كانت القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية التي تعتبر من أقوى وأكبر الإمبراطوريات التي ظهرت في شرق وغرب أوربا، وغرب آسيا وشمال أفريقيا. مؤسس هذه المدينة هو قسطنطين الكبير عام 330 م، وأطلق عليها اسم روما الجديدة، وقد بنيت على مضيق البسفور عند نقطة التقاء قارة آسيا بقارة أوربا، وللمدينة شكل مثلث، وهي محاطة بالبحر من ثلاث جهات: بحر مرمرة (جنوب.شرق) - البسفور (شمال.شرق)- القرن الذهبي(شمال). وأحاطها قسطنطين بسور ضخم جداً من جهة الغرب[10]، يتكون من أربعة حواجز وهي: 1- الخندق. 2-المتراس. 3-السور الخارجي. 4-السور الداخلي.[11] كما أن المدينة ألحق بها سور كبير أيضاً يحيط بها من جهات البحر الثلاثة، وكانت للمدينة عدة بوابات على امتداد السور.[12]
يتوج فتح القسطنطينية إنجازات السلطان محمد الثاني والجيش العثماني، بل يبدأ عهده بهذا الفتح الذي منحه لقب محمد الفاتح في التاريخ. كان فتح هذه العاصمة الرومانية العتيدة هدف المسلمين منذ العهد الأموي، ثم غاية العثمانيين منذ أن عبروا بحر مرمرة إلى الشاطئ الأوربي. ظلت القسطنطينية عاصمة الروم منذ أن قبل الأباطرة الروم الدخول في تبعية العثمانيين في عهد مراد الأول، وبعد معركة ماريتزا الفاصلة في 1371 م على وجه التحديد، بيد أن بعض هؤلاء الأباطرة ظلوا يكيدون للعثمانيين بتأليب الدول النصرانية والبابا عليها آناً، وبإغراء أمراء قرمان في الأناضول الجنوبي بالثورة على الحكم العثماني آناً آخر.
بشر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- أمته، فقال: " لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش "[13]رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده.
كما أنهم كانوا يحمون بعض الأمراء العثمانيين الفارين إليهم، ويحرضون هؤلاء الأدعياء في العرش العثماني في إثارة القلاقل في وجه السلاطين العثمانيين، أو يتلاعبون مع بعض هؤلاء السلاطين بمطالبة الأموال لقاء الاحتفاظ بهؤلاء الأدعياء.[14]
وكان مراد الثاني والد الفاتح قد قرر إزاء هذه المؤامرات أن ينهي هذه المشكلة في أول عهده، فحاصر القسطنطينية في 1422 م بجنود قليلة، ولكنه انصرف عن إتمام الفتح لمشاكل جديدة في الأناضول من جهة، ولخضوع الإمبراطور الرومي له وتعهداته من جهة أخرى...وكذلك حالت سياسته السلمية دون إنهاء هذه المشكلة رغم تصميمه على ذلك عقب معركة فارنا، والتي كان الإمبراطور الرومي يوحنا الثامن قد لعب دور المحرض فيها، ولكنه قبل اعتذارات الإمبراطور وعفا عنه مرة أخرى.[15]
أما السلطان محمد الثاني، فقد كان من طراز آخر، ولا يؤمن بأنصاف الحلول. أراد السلطان محمد الثاني –في البداية- أن يجنب الروم ويلات الحرب مع العثمانيين، فطالب الإمبراطور قسطنطين الأخير أن يتنازل له عنها، ويعيش في أمان مع جميع رعاياه، ولكن الإمبراطور رفض، فقرر عندها فتحها بالقوة. ومما جعل محمد الفاتح يتخذ هذا القرار أيضاً تحريض الإمبراطور لإبراهيم أمير قرمان عليه، ومطالبته السلطان بمضاعفة مرتب الأمير العثماني أورخان، وإلا فإن أورخان سوف يتمرد وسيمده الإمبراطور بالجنود ضد الفاتح.[1]
"روملي حصار"، أي قلعة الروم.
