القصر .. من "البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها" د/ عبد الرحمن الميداني
1- تعريف القصر
القصر: يأتي في اللّغة بمعنى التّخصيص، يقال لغة: قَصَرَ الشَّيْءَ على كذا، إذا خصّصه به، ولم يجاوز به إلى غيره. ويُقالُ: قَصَر غلَّةَ بستانه على عياله، إذا جعلها خاصّةً لهم. وقَصَر الشيءَ على نفسه، إذا خصَّ نفسَه به، فلم يجعل لغيره منه شيئاً.
ويأتي الْقَصْر أيضاً بمعنى الحبْسِ، يُقال لغة: قَصَر نفسه على عبادة رَبّه، إذا حَبَسها على القيام بعبادة ربّه، وقَصَر جُنْدَهُ على ممارسة التدريب العسكريّ في القلعة، إذا حَبَسَهُمْ وألزَمَهُمْ بذلك فيها.
والقصر في اصطلاح علماء البلاغة: تخصيص شيءٍ بشيءٍ بعبارة كلاميّةٍ تدلُّ عليه، ويقال في تعريفه أيضاً: جعْلُ شيءٍ مقصوراً على شيءٍ آخر بواحدٍ من طُرُقٍ مخصوصة من طُرُق القول المفيد للقصر.
والمقصور عنه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون جميع ما سوى المقصور عليه، ويسمَّى عند البلاغيين "قصراً حقيقيّاً" مثل "لا إلَه إلاَّ الله" أي: لا يُوجَدُ في الوجود كُلّه معبودٌ بحق سوى الله عزَّ وجلَّ.
وهذا "القَصْر الحقيقيّ" إذا كان مضمونه مطابقاً للواقع سمّوه "حقيقيّاً تَحْقيقيّاً" أي صادقاً مطابقاً للواقع. وإذا كان غير مطابق للواقع، وإنما ذُكر عَلَى سبيل المبالغة والادّعاء المجازي سمَّوْهُ "حقيقيّاً ادّعائيّاً أو مجازيّاً" مثل قولهم: لا سيف إلاَّ ذو الفقار.
الوجه الثاني: أن يكون المقصور عنه شيئاً خاصّاً يُرادُ بالْقَصْر بيانُ عَدَم صحَّة ما تصوَّرَهُ بشأنه أو ادَّعاهُ المقصودُ بالكلام، أو إزالة شكّه وتردّده. إذا، الكلام كلُّه مُنْحَصِرٌ في دائرة خاصّة، ويسمَّى "قصراً إضافياً" أي: ليس قصراً حقيقيّاً عامّاً، وإنّما هو قَصْرٌ بالإِضافة إلى موضوع خاصٍّ يدور حول احتمالين أو أكثر من احتمالاتٍ محصورة بعَدَدٍ خاصّ، ويُسْتَدلُّ عليها بالقرائن، مثل: [وَمَا مَحمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل] لقد جاء هذا البيان لتصحيح تصوُّر الَّذِين يتوهَّمُونَ أنّ محمداً رسولٌ لاَ يموتُ كما يموت سائر الناس.
فالموضوع الخاصّ الذي يدور الكلام حوله هو كون محمّدٍ رسولاً مبرَّءاً من أن يكون عرضةً للموت، فجاء النصّ مبيّناً قَصْرَهُ علَى كونه رسولاً فقط، والمقصورُ عنه أمْرٌ خاصٌّ هو كونه لا يموت، لا سائر الصفات غير صفة كونه رسولاً؛ إذْ له صفات كثيرة لا حصر لها، وهي لا تدخل في المقصور عنه.
إذن: فالقصر في هذا المثال هو من قبيل"القصر الإِضافي".
(2) أقسام القصر بحسب أحوال المقصور والمقصور عليه
كُلٌّ من القصر الحقيقيّ والقصر الإِضافي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قصر موصوف على صفةٍ دون غيرها، ويكون قصراً حقيقاً وقصراً إضافياً.
القسم الثاني: قصر صفةٍ على موصوفٍ دون غيره، ويكون قصراً حقيقا وقصراً إضافياً.
وليس المقصود بالوصف في باب القصر النعتَ النحويَّ الذي يَتْبَعُ منعوتَه، بل هو كلُّ معنىً من المعاني يتّصف به موصوف ما، كالفعل يتصف به الفاعل باعتبار كونه فاعلاً، ويتصف به المفعول به باعتبار كونه مفعولاً به، كَالخبر يتَّصفُ به المبتدأ، وكالحال يتّصفُ به صاحبُ الحال، وكَفِعْلٍ مَا يتَّصفُ بكونه قد وقع في مكانٍ ما أو زمانٍ ما، وهكذا.
