الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في حفظ القرآن الكريم حال نزوله عليه, وكان يحرك به شفتيه؛ وكان يدرسه حتى غلب عليه ذلك وشق عليه, فأمره الله أن ينصت ويستمع, وضمن الله له أن يجمعه في صدره وأن يقرأه كما أُنزل, ونزلت هذه الآيات: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
كما حفظ القرآن خلائق لا يُحصون من الصحابة رضوان الله عليهم. وقد دوِّن القرآن الكريم في ذلك العصر, وكتب الوحي مجموعة من الكتَّاب سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك حفظًا لكتاب الله من الضياع والتحريف؛ ومن كتبة الوحي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي, وزيد بن ثابت الأنصاري, وأبيُّ بن كعب الأنصاري , ومعاوية بن أبي سفيان, , وعبد الله بن أرقم, وعبد الله بن سعد بن أبي سرح, وغيرهم.
ففي "صحيح مسلم" وغيره من حديث أُبيّ بْنِ كَعْبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ: أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ. قَالَ: أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ. فَقَالَ: أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَؤُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا.
فيتضح من ذلك أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف, وأنه ليس بواجب القراءة بها جميعًا, بل من قرأ على أي حرف فقد أصاب وأجزأه.
وقد أقرأ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بتلك الأحرف المنـزلة عليه، فكانوا يقرؤون بِها، حتى أنكر بعضهم على بعض وجوهًا من القراءة، فأخبرهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
روى البخاري في "صحيحه" من حديث عمر بن الخطَّاب قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْهُ. اقْرَأْ يَا هِشَامُ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, خرج حفاظ القرآن إلى المواطن يجاهدون في سبيل الله مع من يجاهد من الصحابة رضوان الله عليهم، فاستحر فيهم القتل، ففزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، فأشار الفاروق عمر رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنهما، بأن يجمع القرآن خوفًا عليه من الضياع، فكان ما أراد، وحفظ الله كتابه وصدق وعده بالتكفل بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ففي الصحيح وغيره؛ قال الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قال: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقال: عُمَرُ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ.
فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَقال أَبُو بَكْر:ٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقال أَبُو بَكْر:ٍ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا. وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.
وعن زيد بن ثابت أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى أَتَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ النَّاسَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ : غَزَوْت فَرْجَ أَرْمِينِيَةَ، فَحَضَرَهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الشَّامِ، فَإِذَا أَهْلُ الشَّامِ يقرؤون بِقِرَاءةِ أُبَيٍّ، فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَيُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَإِذَا أَهْلُ الْعِرَاقِ يقرؤون بِقِرَاءةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الشَّامِ، فَيُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الشَّامِ. قَالَ زَيْدٌ: فَأَمَرَنِي عُثْمَانُ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا.
وروى البخاري من حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ قَدِمَ على عُثْمَانَ, وكان يُغَازِي أَهْلَ الشام في فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مع أَهْلِ الْعِرَاقِ, فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ في الْقِرَاءَةِ, فقال حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هذه الأُمَّةَ قبل أَنْ يَخْتَلِفُوا في الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى, فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلى حَفْصَةَ: أَنْ بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا في الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ, فَأَرْسَلَتْ بها حَفْصَةُ إلى عُثْمَانَ, فَأَمَرَ زَيْدَ بن ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بن الْعَاصِ وَعَبْدَ الرحمن بن الْحَارِثِ بن هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا في الْمَصَاحِفِ.
وقال عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ إذا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ في شَيْءٍ من الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا, حتى إذا نَسَخُوا الصُّحُفَ في الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إلى حَفْصَةَ. وَأَرْسَلَ إلى كل أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا, وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ من الْقُرْآنِ في كل صَحِيفَةٍ أو مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. قال ابن شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بن زَيْدِ بن ثَابِتٍ سمع زَيْدَ بن ثَابِتٍ قال: فَقَدْتُ آيَةً من الأَحْزَابِ حين نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قد كنت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بها فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مع خُزَيْمَةَ بن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: {من الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللَّهَ عليه...}, فَأَلْحَقْنَاهَا في سُورَتِهَا في الْمُصْحَفِ.
قال القاضي الباقلاني كما في "مرقاة المفاتيح" (5/111): "لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنزيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه ومفروضٍ قراءتُه وحفظُه؛ خشية وقوع الفساد والشبهة على من يأتي بعد".
ولَمَّا أمر عثمان رضي الله عنه بانتزاع المصاحف المخالفة وإحراقها، رفض ذلك ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وأمر الناس بأن يغلُّوا المصاحف.
روى الترمذي في "سننه" (5/285): قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَيَتَوَلاَّهَا رَجُلٌ، وَاللهِ، لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وأن عثمان رضي الله عنه اتَّبع أثر أبي بكر وعمر في اختيار زيدَ ابن ثابت. ، وكان ابن مسعودٍ إذ ذاك بالكوفة. وقد رجع ابن مسعودٍ رضي الله عنه إلى رأي الجماعة. ويدل عليه أن قراءته قد رواها عاصم وحمزة والكسائي، وغيرهم، وقراءة هؤلاء الأئمة موافقة للمصاحف العثمانية.