بدأ العثمانيون ببناء قلعة منيعة في أضيق موضع من مضيق البسفور على الشاطئ الأوربي، إزاء القلعة الصغيرة التي بناها بايزيد الأول على الشاطئ الآسيوي من هذا المضيق، والتي تعرف بأناضولو حصار، وعرفت هذه القلعة الجديدة بروملي حصار. وبنيت على شكل مثلث، وتم بناؤها في أواخر أغسطس سنة 1452 م، ونصبت على أبراجها القوية المدافع الضخمة وتركت فيها حامية من الجنود. وهكذا تم إغلاق هذا المضيق من جهة الشرق في وجه الإمدادات التي يحتمل مجيئها من ناحية البحر الأسود، كما وضعت قوة بحرية أخرى في بحر مرمرة في الغرب لمنع الإمدادات للعدو من جهة بحر إيجه.[16]
مدفع سلطاني عثماني مماثل للمدفع الذي استخدم عند حصار القسطنطينية. تمّ صب هذا المدفع عام 1464، وهو الآن موجود في متحف الترسانة الملكية البريطانية.
كما أن الفاتح أعد أضخم قوة مدفعية لإتمام هذه المهمة التي عجز عنها كثير من الفاتحين فيما سبق. وكان هذا السلاح حديث العهد بالاختراع، وكان الأتراك بدؤوا يصنعون بعض المدافع في الأناضول... ووصل في هذه الأثناء أحد مهندسي المدفعية المجريين واسمه أوربان، إلى بلاط الفاتح، حيث لقي الترحيب. صنع هذا المهندس بطلب من السلطان عدداً من المدافع الضخمة، ومنها المدفع السلطاني أو المحمدية في المصادر الغربية، الذي كان أضخم مدفع عرفه التاريخ في ذلك العصر، وزنه 700 طن، وزن قذيفته 12 ألف رطل، ومرماه ميل واحد، ويجره 60 ثوراً أو أكثر.[17]
وهكذا بعد تأهب واستعداد تام بدأ الحصار.
[عدل] الحصار
[عدل] يوم الخميس 26 ربيع الأول 857 هـ / 6 أبريل 1453م
بدأ الحصار من جهة البر الأوربي، حيث أقام الفاتح معسكره أمام الأبواب الثلاثة الكبرى للمدينة[18]، ولم يكن يتجاوز عدد القوات العثمانية بشتى أنواعها وتحت أي مسمى وأي شكل من الأشكال ثمانين ألف مقاتل (ستون ألف فارس، وعشرون ألف مشاة) وفقاً للمؤرخ اليوناني فيليلفوس الذي عاصر الحصار، وأكد بكل ثقة على ذلك.[19]
خريطة تُظهر سور القسطنطينية وميناءها.
أما المدافعون عن القسطنطينية، فيقدرهم المؤرخ التركي ضياء شاكر بما لايقل عن 60 ألف مقاتل، أما الرشيدي فيقدر عددهم ب 40 ألف مقاتل[20]، والغالب أنهم كانوا حوالي 50 ألف مقاتل.[21] كان البيزنطيون يعتمدون في الدفاع على الموقع الحصين الفريد لعاصمتهم ومناعة أسوارها المزدوجة الضخمة، والخندق العميق أمام السور الخارجي الممتد ل6 أميال، ولكنهم مع ذلك وصفوا بالجبن وفقاً لفليلفوس المذكور آنفاً. وعلاوة على ذلك، فإن الإمبراطور قسطنطين، بعد توحيد الكنيستين الشرقية والغربية في احتفال رسمي بالقسطنطينية في ديسمبر 1452 م، كان متأكداً من العون من البابا نيقولا الخامس، ومن الدول النصرانية الأخرى بوساطته، وأتى بعض هذا المدد، ولكن ليس في المستوى الذي كان يرجوه الإمبراطور الخائف أمام استعدادات الفاتح، وبعد كثير من القلق والذعر. والحقيقة أن البابا كان قد تنبأ، رغم اتحاد الكنيستين، ببصيرته السياسية أن خراب القسطنطينية آت لا محالة، فاكتفى بإرسال مبعوثه الديني "كاردينال إيسدور" في بعثة، ثم بعض القوات البحرية المكونة من جنوده وجنود جنوا والبندقية، والأسلحة والمواد التموينية بعد بدء الحصار بأسبوعين. أما الدول المسيحية الأخرى فكانت مشغولة بالخلافات بينها، ثم إنها جربت القتال مراراً مع العثمانيين، ولقيت الهزائم الساحقة والمخزية على أيديهم.