فقد يريد المتكلّم أن يَقْصُرَ مثلاً الفعلَ على الفاعل أو على المفعول به، أو يقصر الخبر مثلاً على المبتدأ، أو الحال مثلاً على صاحب الحال، وهكذا. وقد يريد المتكلّم أَنْ يقصر مثلاً الفاعل أو المفعول به على الفعل، أو المبتدأ مثلاً على الخبر، أو صاحب الحال على الحال، وهكذا.
الأمثلة:
* حينما نقول: "لا إلَه إلاَّ الله" فإنّنا نقصر وصف الإِلَهيّة الحق على موصوف هو الله وحده، هذا من قصر الصفة على الموصوف وهو قصر حقيقي.
* وحينما نقول: "ما لإِبليس من عمل في الناس إلاَّ الوسوسة والإِغواء" فإنَّنا نقصر عمل إبليس في الناس على صفتي الوسوسة والإِغواء. عمل إبليس في النّاس موصوف، والوسوسة والإِغواء صفة، "هذا من قصر الموصوف على الصفة". فإذا كان لا صفة لعمله في الناس بحسب الواقع إلاَّ الوسوسة والإِغواء كان قصراً حقيقيّاً، وإذا كان لعمله صفات أخرى غير الوسوسة والإِغواء كان قصراً إضافيّاً.
* وحينما نقول: "ليس في كلام الله باطلٌ بل كُلًُّه حقٌّ"- فإننا نقصر كلام الله في موضوع الحق والباطل على صفة كونه حقاً "هذا من قصر الموصوف على الصفة، وهو قصر إضافي".
* وحينما نقول: "علم قيام الساعة عند الله لا عند غيره"- فإننا نقصر علم قيام الساعة على الله وننفيه عن غيره. "هذا من قصر الصفة على الموصوف - وهو قصر حقيقيّ".
* وحينما نقول: "طاف الرسول حول الكعبة راكباً ناقته لا ماشياً"- فإننا نقصر طواف الرسول على حالة الركوب، دون المشي، "هذا من قصر الموصوف وهو الطواف على الصفة وهي كونه ركوباً. "وهو من القصر الإِضافي".
* وحينما نقول: "إنّما تُشْرِق الشَّمْسُ في النهار"- فإننا نَقْصُر شروق الشمس على كونه في النهار دون اللّيل. "هذا من قصر الموصوف وهو شروق الشمس على الصفة، وهي كونه في زمن النهار. وهو من القصر الإِضافي لأن الشروق له صفات أخرى كثيرة غير كونه في النهار، لكنّ الموضوع المتحدَّث عنه خاص بزمن الشروق".
(3) أركان الْقَصْر
ممّا سبق يتضح لدينا أنّ للقصر أربعة أركان:
الركن الأول: المقصور، صفةً كان أو موصوفاً.
الركن الثاني: المقصورُ عليه، صفةً كان أو موصوفاً.
الركن الثالث: المقصورُ عنه، وهو المنفيُّ المستَبْعَدُ بالْقَصر.
الركن الرابع: القولُ الْمَقصُورُ به.
(1) ففي كلمة التوحيد: "لا إلَه إلاَّ الله" وهي من القصر الحقيقي بصر صفةٍ على موصوف:
* المقصور: صفة الإِلَهيَّة للمعبود بحقّ.
* المقصور عليه قصراً حقيقاً: الله عزَّ وجلَّ الموصوف بأنَّه الإِلَه بحقّ.
* المقصورُ عنه: كلُّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ.
* القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "لا... إلاَّ...".
(2) وفي عبارة: [وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ] وهي من القصر الإِضافي بقصر موصوف على صفة:
* المقصور: "محمّد" الموصوف بأنه رسول.
* المقصور عليه قصراً إضافياً: صفة رسالته، المفهومة من "رسول".
* المقصور عنه قصراً إضافياً: صفة تبرُّئِه من أن يكون عرضةً للموت؛ لتصحيح تصوُّر متوهمي ذلك فيه، ظانين ظنّاً توهميّاً أنه لا يموت.
* القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "مَا... إلاَّ...".
(4) أقسام الْقَصْر بحسب أحوال من يوجّه له الكلام
من المعلوم أنّ الكلام يوجّه لمن يراد إعلامه بمضمونه وهو خالي الذّهن، أو يراد تصحيح تصوّره الذي هو مخطىء فيه بحسب اعتقاد مُوَجَّه القول، أو يُرادُ رَفْعُ شَكَّه وتردّده. ويستخلص من هذا أربعة أقسام في القصر:
القسم الأول: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لخالي الذّهن، أو إعلاناً عن اعتقاد المتكلم، أو اعترافه بمضمون ما يقول، أو تعبيره عما في نفسه لمجرّد الاعلام به، وأُسمِّيهِ "قصراً إعلامياً ابتدائياً".
وأشير إلى أنَّ البلاغيين لم يذكروا هذا القسم اكتفاءً بالمفاهيم العامّة المعروفة من توجيه الكلام.
