مقدمة لدراسة المعجمات اللغوية
إنَّ لغة العرب من الأهميَّة بالمكان الذي لا يَخْفَى، إلا أنَّ معرفة أهميَّة الشيء لا يكفي للوصول إلى الغاية المطلوبة، فكم من مريدٍ للخير لم يبلغه!
ونحن نعيش عصرًا من المتناقضات في كثيرٍ من الأمور، ومنها أمرُ لغة العرب، فمع تصريح كثيرٍ من أهل العلم بأهميَّة دراستها، والتعمُّق فيها، وأخْذِها على الوجه السليم، ومع تصريح القرآن في آيات متعددة بأنه قرآنٌ عربيٌّ، إلا أنَّك ترى كثيرًا من العلماء - فضلاً عن طلبة العلم - يُغفلون دراسة كثيرٍ من جوانبها وعلومها، زعمًا منهم أنهم يقدِّمون الأهمَّ على المهمِّ.
والأعجب أنَّك حينما تراهم يدرسون شيئًا من علوم اللغة، لا تجدهم يقدِّمون الأهم على المهمِّ كما يقولون؛ بل يدرسون الأشياء المشهورة المعروفة، وهي وإنْ كانت ذات أهميَّة بالغة، إلا أنَّها ليستْ أهمَّ شيءٍ.
ونحن نلاحظ على الدارسين والباحثين أنَّهم عادة ما يقدِّمون بين يدي المبحث مُقدِّمة لُغويَّة؛ يذكرون فيها المعنى اللغوي للفظ الذي يبحثون فيه، وينقلون عن المعجمات اللغوية ما يُفيد في التعريف الذي ينشدونه.
وهذا الأمر ليس مقصورًا على البحوث اللغوية؛ بل هو شاملٌ لجميع التخصُّصات؛ من العقيدة، والأصول، والفقه، والحديث، والتاريخ، وغيرها.
والمعتاد عند هؤلاء الباحثين أنَّهم يرجعون إلى بعض المعجمات التي تُسْعِفهم ببيان المراد من هذه الألفاظ التي يبحثون فيها.
وكذلك في المحاضرات والدروسِ، من المعتاد كثيرًا أنْ تجدَ في ابتداء الدرس مقدِّمة عن المعنى، والأصل اللغوي للكلمة التي هي موضوع البحث.
وهذا يدلُّ على أنَّ الدراسة المعجميَّة لازمة لكلِّ باحثٍ وطالبِ عِلْمٍ أيًّا كان تخصُّصه؛ لأنه لا يستغني عن النظر في هذه المعجمات.
ولكنَّ الإشكال يَظهر إذا وجدتَ هذا العالم أو ذاك الباحث ينقل من المعجمات كيفما اتَّفق، فتسألُ:
• لماذا نقل من هذا المعجم، ولم ينقل من ذاك؟
• وما الأسباب التي دفعته لهذا الاختيار؟
وإن وجدتَ بعضَهم ينقل عن كثيرٍ من المعجمات، فقد تسألُ:
• هل هؤلاء جميعًا ساروا على طريقة واحدة في الشرح والبيان؟
• وهل هم على درجة واحدة من الثِّقة والتثبُّت؟
• وماذا تفعل إن وجدتَ بينهم خلافًا؟
• وهل أنتَ متيقِّنٌ أنَّك فَهِمْتَ مقصدَهم بهذا الكلام؟
إننا في الحقيقة قد نقرأ المضحِكات المبكِيات في كثير من البحوث المعاصرة، لا أقول من غير المختصِّين فيهون الخطب؛ بل من الذين نُسبوا للتخصُّص في هذه العلوم.
تقرأ مثلاً لباحثٍ معاصرٍ يقول:
• الفلسفة اللغوية عند ابن جنِّي.
• الدراسات الصوتيَّة عند سيبويه.
• التجديد عند ابن مالك.
... إلى آخره.
فهؤلاء لم يتمرَّسوا بكُتب القوم، ولم ينشؤوا عليها، وإنَّما كان قُصارى أمرهم أن يقرؤوا بعضَ كُتُب المستشرقين، فاتَّخذوها قُرآنًا لهم يأخذون منه النتائج مسلَّمة، ثم صاروا يضعون هذه النتائج سيوفًا فوق رِقاب علمائنا يفهمون كلامهم بناءً عليها، ونحن قد نعذرُ المستشرق إذا أخطأ في فَهْم كلام علمائنا؛ لبُعْده عن هذا المَهْيَعِ المبين، ولكن ماذا نقول عن بني جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا؟!