[عدل] من بداية الحصار إلى 20 أبريل 1453م
محمد الفاتح يقود جيش المسلمين.
ظلت المدافع العثمانية تضرب أسوار المدينة طيلة هذين الأسبوعين، ولكنها لم تنل فوائد ذات بال من هذه الأسوار السميكة، والتي كان المدافعون يصلحون الثغرات المحدثة فيها بكل همة ونشاط تحت قيادة جستنياني والإمبراطور نفسه، إذ كان دوي المدافع أكبر من أثرها التدميري. وعندما حاول الأتراك عبور الخندق بعد ملئه بالحطب والأحجار، ودخول السور من ثغرة صغيرة في اليوم الثامن عشر، تعرضوا للنار والحديد من السهام المحرقة والنار الإغريقية، وقذائف المدافع الرومية، كما لم يتمكنوا من تحطيم السلسلة الحديدية الضخمة التي أغلق بها مدخل خليج القرن الذهبي أمام السفن العثمانية الرابضة في بحر مرمرة.
[عدل] 20 أبريل 1453م
وصلت خمس سفن حربية من جهة البابا بالإضافة إلى ثلاث سفن تحمل العتاد الحربي والمؤن، وحدثت معركة بحرية بين الطرفين، حيث كان عدد السفن الحربية العثمانية 12 فقط بحسب الرشيدي. خسرت البحرية العثمانية التي كان يقودها بلطه أوغلي، ولم تستطع منع هذه السفن الحربية الكبيرة من العبور إلى ميناء القرن الذهبي، وكان الفاتح يراقب بنفسه هذه المعركة من الشاطئ، حيث أمر قائد البحرية أن يغرق هذه السفن بأي شكل من الأشكال، ولكنه لم يفعل، فكان جزاء بلطه أوغلي أن عزل من منصبه. ارتفعت بهذا الانتصار معنويات الروم وحلفائهم، وأخذ بعض الجنود العثمانيين –الذين بدأت روحهم المعنوية تتأثر- بالانسحاب من أرض المعركة. استغل الإمبراطور الروماني هذا الموقف وعرض على السلطان السلام. العرض لقي ترحيباً من الصدر الأعظم خليل باشا –والذي ثبتت فيما بعد خيانته-، إلا أنه لقي الرفض القاطع من السلطان محمد، وهكذا واصلت المدافع عملها.
[عدل] ليلة 21 أبريل 1453م
السلطان محمد الثاني يُشرف على جرّ السفن برًا إلى داخل مضيق القرن الذهبي.
أثمرت عبقرية الفاتح خطة فريدة لم تستعمل من قبل أبداً، ولم ير أحدٌ مثلها قط، وهي أنه قرر إدخال السفن العثمانية من ميناء بشكطاش العثماني (حالياً يدعى دولمه باغجه) في مضيق البسفور إلى القرن الذهبي عن طريق البر، وركبت في سبعين سفينة عجلات صغيرة، وفرشت مسافة 3 أميال بالألواح الخشبية، ودهنت هذه الألواح بالشحم، وهكذا جرت هذه السفن عبر التل من جانب غلطه إلى قاسم باشا في خليج القرن الذهبي تجاه الميناء الرومي، ونشير هنا إلى أن الأسطول العثماني بحسب الرشيدي كان يقدر ب 250-350 سفينة منها 12 سفينة حربية والبقية عبارة عن قوارب وسفن دعم.[22] وطيلة الليل استمرت المدافع بالضرب الشديد على أسوار المدينة، بغية إشغال الأعداء من الوقوف على هذه العملية المفاجئة.[23]
[عدل] صباح 22 أبريل 1453م
فوجئ الروم وحلفاؤهم بمنظر السفن العثمانية في القرن الذهبي، فدب وهب في قلوبهم الذعر، وهكذا بدأ العثمانيون يهاجمون المدينة من ناحية البحر بالإضافة إلى قصفهم لها من ناحية البر.[24]
[عدل] 28 أبريل 1453م
كان من حوادث الحصار الهامة إقامة الأتراك جسراً عائماً من البراميل يصل بين بر الغلطة وبر ميناء القرن الذهبي، وإحباط محاولتين للعدو لإحراق السفن العثمانية في هذا الخليج.[25] قدم السلطان محمد الفاتح عرضاً على الإمبراطور بأن يستسلم الإمبراطور استسلاماً غيرمشروط، فإذا هو استسلم فإنه بوسعه أن يذهب حيث يشاء، ويحفظ بذلك أرواح شعبه وممتلكاتهم. الإمبراطور رفض العرض.