القسم الثاني: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامُه بخطأِ تصوُّرِهِ مُشَارَكةَ غيرِ المقصور عليه في المقصور، ويُسمِّي البلاغيُّون هذا "قَصْرَ إفراد".
مثالُه: يعتقد المشرك أنّ الأربابَ التي يُؤْمِنُ بها تَخْلُق، كما أنَّ اللهَ يخلُق، فنقول لَهُ: "لاَ خَالِقَ إلاَّ الله". هذا قصر حقيقيٌّ، من قصر الصفة على الموصوف، ويُرادُ منه إفراد الله عزَّ وجلَّ بالخلْقِ، ونَفْيُ صفةِ الخلْقِ عن كلّ ما سواه ومن سواه من الشركاء؛ لتعريف المخالفِ بأنه مخطىء في تصوّره مشاركةَ غَيْرِ اللهِ للهِ في الخلْق، فهو "قَصْرُ إفراد".
القسم الثالث: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامه بخطأ تصوُّره نسْبَةَ المقصور إلى غَيْر المقصور عليه، ويُسَمِّي البلاغيون هذا "قَصْرَ قَلْب".
مثاله: يعتقد الملحد الذي يَجْحَدُ وجُود اللهِ عزَّ وجلَّ، وينْسُبُ أحداثَ الكون المتقنة العجيبة إلى التطوّر الذاتيّ، وإلى المصادفات، فنقول له: "لا مُحْدِثَ لأحداث الكون إلاَّ الله".
هذا قصرٌ حقيقيٌّ، من قصر الصفة التي هي إِحْداثُ أَحْداثٍ الكون، على موصوف واحدٍ هو الله عزَّ وجلَّ، ويُرادُ منه قلْبُ تصوُّر من يُوَجَّهُ له الخطاب، وتعريفُهُ بأنَّ ما يَنْسُبُه إلى التطوُّر الذّاتي وإلى المصادفات هو الله وحده، فهو "قَصْر قلْب".
القسم الرابع: أن يكون الكلام المشتملُ على القصر موجَّهاً لمن يُرادُ إزالَةُ تردُّدِه وشكِّهِ، هل المقصورُ منسوبٌ إلى المقصور عليه أوْ إلى غَيْره، ويُسمِّي البلاغيّون هذا "قَصْرَ تعْيين".
مثاله: يسأل متردّد شاكٌ: هل لفظ الكسوف يُسْتَعْمَل لاختفاء ونقصان ضوء الشمس أو نور القمر؟ فنقول له: "لا يُسْتَعْمَل لفظ الكسوف إلاَّ للشمس، أمّا ما يحدث للقمر فيُسَمَّى الْخُسُوف". هذا قصرٌ إضافي، لأنّ كلمة "الكسوف" تُسْتَعْمَلُ لمعانٍ أخرى غير ما يحدث للشمس، ومنها تنكيس الطَّرْف، وهو من قصر الصفة على الموصوف. وُيرَادُ منه إزالة شكِّ وتردّد من يوجّه له القول بتعيين المقصور عليه، فهو "قصْرُ تعيين".
ملاحظة:
يرى البلاغيّون أنّ "قَصْرَ الإِفراد، وقَصْرَ الْقَلْبِ، وقَصْر التَّعْيِين" أقسامُ للقصر الإِضافِيّ فقط، إلاَّ أنّي لست أرَى هذا، ففي الأمثلة الّتي أَوْرَدْتُها للأقسام، منها ما هو قصْرٌ حقيقيٌ، ومنها ما هُو قَصْرٌ إضافي.
فالأقسام الأربعة السابقة نستطيعُ أن نعتبرها أقساماً للقَصْر بوجْهٍ عَامّ، وحَالُ المقصود بتوجيه الكلام له هي التي تحدّد كون الْقَصْر قَصْرَ إعلامٍ ابتدائي، أو قَصْرَ إفراد، أو قصر قلب، أو قصر تعيين.
(5) طُرُقُ القصر
يُسْتفادُ القصر بعدة طرق:
الطريق الأول: أن يكون بعبارة تدلُّ عليه بمادَّتها اللّغويَّة صراحةً، مثل "دخولُ مكةَ مقصورٌ على المسلمين - غرفة القصر العليا خاصّةٌ بسيِّد القْصَر - سبق الفارس خالدٌ جميعَ الْمُتَسابقين - دخل الزوج إلى مخدع العروس وحده - سدُّ الصّين أعظم سَدٍّ في الأرْض وأطولُه - أبو حنيفة مُنْفَرِدٌ من بَيْنِ المجتهدين في باب الاعتماد على الرأي الثاقب".
الطريق الثاني: أَنْ يكون بدليلٍ خارجٍ عن النصّ، كدليل عقلي، أو دليل حِسِّي، أو دليل تجريبي، أو دليل من القرائن الذّهنيَّةِ أو الحاليّة، مثل "فلانٌ رئيسُ الجمهوريّة - اللهُ رَبُّ السّماوات والأرض وهو على كُلّّ شيءٍ قدير - تبثُّ الشَّمْس ضياءها على الأرض فَتُمِدُّها بالحرارة.
