الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية، لكنها في اللغة العربية أكثر ثباتًا ووضوحًا؛ لأن اللغة العربية من خصائصها الأصيلة الميل إلى الإيجاز والاختصار، والحذف يعد أحد نوعي الإيجاز وهما: القصر والحذف، وقد نفرت العرب مما هو ثقيل في لسانها، ومالت إلى ما هو خفيف.
تعريف الحذف:
الحذف في اللغة: القطع والإسقاط؛ جاء في الصحاح: "حَذْفُ الشيءِ: إسقاطُه. يقال: حَذَفْتُ من شَعْري ومن ذَنَبِ الدابَة، أي أخذت... وحَذَفْتُ رأسَه بالسيف، إذا ضربته فقطعتَ منه قطعةً"[1]. وفي لسان العرب: "حذَفَ الشيءَ يَحْذِفُه حَذْفاً قَطَعَه من طَرَفه والحَجَّامُ يَحْذِفُ الشعْر من ذلك... والحَذْفُ الرَّمْيُ عن جانِبٍ والضرْبُ"[2].
لقد عني القدماء - من نحاة وبلاغيين - بدراسة هذه الظاهرة، لكن بعضهم خلط بين الحذف والإضمار؛ ولذلك قال أبو حيان[3]: "وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذفُ إضماراً"[4].
وقال الشهاب الخفاجي[5] في حاشيته على تفسير البيضاوي[6]: "وقد يستعمل كلٌّ منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء".
لكن بعضهم تنبه إلى ضرورة التفريق بين الحذف والإضمار؛ ومن ذلك الفارسي حيث يقول: "وقد يحذف حرفُ الجر، فيصل الفعلُ إلى الاسم المحلوف به وذلك نحو: اللهَ لأفعلنَّ، وربما أُضمِر حرفُ الجر، فقيل: اللهِ لأفعلنَّ".
بل ونجد ابن مضاء القرطبي[7] ينتقد هذا الخلط بين المصطلحين واستعمالهما بمعنى واحد، ويفرق بينهما قائلاً: "الفاعل يضمر ولا يحذف"[8]، وذلك حيثما أمكن تقديره بضمير مستتر فهم يقصدون بالمضمر ما لا بد منه، وبالمحذوف ما يمكن الاستغناء عنه.
ويذكر البلاغيون ضرورة تقدير المحذوف؛ حتى لا يُحمل الكلام على ظاهره، وحتى يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بالحذف راجع إلى الكلام نفسه، لا إلى غرض المتكلم[9].
قال عبدالقاهر الجرجاني[10]: "هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر شبيه بالسحر؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن"[11].
أسباب الحذف:
هي أسباب حاول بها النُّحاة تفسير الظاهرة في مواضعها وأنواعها المختلفة، وبعض هذه الأسباب قد لا يطَّرد في كل موضع، وبعضها يعلل الحذف لأكثر من سبب، ومواضع أخرى لا يُعَلَّلُ الحذف إلا بسببٍ واحد، ومن أسباب الحذف:
1- كثرة الاستعمال:
هذا التعليل كثير عند النحاة، وهو أكثر الأسباب التي يفسرون بها الظاهرة، ومن أمثلة ذلك: حذف خبر لا النافية للجنس كثيرًا مثل: لا إله إلا الله، لا ريب، لا شك، لا مفر، لاسيما. ومثل الأقوال التي كثر استعمالها؛ كقولنا: الجار قبل الدار. أي: تخير الجار قبل الدار. وقولنا: بسم الله. أي: بدأت بسم الله.
2- طول الكلام:
وذلك عندما تطول التراكيب؛ فيقع الحذف تخفيفًا من الثقل؛ كجملة الصلة التي طالت، وأسلوب الشرط، وأسلوب القسم؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45]، فالجواب لم يُذكر، وتقديره: "أعرضوا"؛ بدليل سياق الآية التالية لها.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، التقدير: لكان هذا القرآن.
3- الضرورة الشعرية: ومن أهم الضرائر الشعرية القائمة على الحذف:
أ- حذف حرف متحرك أو أكثر من آخر الكلمة:
مثل قول لبيد: دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا
الأصل: المَنَازل.