في بعض الأحيان ترجع إلى المعجم، فتراه يقول: كذا وكذا معروف! وأحيانًا أخرى تراه يعرِّف الكلمة بكلمة أخرى غريبة، فترجع للكلمة الأخرى في موضعها، فتراه يعرِّفها بأختها السابقة!.
مثال ذلك قول صاحب "مختار الصحاح" في مادة (ح ب ب): "الحب الخابية"، وقال في مادة (خ ب أ): "الخابية الحب".
وقد كنتُ جمعتُ قديمًا الكلمات التي قال عنها صاحب "القاموس": "معروف"، فوجدتُ كثيرًا منها ليس بمعروفٍ، وهذا بسبب اختلاف العصر والمصر والعُرف؛ فقد تكون مشهورة في عصره بخلاف هذا العصر.
والدارسون المعاصرون في اعتدادهم بالمعجمات قسمان:
• قسم يعتدُّ بالمعجمات إلى درجة التقديس والحُجيَّة، ويرفض كلَّ ما لم يردْ فيها؛ بل أحيانًا يحتجُّ عليك بكلام أصحاب هذه المعجمات أنفسِهم في غير مظنَّة المادة!
• وقسم لا يعتدُّ بهذه المعجمات ولا يعبأ بها، ويقول لك: عدم الورود فيها ليس بحُجَّة.
وكثيرًا ما نقول: إنَّ خيرَ الأمور الوسط، والصواب في هذه المسألة أيضًا هو الوسط، ولكنَّك نادرًا ما تجدُ مَن يذهب إلى هذا الوسط، وخاصة في هذه المسألة، وأيضًا من المشكلات الكبيرة أنَّ الباحث إذا لم يعرفْ قدرَ الكتاب الذي يرجع إليه، ولم يعرف كيف يضعه موضعه بين كُتب الفنِّ، فإنَّه يقع في كثير من الإشكالات والأخطاء الكبيرة.
وانظر إلى أشهر المعجمات التي يعتمد عليها الناس حاليًّا، وهو "لسان العرب"، لا أظنُّ أحدًا منَّا يجهلُ هذا المعجم؛ فهو عُمْدة المصنِّفين والباحثين، ومع ذلك فأكاد أجزمُ أنَّ القِلَّة القليلة من هؤلاء الباحثين قرأتْ مقدمة المؤلِّف، فضلاً عن التمرُّس بمنهج الكتاب، ومعرفة قِيمتِه.
وأكاد أستلقي من الضحك حينما أقرأ لبعض الباحثين قوله:
• "ويذهب ابن منظور في "لسان العرب" إلى كذا وكذا".
• "ويحرم ابن منظور على الناس أنْ يقولوا كذا وكذا، مع أنه قد قاله في كذا وكذا".
• "ورجَّح ابن منظور أنْ يكون كذا وكذا".
وإذا كان لا يظهر لك سببُ الضحك من الأقوال السابقة، فسأضرب لك مثالاً من العلوم الأخرى:
• تخيَّل مثلاً أنَّك قرأتَ لأحدِ الباحثين المعاصرين في بحثٍ له عن الإمام البخاري قوله: "ويذهب البخاري في "صحيحه" إلى أنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ".
• أو تقرأ مثلاً: "ويرى مسلم في مقدمة "صحيحه" أنَّ مَن ينقل حديثًا ليس متيقِّنًا من صحته، فهو كاذبٌ".
• أو تقرأ مثلاً: "ويرى الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" أنَّ النيَّة ركنٌ من أركان الوضوء".
• أو تقرأ مثلاً: "ويرى السُّيوطي في "تدريب الراوي" أنَّ الحديث الموضوع لا يُحتجُّ به".
لماذا تضحك من هذه العبارات؟ لأنك تعرف هذه العلوم، وتعرف أنَّ هذه الكلمات لا تصدرُ ممن درس هذه العلوم دراسة صحيحة؛ وإنما هي جاريةٌ على طريقة المستشرقين الذين لا يكادون يفقهون شيئًا.
إن الذي يكثِرُ النظرَ في "لسان العرب" مثلاً تُواجهه أحيانًا بعضُ التناقضات؛ فتارة تراه يجيز شيئًا، وتارة يمنع هذا الشيء بعينه؛ بل أحيانًا يكون بين هذين الموضعين المتعارضين عدة أسْطر، كما في قولهم: "عيرته بكذا".
والإشكال في صنيع ابن منظور أنه عندما جمع بين الكتب الخمسة التي ذكرها في مقدمة كتابه لم يميِّز بينها إلا قليلاً، فينقل كلام الجوهري، وكلام ابن سيده، وكلام أبي منصور الأزهري دون أن يبيِّنَ أنَّ هذا من قول فلان، وهذا من قول فلان.