لاَ يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الأَذَى * حتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوانِبِهِ الدَّمُ
أَرُوِني أُمَّةً بَلَغَتْ مُنَاهَا * بَغَيْرِ الْعِلْمِ أَوْ حَدِّ الْيَمَانِيّ
لكِنَّ الْقَصْرَ بواحدٍ من هذين الطريقين لا يدخل في اهتمامات علماء البلاغة تفصيلاً وتقسيماً وشرحاً، إلاَّ أنّ القصر المستفاد بواحد منهما - فيما أرى - مشمولٌ بكلّ أحكام القصر وتفصيلاته من جهة المعنى، والسبب في أنَّ البلاغيين لم يوجّهوا لهما اهتماماتهم، أنّهما طريقان يتعذَّر حَصْر عناصرهما أو يَعْسُر.
واهتم البلاغيون بتحديد وشرح وتقسيم وتفصيل الطريقين الآتيين "الثالث والرابع" فهو القصر الاصطلاحي المدوّن عند علماء البلاغة، والذي وجهوا له عنايتهم وفيما يلي شرحهما.
الطريق الثالث: أن يكون القصر ببعص الأدوات التي تدلُّ عليه بالوضع اللّغوي، وهي: النفي والاستثناء - وكلمتا "إنَّما" و"أَنَّما" - والعطف بالحروف التالية "لا - بل - لكن".
أولاً: النفي والاستثناء
مثل: "لاَ إلَه إلاَّ الله - مَا مِنْ إلَه إلاَّ الله - ومَا كان لنفس أن تموت إلاَّ بإذن الله - وَإِنْ مِنْ شيءٍ إلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُه - فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُم لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهمْ إلاَّ قَلِيلاً - وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَة - قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لنا" ومثل إلاَّ في الاستثناء كلمة "غَيْر" ونحوها، ومثل النفي ما يدلُّ على معناهُ كالاستفهام.
ويكون المقصور بالنفي والاستثناء هو ما قبل الاستثناء صفةً كان أو موصوفاً، أمّا المقصور عليه فهو ما بعد أداة الاستثناء.
النفي -الْمَقْصُورُ- أداة الاستثناء- المقصور عليه.
* ما مُحَمَّدٌ (موصوف) إلاَّ رسول "صفة".
* لا صاحب للرسول في الغار إلاَّ أبو بكر الصديق.
الغار (صفة) - "موصوف"
* لن يُصِيبَنَا "أي مُصِيب ما" إلاَ مَا كتب الله لنا "صفة"
وهو "موصوف" أي: صِفَةُ ما يُصِيبَنَا أنَّه مكتوبٌ لنا لا علينا.
ثانياً: كَلِمتا "إنَّما" بكَسْر الهمزة، و"أنَّما" فتح الهمزة
والمقصور بواحد منهما هو ما يلي الأداة، والمقصور عليه هو الذي يجيءُ بعده.
أمثلة:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول):{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ...} [الآية 111]. أي: لا يكسبُهُ إلاَّ على نفسه، والمعنى أنّ المكسُوبَ من الإِثم "وهو هنا موصوف" مقصور على صفة واحدة هي كونه على نفس الكاسب. فهو من قصر موصوف على صفة، أي: لا يضرّ به إلاَّ نفسه. وظاهرٌ أنَّه من قسم القصر الإِضافي؛ إذ الكلام يدور في دائرة الجزاء عند الله، أمّا في غير دائرة الجزاء الرّبَاني فقد يضرّ كاسب الإِثم به غيره من عباد الله ضرراً دنيويّاً.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكُمْ إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ (108)}. في هذا النَّصّ قَصْران: أحدهما بأداة "إنَّما" بكسر الهمزة والآخر بأداة "أَنَّما" بفتح الهمزة.
وهذان القصران مساويان لقولنا: ما يُوحَى إليَّ إلاَّ أَنَّه ما إلَهكُمْ إلَهٌ واحد. فالْمَقْصُورُ بالأداة الأولى "إنَّما" هو الموحَى به، وهو هُنَا "موصوفٌ" والمقصورُ عَلَيْهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ "أَنَّمَا إلَهُكِمْ إلَهٌ واحداٌ" أي: وحدانية إلَهكُم، وهو هنا "صفة" أي: صفة الموحَى به كونُ مضْمُونِه هذه الحقيقة. والمقصور بالأداة الثانية "أَنَّما" هو "إلَهُكُمْ" وهو هنا "موصوف"، والمقصورُ عليه هو كونُه إلَهاً واحداً وكونه إلهاً واحداً صِفَةٌ.