[عدل] من 28 أبريل وحتى 24 مايو 1453م
استبسل المسلمون العثمانيون بما يوصف على أنه من أروع ما عرف عن البطولة في التاريخ، ولكن فشلهم في إيجاد ثغرة واسعة في سور المدينة، ومتانة التحصينات التي تتمتع بها القسطنطينية، بالإضافة إلى الخونة الموجودين في الجيش العثماني، والذين كانوا يوصلون للروم باستمرار معلومات تحرك العثمانيين (ومن بين الذين ثبتت عليهم تهمة الخيانة وأعدموا فيما بعد خليل باشا الصدر الأعظم للدولة[4])، أدى إلى فشل المحاولات المستمرة لاختراق المدينة. بنتيجة ذلك، نصح الوزير الأكبر خليل باشا –الخائن- السلطان محمد الفاتح برفع الحصار[26]، إلا أن السلطان محمد الفاتح لم يكن ذاك الذي يستسلم للغدر والأعداء، فقرر الاستمرار في الحصار ومضاعفة الجهود[27]، ووافقه القادة المخلصون أمثال زاغنوس باشا وغيره[28]. ولجأ الفاتح إلى عمليات عسكرية أخرى كحفر أنفاق تحت الأسوار، وإدخال جنوده الأبطال من هذه الأنفاق المحفورة في عدة مواضع. ولكن المعلومات كانت تصل للبيزنطيين -عن طريق الخونة- وعندما وصل بعض الجنود إلى الطرف الآخر فوجئوا بالزيت المغلي والنار المحرقة تُصب في الأنفاق، واستشهد المئات منهم على إثر ذلك.[29] كما لجأ الفاتح إلى تدبير آخر لتسلق جنوده السور، فأمر ببناء برج خشبي ضخم ذي ثلاثة طوابق، يجلس فيه الجنود، ويحملون أسلحتهم والسلالم، كما غطى هذه القلعة المتحركة على العجلات بجلود سميكة مبللة كي لاتؤثر فيها نيران العدو، وقرب هذا البرج إلى إحدى البوابات، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل أيضاً، إذ احترق البرج أخيراً بقذئف الروم المحرقة، والنار الإغريقية، التي كان يرمي بها العدو من فوق الأسوار بشكل متواصل.[30]
[عدل] 25 مايو 1453م
أرسل الفاتح صهره إسماعيل إسفنديار إلى الإمبراطور، يعرض عليه تسليم المدينة للمرة الأخيرة، ووفقاً لهذا العرض فإن بوسع الإمبراطور وأتباعه أن يأخذوا أموالهم ويرحلوا إلى حيث يشاؤون. وبالنسبة لمن يريد من شعبه أن يبقى فله الحق في ذلك وتصان أمواله وأملاكه وحرياته. الإمبراطور رفض العرض مرة أخرى.[31]
[عدل] 26 مايو 1453م
وصلت للعثمانيين معلومات تفيد بأن الجيوش الأوربية وبشكل خاص الهنغارية سوف تحرك قواتها وجيوشها لمساعدة الرومان مالم يوقف العثمانيون الحصار فوراً. عقد السلطان مجلساً استشارياً، وكالعادة فقد بادر خليل باشا وجماعته إلى التمسك بموقفهم السابق، وهو إنهاء الحصار، لكن السلطان الفاتح، وزاغنوس باشا، ومعلمه آق شمس الدين، وآخرون تمسكوا بمبدأ "إما نحن وإما القسطنطينية" لقد اتخذوا موقفاً شجاعاً وقرروا مواصلة الحرب. طلب من زاغانوس باشا تولي قيادة الاستعدادات العامة.
