعًا وتم توزيعهم على الشوارع.
استبدلت جميع مباني أقسام الشرطة بمبانٍ زجاجية حتى يرى الناس ما يدور داخلها لتنمحي من أذهانهم قصص التعذيب داخلها، وتم رفع راتب الشرطي من 70 دولارًا شهريًا إلى 700 دولار.
اعتقد الناس أنها الكاميرا الخفية، فقد اعتاد أفراد الأمن على طلب الرشوة ولكن ذلك توقف، بل إن هناك من عرض الرشوة على ضابط أو جندي كما كان يفعل حتى يمر بسيارته غير المرخصة أو يمرر شيئًا ممنوعًا ففوجئ بالرفض والقبض عليه.
هذا التغيير الكبير تشهده دولة كانت تعج بالفساد وانفلات الأمن والجريمة المنظمة فتحولت إلى جاذبة للاستثمار ورجال الأعمال الباحثين عن الأمان والشفافية.
أهدي هذه القصة إلى الدكتور محمد مرسي...