وقد طعن الإمام أبو عمرو بن الصلاح في الجوهري صاحب "الصحاح"، وقال: إن ما تفرَّد به لا يُقبَل؟
وبغضِّ النظر عن صحة هذا الكلام، فالمراد التنبيه على اختلاف درجة الثِّقة والتثبُّت في عبارات "لسان العرب"، فليس النقل عن "صحاح الجوهري" مُساويًا للنقل عن "تهذيب الأزهري"، كما أنَّ النقل عن اللحياني وكراع ليس مساويًا للنقل عن الأصمعي وأبي عمرو.
وهذا أمرٌ معهود عند الباحثين في باقي العلوم؛ أنهم يعرفون مقادير أهلِ العلم، فلا تكاد تَرى طالبًا لعلم الحديث إلا ويعرف أنَّ الصحيحين مقدَّمان على غيرهما، وأن تصحيحَ "الحاكم" مثلاً لا يُعتمد عليه، وأنَّ توثيقَ "ابن حِبَّان" مثلاً فيه تساهُلٌ، وهكذا.
أما في علوم اللغة، فهذا أمرٌ يندرُ أن تجدَه عندهم، لا أقول عند صغار الطلاب؛ بل عند كثيرٍ من كبار أهل العلم، وتضحك حينما تقرأ لبعضهم مثلاً: "ويرى الخليل والجوهري، وأحمد رضا في "متن اللغة"، و"إدوارد لين" في "مدِّ القاموس" كذا وكذا".
سبحان الله! شتَّان بين مشرِّقٍ ومغرِّبٍ، صِرْنا نحيلُ عند البحث في لغتنا إلى مُعجم وضعه مستشرق!
إن الدارسين للغة العرب اليوم نوعان:
النوع الأول: الذين يدرسونها كشيءٍ تكميلي لدراساتهم الشرعيَّة.
النوع الثاني: الذين يدرسونها للتخصُّص في فروعها.
ومع الأسف أقول: ليس شيء من هذين النوعين يكفي الأُمة؛ لأن النوع الثاني تجده عادة غارقًا في الاصطلاحات والإشكالات التي لا يَنْبَنِي عليها عمل، ولا يهتمُّ بالقضايا الأساسية إلا نادرًا، والنوع الأول لا يستطيع أن يستفيدَ الفائدةَ المرجوَّة من كتب اللغة؛ لأنه لم يتمرَّسْ فيها، ولم يعرفْ مقاديرَ أهلِها.
كان العرب قديمًا يتكلمون على سجيتهم، ويعرفون الصواب من الخطأ، ويفهمون الكلام العربي كما ينبغي، وحتى إن كان الكلام محتملاً تجدهم يعرفون الاحتمال الراجح من المرجوح.
ثم دخل الأعاجم في الإسلام، وفسدت الألْسِنة، فوضع العلماء علم النحو، وبيَّنوا ما له من أهميَّة، ثم وضعوا علم الصرف، وبيَّنوا ما له من أهمية، وهكذا استمرَّ الأمر حتى عصرنا هذا، في كلِّ يومٍ تجدُ انحدارًا أو خطأ في الفَهْم يجعل أهل العلم يزيدون في العلوم قواعد وضوابط؛ حتى يعصموا الطالب من الخطأ في الفَهم، وكان من نتيجة هذا أن كَثُرَتِ العلوم كثرةً عظيمة، جعلت الطالبَ لا يعرف ماذا يطلب ولا متى يطلب، فكان أن أدَّى بهم ذلك إلى الاقتصار على المختصرات في كلِّ فنٍّ، ولا يدرون أنها مفاتيح فقط لهذه العلوم، وليست هي كلَّ العلم ولا جُلَّه.
إن المجامع اللغوية - مع الأسف - تقتصر على ما يتعلَّق باللغة العربية؛ من حيث كونُها وسيلةً للتخاطب بين الناس، وهذه وظيفة اللغات في جميع أنحاء العالم، ولكنَّ لغتنا العربية لها خصِّيصة ليست لغيرها، ألا وهي أنها لغة هذا الدين، لغة القرآن الكريم، لغة الشريعة المباركة، كما قال "الشاطبي" في "الموافقات": إن هذه الشريعة المباركة عربيَّة.
وقد تعجَّب كثيرٌ من الدارسين من قول الشاطبي باشتراط الوصول إلى درجة الاجتهاد في لغة العرب لمن أراد الاجتهاد في علوم الشريعة، وظنوا أنَّ هذا القول قد انفرد به الشاطبي مخالفًا أهل العلم.
وهذا القول فيه نظر؛ لأن فَهْم هذه الشريعة لا يمكن أن يكون إلا بفَهْم هذه اللغة، وفَهْم هذه اللغة إما أن يكون بالطبيعة والسليقة، وهو شأن العرب الأوائل من الصحابة والتابعين، وإما أن يكون بالمعالجة والتكلُّف، وهو شأن مَن جاء بعدهم.