فالمثالان من قصر مَوْصُوفٍ على صِفَةٍ، وظاهر أنهما من قبيل القصر الإِضافي؛ إذ الكلام مع المشركين يدور في دائرة التوحيد والشرك، ومن المعلوم أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان إبَّانَ نُزولَ النّصّ يُوحِي إلى رَسُولِهِ بياناتٍ ومعلومات أُخْرَى غير كون إلَهِهم إلَهاً واحداً.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سرة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) خطاباً للذين آمنوا: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (92)}. أي: لاَ يَجِبُ عَلى رَسُولِنَا إلاَّ البلاغُ المبينُ.
المقصورُ بأداة "أَنَّما" هو الوجوبُ على الرسول، وهو هنا "صِفَةٌ". والمقصورُ عليه هو البلاغ المبين، وهو هنا "موصوف" فهو من قصر صفة على موصوف أي: صفةُ تكليف الرسول مقصورةٌ على على موصوف هو تبليغهُ ما أَمَرَهُ الله بتبليغه بَلاَغاً مبيناً.
وهذا القصر هو من قبيل القصر الإِضافي؛ إذ الكلام حول مسؤولية الرسول تجاه قومه في موضوع رسالته، ولا يدخل في هذه الدائرة الخاصة ما يجب على الرسول من واجبات أخرى تجاه ربِّه وتجاه أصحاب الحقوق، وواجبات أخرى غير ذلك.
* ونقول في قصر الموصوف على الصفة: "إنّما اللهُ إلَهٌ واحد" وهو قصر إضافي.
* ونقول في قصر الصفة على الموصوف: "إنما الإِلَه الله" وهو قصر حقيقي.
ثالثاً: العطف بالحروف التالية "لا - بَلْ - لكن"
(1) أمَّا كلمة "لا" العاطفة فَيُعطَفُ بها لإِخراج المعطوف ممّا دخل فيه المعطوف عليه، مثل: أكَلْتُ بصَلاً لا عَسَلاً، ولبستُ خزّاً لاَ بزّاً، وللعطف بها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة.
الثاني: أن تكون مسبوقة بإيجاب أو أمْرٍ أو نداء.
الثالث: أن لا يَصْدُقَ أحد معطوفيها على الآخر، وهذا الشرط بدهي.
والعطف بكلمة "لا" يفيد الْقَصْر، وكلُّ من المقصور والمقصور عليه يأتيان قبل أداة العطف، وكلٌّ منهما قد يكون هو المعطوف عليه، أمّا المعطوف بها فهو مقصور عنه، ففي قولنا: حامل راية المسلمين في فتح خيبر عليٌّ لا غَيْرُه.
عليٌّ: هو المقصور عليه، وهو موصوف هنا.
حَمْلٌ الراية في فتح خيبر: هو المقصور، وهو صفة هنا.
غَيْرُ علي: هو المقصور عنه.
والقصر في هذا المثال حقيقي، من قصر الصفة على الموصوف.
وفي قولنا: مالك بن أنس فقيه مجتهد لا شاعر.
مالك بن أنس: هو المقصور، وهو موصوف هنا.
فقيه مجتهد: هو المقصور عليه، وهو صفة هنا.
شاعر: هو المقصور عنه.
والقصر في هذا المثال قصر إضافي، وهو من قصر الموصوف على الصفة.
(2) وأمّا كلمة"بل" العاطفة، ومعناها الإِضرابُ عن الأول، والإِثبات للثاني، وللعطف بها شرطان:
الأول: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة.
الثاني: أن تكون مسبوقة بإيجابٍ أو أمْرٍ أو نهْيٍ أو نَفْي.
* فإن وقعت بعد كلام مثبت خبراً كان أو أمراً كانت للإِضراب والعدول عن شيءٍ إلى آخر.
* وإن وقعت بعد نفْيٍ أو نَهْيٍ كانت للاستدراك بمنزلة "لكِنْ".
والعطف بكلمة "بل" يفيد القصر، والمقصور عليه بها هو ما بعدها المعطوف بها، ففي قولنا: "لا تأكل دُهْناً حيوانيّاً بل دهناً نباتيّاً". دهْناً نباتيّاً: هو المقصور عليه، وهو المعطوف بكلمة "بل"، دُهْنَا حَيَوانيّاً: هو المقصور عنه. وهو المعطوف عليه.
الأكْل المفهوم من "لا تأكل": هو المقصور. أي: ليكن أَكْلُكَ بالنسبة إلى الأدهان مقصوراً على الدهن النباتي، ومبتعداً عن الدهن الحيواني. وهذا قصر إضافيٌّ من قصر الصفة على الموصوف؛ إذ الموصوف هنا مطلق "الدُّهن" والصفة كونه دهناً نباتيّاً، والوصيةُ توجّه أن يكون المأكول من الأدهان الدّهن النباتي.
وفي قولنا: "المرجان حيوانٌ بَحْرِيٌّ بل نبات بحري".
نبات بحري: هو المقصور عليه، وهو "صفة".
المرجان: هو المقصور، وهو "موصوف".