ب- حذف نون المثنى وجمع المذكر السالم؛ ومن ذلك قول امرئ القيس:
لها مَتْنَتَانِ خَظَاتا كَمَا أَكَبَّ عَلَى ساعِدَيْهِ النَّمِرْ
الأصل: خَظَاتان.
ج- حذف النون الساكنة أو التنوين من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول العباس بن مرداس السلمي:
فما كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ يَفُوقانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَعِ
الأصل: مرداسًا.
د- حذف حرف المد أو ما يشبهه من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول الأعشى:
وأَخُو الغَوَانِ متى يَشأْ يَصْرِمْنَهُ ويَعُدْنَ أَعْداءً بُعَيْدَ ودادِ
الأصل: الغَوَانِي.
هـ- حذف إشباع الحركة أو حذف الحركة؛ ومن ذلك قول مالك بن خريم الهمداني:
فإِنْ يَكُ غَثَّاً أَوْ سَميناً فإنني سأَجْعَلُ عِينيهِ لِنَفْسِهِ مَقْنَعَا
الأصل إشباع الهاء في كلمة نفسه.
و- حذف حرف أو حركة من داخل الكلمة؛ ومن ذلك قول ابنُ الزِّبَعرَى:
حينَ ألْقَتْ بقُباءٍ بَرْكَها واسْتَحَرَّ القَتْلُ في عَبدِ الأشَلْ
يريد: عبد الأشهل.
ز- الاجتزاء؛ وهو حذف معظم الكلمة؛ ومن ذلك قول حكيم بن معية التميمي:
بالخَيْرِ خَيْراتٍ وإِنْ شَرًّا فَ ولا أُرِيدُ الشرَّ إِلا أَنْ تَ
أي: إن شرًّا فَشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
ح- حذف حرف من أحرف المعاني؛ ومن ذلك قول حسّان بن ثابت:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يشكرُها والشَّرُّ بالشرِّ عندَ الله مِثْلانِ
أي فالله يشكرها، حذفت الفاء الواجب اقترانها بجواب الشرط؛ حيث إن جواب الشرط جملة اسمية.
4- الحذف للإعراب:
مثل الحذف في حالة الجزم ومن ذلك حذف الحركة نحو: (لم أكتبْ). وحذف الحرف؛ مثل حذف النون من الأفعال الخمسة عند النصب أو الجزم نحو: (لم يلعبوا). وحذف لام الفعل الناقص في حالة الجزم؛ نحو قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} [القصص:88].
5- الحذف للتركيب:
فنجد حذف التنوين في التركيب الإضافي؛ نحو: (شاهدت طالبَ العلم) بدلاً من (طالبًا)، أو حذف النون؛ نحو: (مسلمو الهند متعاونون) بدلاً من (مسلمون).
6- الحذف لأسباب قياسية صرفية أو صوتية؛ وهي:
أ- التقاء الساكنين:
إذا التقى ساكنان في كلمة واحدة أو كلمتين، وجب التخلص من التقائهما بحذف أولهما أو تحريكه؛ ومن ذلك حذف لام الفعل الناقص عند الاتصال بواو الجماعة مثل: يسعون، وحذف عين الفعل الأجوف في حالة جزمه مثل: (لم يَصُمْ).
ب- توالي الأمثال:
ومن مظاهره: التقاء نون الرفع من الأفعال الخمسة مع نون التوكيد؛ حيث تحذف نون الرفع وتبقى نون التوكيد.
ج- حذف حروف العلة استثقالاً:
الفعل المثال الذي فاؤه واو تحذف في المضارع استثقالاً؛ نحو: (وقف - يقف) (وعد - يعد)، بدلاً من (يَوْقَفُ) و (يَوْعَدُ).
د- حذف الهمزة استثقالاً:
مثل همزة الفعل (رأى) تحذف في المضارع فيقال: (يرى) بدلاً من (يرأى).
هـ- الحذف للوقف:
ويكون في النطق لا الكتابة؛ مثل حذف الضمة والكسرة المنونتين عند الوقوف؛ نحو: (هذا زيد) و(مررت بزيد)؛ فننطق بالدال من كلمة (زيد) ساكنة.