وهذه المعالجة والتكلُّف إن لم تعطِ المرءَ القدرة على فَهْم الشريعة كهؤلاء السابقين، فلا تكفي حينئذٍ ليكون المرءُ مجتهدًا، وإنما يكون عنده من العلم بمقدار ما عنده من قدرة على هذا الفَهْم، وهذه القدرة تكون بمقدار ما عنده من العلم بهذه اللغة المباركة، وهذا بالضبط ما قاله الشاطبي في "موافقاته"، فلم يأتِ ببدع من القول، ولا بمذهب جديدٍ كما ظنَّ هؤلاء.
وقد نظرتُ في واقعنا اليوم، وما يدرسه طلاب العلم في المجامع العلمية والمدارس ونحوها، فوجدتُهم قد دخلوا في دراسة أكثر العلوم المهمَّة إلا هذا العلم، ألا وهو علم المعجمات.
فأقصى ما تجده عندهم أن يدرسوا كيفيَّة البحث في المعجم، ورد الكلمة إلى جذرها؛ لتسهيل الوصول إليها في المعجم، وليست هذه بالمشكلة العويصة.
فهَبْ أنَّني وصلتُ إلى المادة المطلوبة، فماذا أفعل بعد ذلك؟ كيف أفهمُ الكلام المكتوب؟ كيف أخْرُجُ بنتيجة موثوقة؟ كيف أكون على يقين من أنني فَهِمْتُ الكلام كما ينبغي؟
ولكي نحقِّق هذا الأمرَ ينبغي أن نعرفَ مقادير هذه المعجمات، ومقادير أهل العلم الذين صنفوا الكتب في هذه اللغة المباركة، ومعاني الاصطلاحات التي يستعملونها، والاختلاف بينهم في هذه الاصطلاحات، وماذا نفعل عندما نجد التعارض في كلامهم، وكيف نفهم هذا الكلام كما ينبغي.
المعجمات العربية كثيرة، وهي أنواع، وقد صنف الأستاذ "أحمد الشرقاوي إقبال" كتابه "معجم المعاجم" الذي جمع فيه ما يَقْرُب من ألف وخمسمائة كتاب نحلها اسمًا جامعًا هو المعجمات، وهو تجوَّز في التعبير؛ لأن كثيرًا منها لا يُسمَّى معجمًا في العُرف أو الاصطلاح.
والمعجمات منها القديم ومنها الحديث، ومنها المطوَّل ومنها المختصر، ومنها المدقق المحقق، ومنها الجامع المقمش.
ومن المعجمات المشهورة المختصرة "مختار الصحاح"؛ لأبي بكر بن عبدالقادر الرازي، و"المصباح المنير"؛ لأبي العباس الفيومي.
ومن المعجمات المشهورة المطوَّلة: "تهذيب اللغة"؛ لأبي منصور الأزهري، و"المُحْكَم"؛ لأبي الحسن ابن سيده الأندلسي، وقد شكا ابن سيده في مقدمة كتابه "المُحْكَم"؛ مما يجده من قصور وضَعف وخطأ في كتب اللغة، وأنه لم يقف على كتاب محرَّر فيها، وهو الذي مات في القرن الخامس الهجري!
يجب على طالب العلم أن يفرِّقَ بين هذه المعجمات ويعرفَ مقاديرها، ويعرفَ الناقل من المؤسِّس، ويعرفَ السامع عن العرب من الراوي عن غيره، ويعرفَ الثِّقة من المقمش.
ومن أهم ما يجب على طالب العلم أن يعرف خطأ المعجمات المعاصرة وآفاتها، فإن الملاحظ في كتب أهل العلم في جميع الفنون، أنَّك كلما نزلت إلى المتأخرين، كان الخطأ والزلل في كلامهم أكثر، والبُعد عن وجه الحقِّ أوضح، وإذا فَهِمَ طالب العلم هذا الأمر، واستحضر محل هذا العالِم من العلم أو ذاك المؤلِّف، وزمن التأليف في تاريخ هذا الفنِّ، انحلَّت له معضلاتٌ كثيرة، ولاحَ له ما كان عنه غائبًا.
وإغفال هذه المسألة يسبِّبُ إشكالات كثيرة لطالب العلم، تجعله يتخبَّط في كثير من المسائل، ويتوه في كثير من المعضِلات، فلا يفرِّق بين متقدِّمٍ ومتأخِّرٍ، ولا بين ناقل ومنشئ، ولا بين مجتهدٍ ومقلِّد، ولا بين موثوق ومنكر