حيوان بحري: هو المقصور عنه، وهو "صفة".
القصر في هذا المثال قصر إضافي، من قصر الموصوف على الصفة؛ إذ لا تقتصر صفات المرجان على كونه نباتاً بحريّاً.
(3) وأمّا كلمة "لكِنْ" العاطفة، فهي للاستدراك بعد النفي، وللعطف بها ثلاثة شروط:
الأوّل: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة.
الثاني: أن تكون مسبوقة بنفي أو نهي.
الثالث: أن لا تقترن بالواو.
والعطف بكلمة "لكن" يفيد القصر، وحالها كحال "بل" فالمقصور عليه بها هو ما بعدها المعطوف بها، ويصلح هنا مثال: "لا تأكُلْ دُهْناً حيَوانيّاً لكن دُهْناً نابتيّاً" بوضع كلمة "لكِنْ" بدل كلمة "بل" ويكون الشرح هناك هو الشرح هنا.
وفي قولنا: "مَا طلعَ الْفَجْرُ الصّادقُ لَكِنِ الفجر الكاذب".
الفجر الكاذب: هو المقصورُ عليه، وهو "موصوف".
الفجر الصادق: هو المقصورُ عنه.
الطلوع الخاص: هو المقصور، وهو "صفة".
القصر في هذا المثال قصر إضافي من قصر الصفة على الموصوف؛ إذ لا يقتصر الطلوع على الفجر.
الطريق الرابع
أن يكون القصر بدلالات في الكلام تفهم من:
(1) تقديم ما حقُّهُ التأخير في الجملة.
(2) إضافة ضمير الفصل.
(3) تعريف طرفي الإِسناد في الجملة.
والشرح فيما يلي:
أولاً: تقديم ما حقُّهُ التأخير في الجملة
إنّ تقديم ما حقّه التأخير في الجملة قد يُفِيدُ القصر في بعض صُوره، ومن ذلك ما يلي:
(1) تقديم المعمول على عامله.
(2) تقديم المسند إليه إذا كان حقُّه في الجملة التأخير.
(3) تقديم المسند إذا كان حقُّه في الجملة التأخير.
* أمّا تقديم المعمول على عامله فجمهور البلاغيين على أنّه يفيد القصر، سواءٌ أكان مفعولاً، أم ظرفاً، أم مجروراً بحرف جرّ، والمقصور عليه هو المقدّم.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول): {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}.
إيَّاكَ: الأولى مفعول به لفعل {نَعْبُد}. وإيّاكَ: الثانية مفعول به لفعل {نَسْتَعِين}، والأصل في المفعول به أن يكون متأخيراً عن عامله.
قالوا: دلّ هذا التقديم على تخصيص الله عزّ وجلّ بالعبادة والاستعانة، فالمعنى: لا نَعْبُد إلاَّ إيّاك، ولا نستعين إلاَّ بك. والقصر هنا من قصر الصفة على الموصوف، وهو قصر حقيقي.
المثال الثاني:
قول الله عزّ و جلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للّذينَ آمنوا: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (159)}. إلى الله: معمول لفعل {تُحْشَرُونَ} لأنّه متعلِّقٌ به، والأصل فيه أن يكون متأخّراً عن عامله.
قيل: معناه لإَلَى الله تُحْشَرُونَ لا إلى غيرِه، أي: ليحاسبكم ويجازيكم، ومعلوم أنّ الحشر يوم القيامة يكون لله وحْدَه، فهو وحده الذي يحاسِبُ عباده ويجازيهم يوم الدين. مع ما في هذا التقديم من داعٍ جمالي رُوعي فيه تناسٌق رؤؤس الآيات. ولا مانع من اجتماع عدَّة دواعي بلاغيَّةٍ لظاهر واحدة.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...} [الآية 143]. يُلاحظُ في هذا النّصّ أنَّ الصِّلَةَ في العبارة الأولى: {شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} أُخّرَتْ عن عاملها؛ لأنّ المراد مجرّد إثبات شهادة المسلمين على الناس دون تخصيصهم بهذه الشهادة؛ إذ قَدْ يَشْهَدُ عليهم عيسَى عليه السلام الذي بشَّرُهمْ بخاتم المرسلين، وسَيَشْهَدُ عليهم عند نزوله.
أمّا في العبارة الثانية: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} فقد قُدِّمَت الصلة {عَلَيْكُمْ} على عاملها {شَهِيداً} لأنَّ المراد تخصيص الرسول بشهادة عليهم؛ إذ هو المبلّغ عن الله دين الله لمن بلّغَهُمْ بَعْدَ بعثته، ولا أحَدَ غيرُهُ بلَّغَ هذا الدين عن الله.