و- صيغ الجمع:
فتحذف تاء التأنيث في الجمع بالألف والتاء؛ فنقول: (ورقات، عائلات، سرقات)، جمعًا لـ (ورقة، عائلة، سرقة).
ز- صيغ التصغير:
إذا صغرت (السَّفَرْجلة) كانت لك أوجه أحدها أن تقول (سُفَيْرِجَة) فتحذف اللام في التصغير وإن شئت قلتَ (سُفَيْرِلة) فتحذف الجيمَ[12].
وكذلك (عَنْدَلِيب) تصغر على (عَنَادِل) و (عَنَادِب).
ح- الحذف للنسب:
مثل حذف تاء التأنيث؛ فنقول في النسب إلى فاطمة: (فاطميّ)، وحذف بعض الحروف مثل (جُهَنِيّ) في النسب إلى جهينة، وحذف عجز الجملة المنسوب إليها وحذف عجز المركب المزجي، فتقول في تأبط شرًّا: "تأبطيّ"، وفي بعلبك "بعليّ".
أما المركب الإضافي، فإن كان صدره ابنا، أو كان معرفًا بعجزه، حُذِف صدره، وألحق عجزه ياء النسب، فتقول في ابن الزبير: "زبيريّ" وفي أبى بكر: " بكرىّ".
ط – الحذف للترخيم:
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفاً، من خصائص المنادى لا يجوز في غيره إلا لضرورة الشعر؛ كقولنا (يا سُعَا) في ترخيم (سُعَاد)[13].
7- الحذف لأسباب قياسية تركيبة:
أي في التركيب النحوي؛ حيث تُحذف كلمة أو جملة أو أكثر، ولابد من دليل حالي أو مقالي يدل على المحذوف؛ مثل حذف المبتدأ، وحذف الخبر،،، وغير ذلك.
ومن ذلك قولنا: (لولا الله ما اهتدينا)، التقدير: (لولا الله موجود ما اهتدينا)، وقولنا: (في البيت). لمن يسأل: (أين زيد؟).
والحذف لابد له من قرينة مُصاحِبة تَدُلُّ على المحذوف، وتكون هذه القرينة حالية أو عقلية أو لفظية، وقد وضع النُّحاة مجموعة من الشروط للحذف هي:
1- وجود الدليل على المحذوف إن كان المحذوف عمدة، أما إن كان فضلة فالشرط أن لا يكون في حذفه ضرر.
2- ألا يكون المحذوف كالجزء؛ فلا يحذف الفاعل، ولا نائبه ولا ما يشبهه.
3- ألا يكون مؤكَّدًا، فلا يُحذف العائد في نحو قولك: الذي رأيته نفسَه زيد.
4- ألا يكون عوضًا عن شيء محذوف؛ فلا تحذف (ما) في أما أنت منطلقاً ولا التاء من نحو : (عِدَةٌ وزِنَةٌ).
5- ألا يكون المحذوف عاملاً ضعيفًا؛ فلا يُحذف الجار والجازم والناصب للفعل، إلا في مواضع قويت فيها الدلالة، وكثر استعمالها ولا يمكن القياس عليها.
6- ألا يؤدي الحذف إلى اختصار المختصر؛ فلا يُحذف اسم الفعل دون معموله؛ لأنه اختصار للفعل.
7- ألا يؤدي الحذف إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه؛ فلا يحذف المفعول - وهو الهاء - من ضربني وضربته زيد؛ لئلا يتسلط على زيد ثم يقطع عنه برفعه للفعل الأول.
8- ألا يؤدي الحذف إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي؛ فلا يحذف الضمير في: زيد ضربته؛ لأنه يؤدي إلى إعمال المبتدأ وإهمال الفعل مع أنه أقوى.
أما أغراض الحذف: فنقصد بها الأهداف المقصودة للناطقين عندما يحذفون، فما ذكرناه من أسباب هو العِلل الظاهرة التي يقع الحذف عند وجودها.. أما الأغراض فنعني بها الأهداف البعيدة التي يقصدها الناطق حين يجنح إلى الحذف.
