أرسل لي عدد من ضباط الشرطة يتهمونني بالانتماء للقبيلة العشماوية نسبة لعشماوي الذي ينفذ أحكام الإعدام شنقًا. قال أحدهم: كأنك تريد فصلنا جميعًا بجرة قلم على طريقة ما حدث في جورجيا، وهو أشبه بحكم إعدام جماعي لنا ولأسرنا رغم أننا نبذل فوق طاقتنا لمواجهة ظروف أمنية صعبة فرضتها ثورة يناير وتداعياتها ودخول كميات كبيرة من السلاح من ليبيا نتيجة ثورتها التي لم تمهلنا وقتًا كافيًا لنلتقط الأنفاس ونلملم شتات الأمن المنفلت حتى نكون جاهزين لحماية حدودنا.
وكتب آخرون ينتقدون الأخذ بتجارب الآخرين في إصلاح الشرطة دون قياس الفارق السكاني الكبير بيننا وبين جورجيا والمشاكل المعقدة عندنا التي لا تنحصر في الأمن الجنائي فقط، فهناك المظاهرات التي انتقلت من السلمية إلى العنف المسلح والحرائق التي تستنزف معظم طاقة الشرطة، فلا يمر يوم بدون مظاهرات واحتجاجات وقطع طرق، ولا تمر جمعة بدون مولوتوف وخرطوش. لولا الجهد الخرافي الذي نبذله لاحترقت معظم المرافق العامة والخاصة.
مؤكد لم يكن هدفي من مقال الأمس عن تجربة جورجيا أن نقوم بفصل كل رجال الشرطة ولكنني قصدت استخدام الحزم والحسم، والانتباه إلى حاجتين أساسيتين لا ينبغي تأجيلهما وهما الأمن والطعام. الأمن يتقدم على كل شيء لأنه الأساس الذي تنطلق منه كل سبل الحياة، فلا استثمارات ولا مصانع ولا سياحة ولا زراعة بدون أن يشعر الناس بالأمان على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
والحق أن وزارة الداخلية بأجهزتها الأمنية شاخت وفي أرذل العمر، لم يلحق هيكلها العام أي تطوير منذ عهد شعراوي جمعة آخر وزير داخلية في عهد عبد الناصر والذي استبدل به ممدوح سالم بعد قضية مراكز القوى 1971 في أوائل عهد السادات.
لم نر تطويرًا يذكر لأفراد هذا الجهاز الخطير ما عدا تغيير الشعارات. عقيدتهم الأمنية لم تغادر موضع عقيدة أمن عسكري أو خفير الدرك بصرخته السينمائية الشهيرة "مين هناك"!..
ثقافة التعامل مع الشارع التي تعلمها ضباط الشرطة في دراستهم تؤهلهم فقط لتعذيب البشر وتأديبهم واعتبارهم حيوانات مهما علت درجاتهم الاجتماعية والعلمية والثقافية، ومن ثم لم تنل الشرطة تعليمًا أو تدريبًا جيدًا على منع الجريمة وضبط المجرمين. تدربت فقط على طرمخة الأدلة وكيف يشيل بريء جريمة غيره حتى لا ترهق نفسها في البحث والتحري.
وبمناسبة حديثي عن جورجيا، هي لم تغير فقط شرطة بشرطة وإنما غيرت مناهج تعليمهم وتدريسهم التي كانت سائدة في الاتحاد السوفييتي السابق. طبقت مناهج جديدة مستوردة من الغرب تجعل من الشرطي صديقًا للمواطن وعونًا له لا عدوًا يطارده بأحط الألفاظ ويحاصره بسب أمه وأبيه و"اللي خلفوه"!
ولأنه من الصعب تغيير جهاز عريض يضم عشرات الآلاف من الضباط والأمناء والأفراد، فالحل انتقاء أفضل من فيه ممن لديهم قدرة على التعامل مع الأمن الجنائي والمدربين تدريبًا جيدًا على التعامل الحاسم مع الجرائم وتعقبها، وبصراحة عدد من يحملون هذه الميزة ليس كبيرًا، ثم ضمهم لوزارة جديدة تختص فقط بالأمن الداخلي والانضباط وتشمل ضمن أجهزتها تنظيم المرور. وبعد ذلك يتم إطلاق عملية اختيار واسعة لأفرادها وفق مواصفات خاصة، وإخضاعهم لتدريبات قصيرة في معاهد الشرطة.
وحتى لا تساير الشكوك البعض في طبيعة هذه القوات الجديدة، يجب أن تكون لجان الاختيار تابعة للجيش وتطبق معايير دقيقة جدًا من التحري عن الأشخاص وعائلاتهم واتجاهاتهم، مع وجود أكثر من جهة مراقبة للاختيارات والاختبارات منعًا للواسطة والسمسرة التي تجري بالنسبة لاختيارات طلاب كلية الشرطة.
أما وزارة الداخلية فتتفرغ لأمور الأمن السياسي والسياحي وتأمين المظاهرات وتأمين المرافق العامة والأعمال الخدمية مثل التراخيص والجوازات وتأمين الموانئ والمطارات والتموين والمخدرات وغير ذلك.
استعادة الأمن تعوزها عملية جريئة وأفكار خلاقة لإعادة الهيكلة. تحتاج لعشماوي لا يشد المشنقة حول رقبة الشرطة العجوز المترهلة التي تحيا بالمسكنات وإنما يمنحها الحياة والحيوية.