أمام مقر الكونجرس فى واشنطن نصب تذكارى للرئيس الأمريكى السادس عشر أبراهام لينكولن تخليدًا له، لأنه حافظ على الولايات المتحدة الأمريكية من الانقسام.
بفضل حسمه وقوته وعدم تردده ورفضه للمواءمات والمجاملات والإهانات الشخصية التى كانت توجه له، تحول هذا البلد إلى القوة العظمى الأولى فى العالم.
صحيح أنه اغتيل بعد وقت وجيز من انتصاره على الولايات الجنوبية التى كانت قد أعلنت انفصالها باسم الولايات الكونفيدرالية، لكنه كان قد أرسى دعائم الدولة العظيمة الموحدة ذات الديمقراطية الراسخة.
حرر العبيد متغلبًا على مصالح اتفقت عليها كل القوى المجتمعية والسياسية والقضائية فى ولايات الرق الجنوبية التى كانت تعتمد على الاقتصاد الزراعى وخصوصًا زراعة القطن، ويبتاعون الزنوج من إفريقيا لزراعتها.
واجه لينكولن حربًا شعواء من الإعلام والقضاء والفنانين ورجال البزنس وجماعات الضغط ذات المصالح. ولم تكن تلك الحرب قاصرة على ولايات الجنوب التى انفصلت، بل كانت فى قلب ولايات الشمال التى تعتمد على الاقتصاد الصناعي، وداخل حزبه الجمهورى نفسه.
انتصر لينكولن للولايات المتحدة، لأنه لم يقل فى أى خطاب من خطبه إنه ليس له حقوق، بل اعتبر حقوقه كرئيس من مهابة الدولة وحقوق مواطنيها. قام بإغلاق الصحف والمجلات التى سخرت من شخصه وروجت الأكاذيب عنه وحول حكمه ووزرائه.
لم يأبه لمعارضة الحزب الديمقراطى المنافس الذى اعتبر تلك الإجراءات والحرب على الولايات المنفصلة مخالفة للدستور الأمريكى ولمبادئ لديمقراطية. حينها قال لينكولن قولته الشهيرة: "افعل ذلك لتظل سيادة الشعب للشعب".
صحيح أن الثمن حرب أهلية استمرت سنوات وخلفت أكثر من 600 ألف قتيل، لكن الثمن الآخر كان سيكون باهظًا وكارثيًا لو استسلم للمظاهرات وأعمال الشغب التى اجتاحت ولايات الشمال رفضًا لدخوله الحرب واستخدام السلاح ضد الولايات المنفصلة.
اغتيل أبراهام لينكولن برصاصة فنان كبير من الفنانين الذين رفضوا رئاسته، هو الممثل المسرحى المعروف جون ويلكس بوث، أثناء حضوره لمسرحية فى أحد مسارح واشنطن، وتوفى صباح اليوم التالى متأثرًا بإصابته.
الغريب أن هذا الرجل الذى يعتبر من أعظم رؤساء أمريكا وبطلاً قوميًا فاز بالانتخابات الرئاسية للمرة الأولى عام 1861 بنسبة 40% فقط، فى حين توزعت النسبة الباقية على مرشحين آخرين. وبمجرد فوزه بدأت ولايات الجنوب الانفصال حتى وصل عددها إلى 11 ولاية رفضًا لبرنامجه الانتخابي المانع لتوسع ولايات العبيد إلى الولايات الجديدة التى ضمتها أمريكا بعد انتصارها فى حرب المكسيك.
كان القضاء أكثر السلطات الرافضة له. وعندما بدأت الولايات الجنوبية الانفصال خرجت الأحكام القضائية مؤيدة لها، لأن الدستور لا يمنع، إلا أن الرئيس لنكولن رفض الإذعان لذلك بشكل قاطع مستندًا على دستور 1776 الذى توقف العمل به بصدور دستور عام 1789، وفيه مادة تنص على الوحدة الدائمة، معتبرًا أن الدستور التالى جاء تطبيقًا لما سبقه، وبالتالى فإن بند الوحدة الدائمة سارى المفعول ويجب العمل به.
أدرك لينكولن خطر القضاء عندما تميل كفة المصالح، وكقانونى مخضرم رفض تنفيذ أحكامه المتصادمة مع وحدة واستقرار الدولة وبناء مؤسساتها ومنحت فرصة للمظاهرات والشغب ومقاومة المؤسسات المنتخبة، رغم تهديدات الولايات الجنوبية باللجوء إلى التدويل سعيًا لتدخل بريطانيا وفرنسا، وهدد بشن حرب إذا اعترفت أى بلد بوجود الولايات الكونفيدرالية الأمريكية (المنفصلة).
أبراهام لينكولن يعد أعظم رئيس ديمقراطى فى تاريخ أمريكا والمؤسس الثانى للولايات المتحدة، مع أنه استخدم السلاح وقاوم بيد حديدية المظاهرات وأعمال الشغب وقطع الطرق وأغلق الصحف والمجلات التى هاجمته وجعلته مادة للسخرية والشتائم والإهانات، ثم قام باعتقال مجلس تشريعى بإحدى الولايات وأودعه السجن، لأن المجلس أصدر قرارًا مؤيدًا للانفصال.
استلهام هذا التاريخ لا يعنى أننا نسعى لنسخة طبق الأصل، وإنما لنعلم أن القرارات الهامة التى تحفظ وحدة الدولة من المهرجين والممثلين وتغلق وسائل الإعلام التحريضية التى تكذب وتختلق القصص لخدمة جماعات المصالح التى تمولها، لا تعتبر عملاً ضد الديمقراطية منافيًا للقانون، بل يكلل صاحبها كأعظم رئيس ديمقراطى كما حدث للينكولن.
الولايات المتحدة الأمريكية الآن أعظم دولة ديمقراطية فى العالم. تخيل حالها لو خضع أبراهام لينكولن لشغب المعارضة وتسلط القضاء وتحريض الإعلام وفتح صدره لهم قائلاً ليس لى حقوق، فى حين يؤخذ مؤيدوه إلى السجون بسبب فنانة أو قصة كاذبة عن حرق مقر حزب مشاغب أو يهتز وزير داخليته لأن ناشطًا معارضًا أخذ من المطار بأمر ضبط وإحضار، ويترك الحبل على الغارب لمهرجين يحصلون على توقيعات لقلب نظام الحكم بحجة سحب الثقة، أو يتحرك رئيس نادى القضاة بأريحية لاستدعاء التدخل الدولى متوعدًا بالمفاجآت القادمة.