المثال الرابع:
قول المتنبي يمدح بَدْر بْنَ عمّار:
بِرَجَاءٍ جُودِكَ يُطْرَدُ الْفَقْرُ * وَبَأَنْ تُعَادَى يَنْفَدُ الْعُمْرُ
قدّم الصلة (برجاء جودك) على عاملها (يُطْرَد) والصلة (بأنْ تُعَادَى) على عاملها (يَنْفَدُ)؛ لأنه أراد على سبيل المبالغة والادّعاء أنْ يخُصَّ برَجاءِ جوده طردَ الفقر، دون رجاء جود غيره، وأنّ يَخُصَّ بِمُعَاداته نفاد عمر من يعادِيه من الناسِ، دون معاداة غيره من الناس. فالقصر هنا ادعائي مجازي، وإضافي غير حقيقي.
المقصور (وهو صفة) المقصور عليه (وهو موصوف) المقصور عنه
طرد الفقر رجاء جوده رجاء غيره من الناس.
نفاد العمر معاداته معاداة غيره من الناس.
المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) في معرض الحديث عن كُفَّار اليهود:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ...} [الآية 85].
في هذا النص قُدِّمَ الظَّرفُ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} على عامله {يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ} لإِفادَة قصر الرَّدّ إلى أشدّ العذاب على كونه يقع يوم القيام، وهو قصر حقيقي.
* وأمَّا تقديم المسنَدِ إليه إذا كان حقُّه في الجملة التأخير، فقد يفيد القصر في بعض أحواله، وقد يفيد مجرّد التقوية والتأكيد، ودلالة القصر يساعد عليها سِبَاق الكلام وسياقه، وقرائن الحال، والمقصور عليه هو المقدّم.
فمن إفادة تقديم المسند إليه القصر - على ما أبان الشيخ عبدالقاهر الجرجاني الإِمامُ في البلاغيّات - ما يلي:
الأول: أن يكون المسند إليه معرفةً والمسنَدُ فعلاً مثبتاً، كأنْ تقول: "أنا قمت - أنا سعيت في حاجتك".
فإذا كان القصر قصر "إفراد" جاء التأكيد بنحو: "أنا قمتُ وحْدِي - أنا سعيْتُ في حاجَتِكَ وحْدِي".
وإذا كان قصر "قلب" جاء التأكيد بنحو: "أنا قُمْتُ دون غيري - أنا سيعتُ في حاجَتِكَ لا غيري" وكذلك إذا كان القصر قَصْرَ تعيين.
ومنه ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في عرض قصّة هَدِيَّة ملكه سبأ لسليمان عليه السّلام، قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)}. جاء في هذا النصّ تقديم المسند إ ليه: {أَنتُمْ} على الْمُسْنَد: {تَفْرَحُونَ} مع تقديم المعمول {بِهَدِيَّتِكُمْ} على عامله {تَفْرَحُونَ}.
وَالشاهد هنا تقديم المسند إليه المفيد مع القرائن التي اشتمل عليها النّص القصر الإِضافي، والمعنى أنّ الفرح بالهديّة مقصورٌ عليكم، لا يتعدّى إليّ، فأنا لست بها فَرِحاً، فَمَا آتاني اللهُ خيرٌ ممَّا آتاكم.
ومنه ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) لرسوله بشأن المنافقين: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ...} [الآية 101]. قُدِّم في هذا النصّ المسند إليه {نَحْنُ} على الْمُسْنَدِ {نَعْلَمُهُمْ} لإِفادة قَصْرِ الْعِلْمِ بِهِمْ على الله، وظاهر أنّ القصر هنا هو من قبيل القصر الإِضافي؛ إذ قد تَعْلَمُهُمُ الملائكة أيضاً، ولكن جاء القصر في مقابلة نفي العلم بهم عن الرسول، ولعلّ ذلك قد كان قبل أن يُعْلِمَهُ الله بهم، أو أن بعض المنافقين لم يُعْلِمِ الله رسوله بهم.
الثاني: أن يكون الْمُسْنَدُ منْفيّاً، كأن تقول لمن تخاطبه: "أنْتَ لاَ تَكْذب" فهذه العبارة أبلغ من أن تقول له: "لا تكذبُ أنت" وهذا التقديم قد يفيد القصر بمساعدة القرائن.
ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول): {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)}. ففي قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يُلاَحَظُ قَصْرُ عَدَمِ الْعِلْم على المخاطبين في النَّصّ، وساعد على هذه الدلالة قوله تعالى قبله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}.
الثالث: أن يكون المسند إليه نكرةً مثبتاً، كأن تقول: "رجُلٌ جاءني". فقد يفيد تقديم المسند إليه فيه هذه الحالة القصر بمساعدة القرائن من لحال أو من المقال.
فإذا كنت في معرض تساؤل متسائل هل الذي جاءك من الرجال أو من النساء؟ كان قولك: "رجلٌ جاءني" مفيداً أنّه ليس امرأة. وإذا كنت في معرض تساؤل متساءل هل جاءك رجلٌ أو أكثر؟ كان قولك: "رجلٌ جاءني" مفيداً أنّه رجل واحد لا أكثر.