وكما أن أسباب الحذف عني بذكرها وتفصيل القول فيها النحاة، نجد أن الأغراض تعرض لها البلاغيون، وفَصَّلُوا القول فيها؛ فابن هشام[14] – مثلا – يرى أن الأغراض يتناولها البيانيون والمفسرون، وأنها ليست من عمل النحاة[15]، وأغراض الحذف هي:
1- التخفيف:
كثير من الأسباب الظاهرة للحذف غرضُها التخفيف، فكثرة الاستعمال تستلزم الحذف؛ رغبةً في التخفيف؛ كالتقاء الساكنين، لصعوبة النطق بهما، وأيضًا نجد التخفيف في نزع الخافض، وحذف الهمزة، وتوالي الأمثال.
يقول سيبويه[16]: "وقولهم ليس أحد أي ليس هنا أحد، فكل ذلك حُذِف تخفيفًا واستغناءً بعلم المخاطَب بما يعني"[17].
2- الإيجاز واختصار الكلام:
كثير من أنواع الحذف ناتجة عن رغبة المتكلم في الاختصار والإيجاز؛ فعند بناء الفعل للمجهول يُحذف الفاعل، ويذكر البلاغيون أغراضًا متعددة لذلك، منها الاختصار والإيجاز، ومن أمثلة ذلك ما يقع في القصص القرآني من حذف ما تدل عليه القرائن ويدل السياق عليه، ومن ذلك قوله تعالى: {... أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا...} [يوسف: 45، 46]. فالتقدير: فأرسلوه فذهب إليه وقال له.
3- الاتساع:
وهو نوع من الحذف للإيجاز والاختصار، لكنه ينتج عنه نوع من المجاز بسبب نقل الكلمة من حكم كان لها إلى حكم ليس بحقيقة فيها، ومثال ذلك حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي: بر من اتقى.
ويسميه البعض التوسع، يرى سيبويه أن الحذف للتوسع في اللغة أكثر من أن يحصى[18].
4- التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام:
مثل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، الجواب حُذِف؛ لأن وصف ما يجدونه لا يَتَنَاهى؛ فحُذِف تفخيمًا وإعظامًا له؛ حيث إن الكلام يضيق عن وصفه.
5- صيانة المحذوف عن الذكر في مقام معين تشريفا له:
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيء، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ))[19]، فالفعل ابتلي أسند إلى نائب الفاعل وحذف فاعله، وهو لفظ الجلالة صيانةً له عن ذكره في ذلك المقام، الذي سمى فيه الذنوب باسم (القاذورات).
6- تحقير شأن المحذوف:
ونجد ذلك في كتب السِّيَر، عندما يؤذى عُظَماء الإسلام، يُقال أوذي فُلان؛ ومن ذلك قوله تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فلم يذكر المبتدأ تحقيرًا لشأنهم.
7- قصد البيان بعد الإبهام:
ويرى البلاغيون أن ذلك يتحقق في فعل المشيئة إذا وقع شرطًا كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَهَدَاكُم أَجْمَعِينَ}؛ فمفعول فعل المشيئة محذوف تقديره: ولو شاء الله هدايتكُم لهداكُم. وسر حذفه هو البيان بعد الإبهام؛ لأنه لما قيل لو شاء علم أن هناك شيئًا تعلقت به المشيئة لكنه مبهم، فلما جيء بجواب الشرط وضح ذلك الشيء وعلم أنه الهداية وإذن فكل من الشرط والجواب دال على المفعول غير أن الشرط دال عليه إجمالاً والجواب دال عليه تفصيلاً.
والبيان بعد الإبهام، أو التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس؛ لأن السامع لا يظفر بمعرفة المحذوف إلا بعد تطلع ولهفة.
8- قصد الإبهام:
لا يتعلق مراد المتكلم بتعيين المحذوف؛ فيَتَعَمَّد الحذف حتى لا ينصرف ذهن المستمع له، لأن ذكره لا يؤثر في الكلام أو الحكم، ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُم}، فالمهم حدث الإحصار نفسه ولا يهم ذكر فاعله، بل إن ذكره قد يشغل المستمع عن الحدث وهو الأساس هنا، وربما يظن المستمع أن الحكم خاص به بالفاعل إذا ذكر، وقوله: {إِذَا حُيِّيتُم}، فلا يهم فاعل التحية المهم حدث التحية نفسه، وقوله: {إِذَا قِيلَ لَكُم تَفَسَّحُوا}، لا يهم من القائل وذكره يشغل القارئ وربما يظن أن الحكم خاص به.