[عدل] 27 مايو 1453م
إعلان الهجوم العام في الجيش العثماني، "إما أن يسقط العثمانيون أو تسقط القسطنطينية"، وصام المسلمون هذا اليوم، تطهيراً وتزكية للنفوس، وتقرباً إلى الله تعالى[32]، وفي مساء ذلك اليوم أوقدت النيران والمشاعل والقنادل في المعسكر العثماني فانقلب الليل إلى نهار في توهج شديد، وتعالت صيحات المسلمين بالتهليل والتكبير، والأناشيد الحماسية، ودقات الطبول.. لقد روعت هتافاتهم المتوالية المتصاعدة الأعداء وراء الأسوار، الذين كانوا قد ظنوا في الأول أن حريقاً كبيراً اندلع في معسكر الأتراك فهرولوا فرحين إلى السور ولكنهم فوجئوا بمنظر رائع مروع.[33]
[عدل] 28 مايو 1453م
قضى الجيش العثماني هذا اليوم أيضاً صوماً لله تعالى، وعبادة ودعاء، وكان الشيوخ والعلماء يطوفون بين صفوف الجنود، ويقرؤون عليهم آيات الجهاد، ويحدثونهم عن ما أعده الله تعالى للشهداء من نعيم الجنة وحسن الجزاء.[33] وخطب فيهم السلطان محمد الثاني فرفع معنوياتهم، وشجعهم على الجهاد العظيم. في هذا الوقت، كان الروم يقيمون حفل ابتهالٍ وطقوساً دينية في آيا صوفيا، كانوا يرفعون الصلبان ويقرعون أجراس الكنائس.[34] خطب الإمبراطور قسطنطين في جنوده وشعبه، وحثهم على الثبات والصمود في وجه هجوم الغد، وراح يذكرهم بأنهم سلالة صناديد أثينا وأبطال روما...[33] (هذه الخطبة ستكون خطبته الأخيرة) وهكذا، في الوقت الذي كانت فيه أصوات القرآن والأذان تعلو في معسكر العثمانيين، كانت أجراس الكنائس لا تهدأ داخل أسوار القسطنطينية، لقد كان الهجوم الأخير هجوماً ملحمياً، هجوماً مصيرياً وحاسماً.
[عدل] صباح يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857 هـ / 29 مايو 1453م
دخول المدينة للرسام فاوستو زونارو.
في صبيحة هذا اليوم، وبعد صلاة الفجر، بدأ الهجوم الإسلامي العام بدوي هائل من هتافات التهليل والتكبير ودقات الطبول في جميع الاتجاهات من البر والبحر[35]، واشتبك الفريقان في ملحمة تاريخية رائعة، الروم وراء مدينتهم الحصينة، والأتراك وراء عقيدتهم الراسخة. كان الفاتح الشاب يدير هذا الهجوم الأخير بنفسه بعد أن اخترق الخندق على متن جواده "جامبولات"، يحض جنوده ويشد من أزرهم.[36] وجود محمد الفاتح إلى جانب جنوده في أرض المعركة ألهب حماسهم، وسرعان ما بدأت المواجهة وجهاً لوجه. وتحت غطاء منهمر من النبال والسهام والحجارة والقذائف، صعد البطل التركي ألوباتلي حسن (حسن طوبال) مع رفاقه الثلاثين –البواسل- إلى أعلى السور، كان حسن يحمل معه سيفه ودرعه والعلم العثماني فقط، وصل هو قبل رفاقه. ألوباتلي حسن انتزع الأعلام الرومانية. ألوباتلي حسن لوح بالعلم العثماني من أعلى السور، وشك العلم في أعلى سور القسطنطينية، ثم قاتل الأعداء وحده ودافع عن العلم، حتى وصل رفاقه ال 12 الباقون. ألوباتلي حسن استشهد، ووجد في صدره 27 سهم. رؤية العلم العثماني يرفرف على سور القسطنطينية ألهم الجنود العثمانيين وأبقى معنوياتهم مرتفعة حتى أتموا الفتح، وفي المقابل فقد دمرت رؤية العلم العثماني معنويات الروم وحلفائهم. أصيب جستنياني في هذا الهجوم بجروح خطيرة، ودب الرعب في