وقعت المحكمة الدستورية فى المحظور بقراءتها الحرفية المبتسرة للدستور الجديد التى جعلتها تقرر أحقية القوات المسلحة والشرطة المشاركة فى الانتخابات، باعتبار أن المواطنين سواء فى ممارسة حقوقهم السياسية. من حسن الحظ أننا أمام شاهد إثبات من المحكمة نفسها للقصور الذى وقعت فيه باكتفائها بظاهر النص، فقد واجهت قانونين للانتخابات خلال شهور قليلة، الأول أعادته دون ذلك القرار أو الحكم، فيما تضمنه الثانى رغم أن الدستور نفسه هو المرجع فى الحالتين. لم تأخذ المحكمة الدستورية بالمستقر منذ عودة الأحزاب فى السبعينيات، إذ أن نظام القوات المسلحة والشرطة يمنع ضباطهما وضباط الصف والجنود من الانخراط فى الأحزاب، وهو إجراء يتفق مع حظر العمل بالسياسة الذى يفرضه القانون واللوائح الخاصة بالمؤسستين. وحيث إن التصويت يخضع للميول الحزبية وتأثيرات الأحزاب، ويجعل فرد الجيش أو الشرطة عرضة للحملات الانتخابية التى قد تستهدفه فى وحدته أو ثكنته مباشرة، فقد رأى المشرع إعفاءه تمامًا مدة أدائه للخدمة العسكرية أو الشرطية، والإعفاء يختلف عن المنع ويقرره القانون، وهو ما ذهب إليه الدستور الجديد ضمناً وكذلك دستور 1971. المادة 88 من الدستور الجدد تترك للقانون تحديد الشروط الواجب توافرها فى أعضاء مجلس الشعب وبيان أحكام الانتخاب والاستفتاء، ولهذه المادة مثيلتها فى الدستور الملغى الذى لا يتضمن كذلك نصًا صريحًا يعفى القوات المسلحة والشرطة من التصويت. الدستور لا يناقض نفسه بالمساواة فى مادة ثم يستثنى فئة معينة فى مادة أخرى، لكنه يترك للقانون مهمة التفسير والشرح بما يتوافق مع روح النص الدستورى وليس ترجمة حرفية مبتسرة أو قاصرة. هناك القواعد القانونية أو الدستورية المستقرة نتيجة العمل بها فترة طويلة. المحكمة الدستورية العليا لم تقرر منذ دستور عام 1971 عدم دستورية إعفاء رجال الجيش والشرطة مع أن المادة 40 منه تقول: "المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تمميز بينهم... إلخ"، وهى طبق الأصل من المادة 33 فى الدستور الجديد التى أخذت بها المحكمة الدستورية العليا ونصها: "المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم". "الدستورية" خرجت عن قاعدة مستقرة لم تعترض عليها فى جميع الانتخابات النيابية السابقة وتعد مما هو معروف بالضرورة، ويشكل الخروج عليها انقلابًا عسكريًا خاصًا بها، ومن ثم يجب مراجعتها لدرء مخاطره وبيان خطئها الفادح والعوار الذى اعترى فهم هيئة مفوضيها للنص الدستوري. النظام العسكرى والشرطى نظام طاعة للأوامر لا يكتسب صرامته وجديته بدونها، فهل يستقيم التصويت فى الانتخابات ومن ثم حق الترشح أيضًا مع ذلك؟.. هل تجتمع الديمقراطية والانضباط العسكرى داخل الزى الميري؟! السماح للجيش والشرطة بالتصويت لا يعرضهما للانقسام والتحزب فقط، بل يهدد نزاهة العملية الانتخابية برمتها. الذين يقولون إنه ضربة لرئيس الجمهورية نسوا أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة والرئيس الأعلى لجهاز الشرطة، وبالتالى يملك سلطة التأثير على أفراد نشأوا على الالتزام وطاعة الرتب الأعلى وتنفيذ أوامرها. هذا ينطبق مستقبلاً على أى رئيس، والذى قد يأتى من داخل المؤسسة العسكرية نفسها، لأنه سيتاح لها حق الترشح اعتمادًا على إعمال السماح لها بالتصويت. المحكمة الدستورية قرأت المادة السابقة وتجاهلت نص المادة 81 التى لا تجيز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها. لفظا الأصل والجوهر يؤكدان ضمنًا حق المشرع فى استثناءات مؤقتة. المستشار حاتم بجاتو رأى ضرورة النأى بالجيش والشرطة عن العمل السياسى، وأنه ضد تصويت الجيش والشرطة فى الانتخابات. يبقى أن نسأله وهو الخارج من سنوات عمل طويلة بين دهاليز المحكمة الدستورية وشغل مؤخرًا رئيس هيئة المفوضين التى فاجأت مصر بهذا النص: "لماذا تأخرت فيه منذ عام 1971 ولم تطبقه فى القانون السابق الذى ردته إلى الشورى فى مارس الماضي"؟! الإجابة فى غاية الأهمية لإغلاق منافذ الظنون بوجود شبهة التسييس.