9- الجهل بالمحذوف:
ومن ذلك قولنا: (قُتِل فُلان)، و(سرقت الدار)، عندما لا نعرف القاتل والسارق.
10- العلم الواضح بالمحذوف:
مثل قوله تعالى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} و{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}؛ بُني الفعلان (أُعِدَّتْ) و(كُتِبَ) للمجهول للعلم بالفاعل وهو الله عز وجل، {عَالِمُ الْغَيْبِ} المبتدأ محذوف للعلم به، والتقدير: الله عالم الغيب.
وقول الشاعر:
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيْقَةً مَحْمُودَةً فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ
أسند الفعل رزقت إلى نائب الفاعل؛ فالرازق هو الله عز وجل، ولا داعي لذكره؛ لأنه معوم للمستمع، ولن ينصرف الذهن إلى غيره.
11- الخوف منه أو عليه:
قد يحذف الفاعل ويُبنى الفعل للمجهول حين يَخشى المُتكلِّم أن يناله أذى من الفاعل، وحين يخشى على الفاعل من الأذى.
12- الإشعار باللهفة وأن الزمن يتقاصر عن ذكر المحذوف:
وهذا غرض لباب الإغراء والتحذير نحو قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}، والتقدير: ذروا ناقة الله والزموا سقياها.
13- رعاية الفاصلة والمحافظة على السجع:
وهو غرض لفظي؛ حيث تحذف حرف أو أكثر لمراعاة الفاصلة؛ مثل قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، فمفعول الفعل قلى وهو ضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم، محذوف لرعاية الفاصلة والتوافق الصوتي مع أواخر الآيات قبلها وبعدها.
ومن براعة الإعجاز البلاغي في القرآن أننا نجد الحذف هنا يحقق – إلى جانب ذلك – غرضًا معنويًّا، فالآية تنفي التوديع والقلي أي الهجر والبغض، فالله عز وجل يطمئن نبيه بعد فترة انقطاع الوحي أنه لم يهجره أو يبغضه كما زعم ذلك أعداؤه من الكفار حين حدثت تلك الفترة.
ولما كان هناك فارق دلالي بين الهجر والبغض، (إذ الهجر لا يكون إلا للحبيب أما البغض فهو للخصوم والأعداء) جاءت الآية الكريمة مراعية ذلك حيث ذكرت ضميره - صلى الله عليه وسلم - في جانب نفي الهجر (ما ودعك) ولم تذكره في جانب نفي البغض (وما قلى) إعلاءً لشأنه عليه السلام أن يذكر ضميره في جانب المقت والكره حتى لو كان هذا الجانب منفيًّا.
14- المحافظة على الوزن في الشعر:
وهو – أيضا – غرض لفظي مثل قول ضابِئ بن الحارِث البُرْجُمِيّ:
ومَنْ يَكُ أمْسَى في المَدِينةِ رَحْلُهُ فإنِّي، وقَيَّارٌ، بِها لَغَرِيبُ
أي: فإني لغريب وقيار غريب، (وقيَّار اسم لفرس الشاعر)، فحذف المسند إلى قيار حتى لا ينكسر وزن البيت، ويرى البلاغيون أن في ذلك الحذف فائدة معنوية؛ حيث إن الموقف هنا موقف شكوى وتحسر؛ فكان مناسبًا له الحذف والاختصار لا الذكر والتطويل.