قلبه، إذ سرعان ماركب سفينته الراسية في الميناء، ولاذ بالفرار إلى جزيرة لمنوس حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. أدى هروب جستنياني الجبان هذا إلى انهيار معنويات الجنوزيين وحلفائهم الروم أيضاً، وسرعان ما انهارت البوابة الكبيرة (سان رومان) بيد العثمانيين، كما رفرفت الأعلام العثمانية من على السور من جهة باب أدرنة، وكذلك رفرفت الأعلام العثمانية فوق السور المواجه للقرن الذهبي، وهكذا تدفق العثمانيون من كل الجهات إلى المدينة، ولم يصمد الروم وحلفاؤهم بعد ذلك، فسرعان ماتم الفتح وقتل قسطنطين على يد أحد الأبطال العرب. حيث إنه عندما دخل المسلمون العثمانيون المدينة، خرج قسطنطين من سراية تكفور مع قوات خاصة له للمدافعة، فوجد رجلاً عربياً جريحاً، فأراد قسطنطين أن يقطع رأس العربي الجريح، إلا إن العربي –وعلى الرغم من كونه جريحاً- كان أسرع من قسطنطين، فعاجله بضربة سيفٍ قطعت رأس قسطنطين وبذلك تم الفتح.[37] كما تذكر رواية أخرى أن الإمبراطور لاذ بالفرار مذعوراً، ولكن الأسطول العثماني في بحر مرمرة هو الذي أمسك به وقتله.
[عدل] ظهر يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857 هـ / 29 مايو 1453م
السلطان العثماني محمد الفاتح والبطريرك الأرذودكسي اليوناني جيناديوس الثاني. لم يكتف السلطان محمد الفاتح بالسماح لبطريركية القسطنطينية المسكونية بأن تبقى فعالة في المدينة بعد فتحها من قبل الأتراك عام1453 م، بل لقد قام أيضاً بإنشاء البطريركية الأرمنية في إسطانبول عام 1461 م، وذلك وفقاً لنظام الملل، علماً أن الروم الشرقيين كانوا يعتبرون الكنيسة الأرمنية كنيسة هرطقة، ولم يسمحوا لها أبداً بالعمل داخل أسوار القسطنطينية.
بعد ظهر هذا اليوم، دخل السلطان محمد الفاتح -ذو ال22 ربيعاً[38]- راكباً جواده الأبيض "جامبولات" المدينة المفتوحة[39]، وتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا، حيث كان كثير من الأهالي قد تجمعوا خوفاً على أرواحهم، لكنهم فوجئوا عندما طمأنهم الفاتح بأن أموالهم وحرياتهم وأرواحهم مصونة ومحفوظة، وسلم كبير كنيستهم ميثاقاً بألا يؤذى أحد من المسيحيين. كما أمر أن تحول الكنيسة إلى مسجد لكي تقام فيها أول صلاة جمعة، وهذا التحويل جائز لأن المدينة فتحت عنوة ولم تقبل عروض السلم المتكررة، ويروي المؤرخون الأتراك أن الفاتح بعد دخوله المدينة ظافراً ترجل، وسجد على الأرض شكراً لله تعالى الذي أنعم عليه بهذا الفتح.[40] بعد الفتح أعدم أورخان، ونوتاراس، كما أعدم خليل باشا بعد حوالي السنة بسبب ثبوت تورطه في دعم الروم أثناء الحصار.[4]
أما الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر، فقد أقيمت له جنازة وفق التقاليد المسيحية، ودفن في القسطنطينية، في المنزل العتيق، بميدان وفا.[41]
[عدل] تبعات الفتح
كان الفتح بمثابة ضربة قاصمة للصليبيين وحملاتهم على بلاد المسلمين، إذ سرعان ما سيأخذ المسلمون زمام المبادرة ويبدؤون في التوسع على الرقعة الأوربية.[42]
أصاب البابا نيقولا الخامس (بسبب الفتح) همٌ شديد أساء لصحته وأدى إلى موته في 24 مارس عام 1455 م.