الرابع: أن يأتي قبلَ المسند إليه حَرْفُ نفي، كأن تقول: "ما أنا قلتُ هذا القول" أي: أنام لم أقُلْه مع أنّ غيري قاله فتدَلُّ بعبارتك على قَصْرِ النفي على نَفْسِك، مع إثبات القول لغيرك.
أقول: وفي كلّ ذلك لا بُدَّ من مساعدة القرائن؛ إذ ليس القول نصّاً في الدلالة.
* وأمّا تقديم المسند إذا كان حقُّهُ في الجملة التأخير، فقد يفيد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال، والمقصور عليه هو المقدّم.
ويمكن أن أمثّل له بقولي صانعاً مثلاً، خطاباً للكفّار:
لَنْ تَهْزِمُوا إِيمَانَنَا بِسِلاَحِكُمْ * جُبَنَاءُ أَنْتُمْ أَيُّهَا الكُفَّارُ
فجاء في هذا الكلام تقديم "جُبَناء" وهو مسنَدٌ حقُّه في الجملة الاسميّة التأخير، تأخير "أنتم" وهو مسند إليه وحقُّه هنا التقديم لإِفادة القصر بمساعدة قرينة المقال السابق، وقرينة حال الاستبسال، والمعنى أنتم وحدكم الجبناء بكفركم، أمّا نحن فشجعان بإيماننا وتوكّلنا على ربّنا.
ثانياً - إضافة ضمير الفصل إلى الجملة
ضمير الفصل: هو ضمير منفصل مرفُوعٌ يُؤْتَى به فاصلاً بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر، ويفيدُ تقوية الإِسناد وتوكيده، وقَدْ يفيد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال، والمقصور عليه هو ما دل عليه ضمير الفصل.
والأصل أنّه لا محلّ له من الإِعراب، وقد يؤتَّى به على أَنَّهُ مبتدأ وما بعده خبرٌ له، وتكونُ الجملة منه ومن خبره هي الخبرَ لما قبلهما.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13)}.
لقد جيء بضمير الفصل مرَّتين في هذا النص: {أَلا? إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ - أَلا? إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ}.
ونلاحظ أنّه مع تقوية الإِسناد وتوكيده في الجملتين فقد أفاد ضمير الفصل بمساعدة القرائن القصر، والمعنى: هُمُ المفسدونَ وهُمُ السُّفَهاء، لا المؤمنون الذين يتَّهِمُهُم المنافقون بإفسادِ وحْدَةِ جماعة قومهم بدينهم الجديد، وبالسّفاهة في عقولهم، أي: بِالطيشِ ونقصان العقل.
المثال الثاني:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) في عرض سؤال الله عزّ وجلّ عيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} وفي أجوبته عليه السلام قال لربّه: 429): {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}.
جاء في هذا النصّ ضمير الفصل في حكاية قول عيسَى عليه السلام: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقيب عليهم وحدك دوني؛ إذ تَوَفَّيْتَنِي أَجَلِي بينهم، ورفعْتَنِي بعيداً عنهم، فليس لي رقابَةٌ عليهم.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول): {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)}.
أي: وكنّا نَحْنُ لاَ غَيْرُنَا الْوَارِثينَ، فقد أفاد ضمير الفصل هنا القصر بقرينة سوابق الجملة.
ومنه {فاللهُ هو الولي - وأولئك هُمُ المفلحون - إنَّ هذا لَهُو القَصَصُ الحقّ - إنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَر - وأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وأَبْكى}.
والأمثلة على هذه كثيرة.
ثالثاً: تعريف طَرَفي الإِسناد المسند والمسند إليه
ويكون هذا في الْجُمَل الاسميّة، أَمّا الْجُمَلُ الفعليّة فالفعل فيها بقوّة النكرة، فلا يكون فيها المسند معرّفاً، وليس بعيداً أن نجد جملة فعليّة هي بقوّة جملة اسميّة معرّفة الطرفين، لكن لم يُتَابع البلاغيون هذا بالبحث، كأن يَدُلَّ دليل العقل على أنّ الفعل لا يَصْدُرُ إلاَّ من الفاعل.
فقد يُفيد تعريف طرفي الإِسناد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال مع إفادته تقوية الإِسناد وتوكيده، والمقصورُ هو المبتدأ الذي يجب في هذه الحالة تقديمه، والمقصور عليه الخبر الذي يجب في هذه الحالة تأخيره.
ونمثل لما قد يُفِيدُ القصر من تعريف طرفي الإِسناد: بأنْ يجري حديث حول مشتغلَيْنِ بنظم الشعر، أيُّهما الناظم وأيُّهما الشاعر: "العمريطي" أو "أحمد شوقي" فيقول الخبير الناقد: "الشّاعِرُ أحمد شوقي" أي: أمّا "العمريطي" فناظم لا شاعر.