لكننا نجد فائدة أخرى: فالشاعر هنا يتحسر على مقامه بالمدينة بعيدًا عن الأهل والوطن، فهو ينظر حوله فيجد الناس جميعًا هانئين بالمقام سعداء باجتماع الشمل أما هو فقد اشتدت به تباريح النوى والتهب وجدانه بالشعور بالغربة وأحس بأنه ليس ثمة من يشاركه شعوره أو يحس بمثل إحساسه سوى هذا الحيوان الأعجم (قَيَّار) الذي ابتلي بالغربة معه والمقام في غير داره، فحذف المسند (غريب) هنا للإيحاء بتوحد الإحساس والمشاركة الوجدانية التي يتخيلها الشاعر بينه وبين فرسه، فليست هنا غربة للشاعر وغربة لفرسه، ولكنها غربة واحدة عانيا مرارتها معًا فوحدت بينهما في الشعور والشكوى والألم.
وينقسم الحذف إلى نوعين رئيسين: أولهما يتصل بالصيغ، والنوع الآخر يتصل بالتراكيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصحاح في اللغة 1 / 120.
[2] لسان العرب: 9 / 40.
[3] أبو حيّان الأندلسي (654 - 745هـ، 1256 - 1344م)، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، الإمام أثير الدين الأندلسي الغرناطي، نحويّ عصره ولغويّه ومفسّره ومحدّثه ومقرؤه ومؤرخه وأديبه، ولد في حاضرة غرناطة. وأخذ القراءات عن أبي جعفر بن الطباع، والعربية عن أبي الحسن الأبذي وجماعة. وتقدم في النحو، وأقرأ في حياة شيوخه بالمغرب، وسمع الحديث بالأندلس وأفريقية والإسكندرية ومصر والحجاز من نحو خمسين وأربعمائة شيخ، من تصانيفه: "البحر المحيط" في التفسير، ومختصره "النهر"؛ و"التذييل والتكميل في شرح التسهيل"، و"ارتشاف الضَّرَب"، وتُعَدّ هذه الكتب من أجمع الكتب وأحصاها في موضوعاتها.
[4] انظر البحر المحيط: 1/ 643.
[5] الشهاب الخفاجي (977 - 1069 هـ = 1569 - 1659 م)، أحمد بن محمد بن عمر، شهاب الدين الخفاجي المصري: قاضي القضاة وصاحب التصانيف في الأدب واللغة، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، واتصل بالسلطان مراد العثماني فولاه قضاء سلانيك، ثم قضاء مصر، ثم عزل عنها؛ فرحل إلى الشام وحلب وعاد إلى بلاد الروم؛ فنفي إلى مصر وولي قضاء يعيش منه فاستقر إلى أن توفي، من أشهر كتبه "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل" و "شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري" و "طراز المجالس".
[6] حاشيته على تفسير البيضاوي تسمى "عناية القاضي وكفاية الراضي"، وتقع في ثمانية مجلدات.
[7] ابن مضاء القرطبي (511 - 592 هـ = 1118 - 1196 م)، أحمد بن عبد الرحمن بن محمد، ابن مضاء، ابن عمير اللخمي القرطبي، أبو العباس: عالم بالعربية، له معرفة بالطب والهندسة والحساب، وله شعر، أصله من قرى شذونة Sidona ومولده بقرطبة، ووُلي القضاء بفاس وبجاية، ثم بمراكش سنة 578 هـ، وتوفي باشبيلية.
[8] انظر الرد على النحاة:130.
[9] انظر أسرار البلاغة 379/380.
[10] عبدالقاهر الجرجاني (400 - 471هـ، 1010 - 1078م)، أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار، وُلِدَ وتوفي في جرجان. تتلمذ على أبي الحسين بن عبدالوارث، ابن أخت أبي علي الفارسي، وكان يحكي عنه كثيرًا، لأنه لم يلق شيخًا مشهورًا في العربية غيره لعدم خروجه من جرجان في طلب العلم. ويُعد عبدالقاهر واحدًا من الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في مجال الدرس اللغوي والبلاغي، إذ تقف مؤلفاته شامخة حتى اليوم أمام أحدث الدراسات اللغوية، ويُعد كتابه "دلائل الإعجاز" قمة تلك المؤلفات؛ حيث توصل فيه إلى نظريته الشهيرة التي عُرفت باسم نظرية التعليق أو نظرية النظم، التي سبق بها عصره، ومازالت تبهر الباحثين المعاصرين، وتقف ندًّا قويًا لنظريات اللغويين الغربيين في العصر الحديث.