"كنيسة القديس بطرس"، إحدى الأمكنة التي غزاها المسلمون الأغالبة سنتي 846 م-870 م، ويقال أن السلطان محمد الفاتح أقسم أن يربط حصانه فيها. ربما يكون الفتح قد لعب دوراً في بداية العصور الحديثة في أوربا، والدور الذي لعبه الفتح يقتصر على:
تحرير الأوربيين من معتقدات الكنيستين الكاثوليكية والأرذودوكسية، وبداية التشكيك الذي أدى لظهور البروتستانت لاحقاً، فقد كانت الكنيستان تعتقدان أن القسطنطينية يحميها المسيح -عليه السلام- وأنها لا يمكن أن تسقط في أيدي المسلمين (الكفرة بحسب اعتقادهم وأوصافهم)، وعندما فتحها المسلمون انهار صرح الكنيستين معاً في أذهان الأوربيين، وشعروا أنهم قد كُذبوا. أدى ذلك إلى نشأة الفكر البروستانتي [على يد مارتن لوثر(10 نوفمبر 1483 - 18 فبراير 1546)] الرامي إلى التخلص من هيمنة الكنيسة على الناس، والمرتكز على فسادها وفساد البابا. يشار إلى أن كثيراً من البروستانت ينتهي بهم الأمر إلى اعتناق الإسلام.
بدأت العصور الحديثة في العالم -بشكل عام- بظهور الإسلام، والذي جاوز عدد معتنقيه اليوم -وفقاً لآخر الإحصائيات الرسمية عام 2012 م- 2.1 مليار نسمة، فهو اليوم الدين الأكثر انتشاراً في العالم[43][44]، علماً أنه كان الدين الأكثر انتشاراً في العالم طيلة الألف سنة هجرية الأولى، أما في أوربا فقد بدأت على عدة مراحل من الاتصال مع المسلمين:
المرحلة الأولى (المرحلة الأندلسية): الأندلس، والاتصالات بينها وبين أوربا.[45]
المرحلة الثانية (المرحلة الصليبية): الحملات الصليبية على بلاد المسلمين، وما نجم عنها من انفتاح أوربا على الشرق الإسلامي، وعدم الاقتصار على الاتصالات مع الغرب الإسلامي.
المرحلة الثالثة (المرحلة العثمانية): حملات الدولة العثمانية على أوربا، وما نجم عنها أيضاً من السفارات والاتصالات، وفتح القسطنطينية الذي أدى إلى تحرير أوربا من معتقدات الكنيسة.
المرحلة الرابعة (المرحلة التمويلية): وصول الغرب إلى أميريكا عام 1492 م، خزان الثروات الكبير الذي مول النهضة الأوربية، ولا يزال يفعل، علماً أن المسلمين كانوا قد سبقوا أوربا بقرون في الوصول إلى هذه الأرض، بل ولقد قام الإدريسي برسم أول خارطة لها في خريطته الشهيرة المجسدة على كرة من الفضة، وتحدث عنها الإدريسي في كتابه ووصف أهلها فقال أنهم من ذوي البشرة الحمراء. كما قاد أميرال صيني مسلم أيضاً أسطول النجم باتجاه تلك الأرض عام 1427 م، ولكن المسلمين غير مسموح لهم -وفقاً لمعتقداتهم ورسالتهم- أن يقوموا بإبادة أهلها ونهب ثرواتها كما فعل الأوربيون، كما أن الأوضاع السياسية التي كانت تمر بها الأندلس خلال قرونها الأربعة الأخيرة، والأوضاع السياسية التي مرت بها دول المسلمين بشكل عام في تلك الفترة، لم تفتح المجال لهم لنشر الإسلام في تلك الأرض الجديدة، وتوسيع الاتصال بينهم وبين أهلها.[