أراد عبدالقاهر بكتابه "دلائل الإعجاز" أن يرد على من كانوا يرجعون إعجاز القرآن إلى الألفاظ، ورفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى المفردات أو حتى معانيها؛ أو جريانها وسهولتها وعذوبتها وعدم ثقلها على الألسنة. كما رفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى الاستعارات أو المجازات أو الفواصل أو الإيجاز، وإنما رد إعجاز القرآن إلى حسن النظم. ومجمل نظريته أنه لا اعتداد بمعاني الكلمات المفردة إن لم تنتظم في سياق تركيبي، وهو ما يعرف بالنحو، فهو يرى أن الدلالة المعجمية معروفة لمعظم أهل اللغة ولكن دلالة اللفظة التي تكتسبها خلال نظمها في سياق تركيبي هي التي يسعى إليها مستخدم اللغة، لاختلاف دلالة اللفظة تبعًا للتركيب النحوي الذي تنتظم فيه، والمواضع المختلفة التي تحتلها في السياقات الناتجة عن أصل سياقي واحد.
تصدر عبدالقاهر مجالس جرجان يفيد الراحلين إليه والوافدين عليه. وقصده طلاب العلم من كُلِّ صوب، ومن تلامذته المشهورين الواردين إلى العراق والمتصدرين ببغداد على بن زيد الفصيحي، وأبوزكريا التبريزي، والإمام أبوعامر الفضل بن إسماعيل التميمي الجرجاني وأبو النصر أحمد بن محمد الشجري.
انتقل إلى عبدالقاهر علم السابقين فتأثر به، وظهر ذلك جليًا في مؤلفاته مثل : "المغني والمقتصد؛ الإيجاز"؛ "التكملة"؛ "التذكرة"؛ "المفتاح"؛ "الجمل"؛ "العوامل المائة"؛ "النحو"؛ "التخليص"؛ "العمدة في التصريف"؛ "كتاب شرح الفاتحة"؛ "إعجاز القرآن الصغير"؛ "إعجاز القرآن الكبير"؛ "الرسالة الشافية"؛ "دلائل الإعجاز"، "أسرار البلاغة".
يلاحظ المشتغلون بعلم اللغة أن عبدالقاهر قد سبق في دلائل الإعجاز الكثير من الباحثين الغربيين بعدّة قرون في عديد من الأفكار؛ فقد سبق الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في الإشارة إلى عملية الاتصال اللغوي، وسبق العالمين دي سوسير وأنطوان مييه في كثير من أصول التحليل اللغوي، وسبق العالم الألماني فنت في أصول مدرسته الرمزية، وسبق العالم الأمريكي تشومسكي في الكثير من أصول مدرسته التحويلية التوليدية.
[11] دلائل الإعجاز ج1/ص121
[12] انظر المخصص 4 / 263.
[13] انظر كتاب سيبويه 1 / 44.
[14] جمال الدين ابن هشام (708 - 761 هـ = 1309 - 1360 م)، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام: من أئمة العربية، مولده ووفاته بمصر. قال ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".
من تصانيفه: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" و "عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب" مجلدان، و "رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة" أربع مجلدات، و "الجامع الصغير" نحو، و " الجامع الكبير" نحو، و "شذور الذهب" و "قطر الندى" و "التذكرة" خمسة عشر جزءًا، و "التحصيل والتفصيل لكتاب التذييل" كبير، و "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" و "نزهة الطرف في علم الصرف" و "موقد الاذهان" في الألغاز النحوية.
[15] انظر مغني اللبيب 2/156- 170.
[16] سيبويه (148 - 180 هـ = 765 - 796 م)، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب بـ (سيبويه): إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المسمى " كتاب سيبويه" في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ورحل إلى بغداد، فناظر الكسائي، وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم، وعاد إلى الأهواز فتوفي بها، وقيل: وفاته وقبره بشيراز، وكانت في لسانه حبسة، توفي شابًّا. وفي مكان وفاته والسنة التي مات بها خلاف.
[17] انظر الكتاب ج2/ص346.
[18] انظر الكتاب ج1/ ص592.
[19] رواه الحاكم والبيهقي.