قال السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" (1/140): "وقال البغوي في "شرح السنة": يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نُسخ وما بقي، وكتبِها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وكان يُقرئ بِها الناس حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتب المصاحف".
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/45): "وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة بن عمرو السلماني: أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة. ومن طريق محمد بن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ... الحديث نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره: فيرون أن قراءتنا أحدث القراءات عهدًا بالعرضة الأخيرة ... وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال: قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد يعني عبد الله ابن مسعود, قال: بل هي الأخيرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل ...الحديث وفي آخره: فحضر ذلك ابن مسعود فعَلِم ما نُسخ من ذلك وما بُدل, وإسناده صحيح. ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما".
قال النووي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (69): خاف عثمان رضي الله عنه قوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة، الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن علي بن أبي طالب، وسائر الصحابة، وغيرهم رضي الله عنهم.
ولَمَّا كان الاعتماد في نقل القرآن على المشافهة والتلقِّي من صدور الرجال، ولم تكن المصاحف كافية في نقل القرآن وتعلُّمه، فقد أرسل عثمان رضي الله عنه مع كل مصحف من المصاحف قارئًا يعلِّم الناس على ما يوافق المصحف الذي أرسل به، وكان يتخير لكل قارئٍ المصحف الذي يوافق قراءته في الأكثر.
فقد روي أن عثمان رضي الله عنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكيّ، وبعث المغيرة بن أبي شهاب مع الشاميّ، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفيّ، وعامر بن عبد قيسٍ مع البصري.
ومن هنا بدأ ظهور الشذوذ على كل قراءة لم تحظ بالإجماع, فقد ذكرت الروايات أن عثمان أبعد عددًا من الروايات التي لم يستفض نقلها عن النبي عليه الصلاة والسلام وإعلان بطلان العمل بها. وأصبح من ذلك الحين رسم المصحف العثماني شرطًا أساسيًا من شروط صحة القراءة, والقراءة التي لا توافقه اعتبرت من الشاذ.
فالقراءة الصحيحة ما صح سنده, ووافق العربية, ووافق الرسم العثماني. والقراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا.
وبقى خارج حدود الرسم العثماني عدد من الحروف كما جاءت في مصاحف كل من أبي وابن مسعود وغيرهما، وذكر المتتبعون لشأن القراءات أن هذه المصاحف اشتملت على أحرف كثيرة لم تشهد العرضة الأخيرة؛ وإن كان أصحاب هذه المصاحف تمسكوا ببعض القراءات ولم يتخلوا عنها لأنهم سمعوها بأنفسهم من النبي عليه الصلاة والسلام؛ مما يفيد أن قرآنيتها تنسب إلى الآحاد, وبالتالي شذت عن الإجماع وشذت عن التواتر.
قال ابن حجر في (فتح الباري (9/30): "وقال البغوي في شرح السنة: المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عثمان بنسخة في المصاحف وجمع الناس عليه, وأذهب ما سوى ذلك قطعًا لمادة الخلاف, فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع؛ فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم ".
والقراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته. ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة وليس في ذلك خطر ولا إشكال؛ لأن الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ. ويستفاد من القراءة الشاذة في إثراء اللغة والتفسير والأحكام الشرعية.
فمثلاً من القراءات الشاذة ما قرأ به ابن شنبوذ: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله}. وقرأ: {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا}. وقرأ :{والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى} دون {ما خلق}. ويقال: إنه اعترف بذلك كله, ثم استتيب.
قال ابن السبكي في جمع الجوامع: "ولا تجوز القراءة بالشاذ، والصحيح أن ما وراء العشر [أي القراءات العشر] فهو شاذ وفاقًا للبغوي والشيخ الإمام، ويريد بالشيخ الإمام والده مجتهد العصر أبا الحسن علي بن عبد الكافي السبكي".
وقال شهاب الدين أحمد الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر" (ص7): "السبب الداعي إلى أخذ القراءة عن القراء المشهورين دون غيرهم؛ أنه لما كثر الاختلاف فيما يحتمله رسم المصاحف العثمانية التي وجه بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار والشام واليمن والبصرة والكوفة ومكة والبحرين وحبس بالمدينة واحدًا وأمسك لنفسه واحدًا الذي يقال له الإمام, فصار أهل البدع والأهواء يقرؤون بما لا يحل تلاوته وفاقًا لبدعتهم؛ أجمع رأي المسلمين أن يتفقوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم, فاختاروا من كل مصر وجه إليها مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدراية وكمال العلم؛ أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم ولم تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم ... فوضع الأئمة لذلك ميزانًا يرجع إليه وهو السند والرسم والعربية فكل ما صح سنده ووافق وجهًا من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحًا مجمعًا عليه أو مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله ووافق خط مصحف من المصاحف المذكورة فهو من السبعة الأحرف المنصوصة في الحديث, فإذا اجتمعت هذه الثلاثة في قراءة وجب قبولها سواء كانت عن السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، نص على ذلك الداني وغيره ممن يطول ذكرهم، إلا أن بعضهم لم يكتف بصحة السند، بل اشترط مع الركنين التواتر، والمراد بالمتواتر ما رواه جماعة عن جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب من البداءة إلى المنتهى".
وقال ابن الصلاح؛ كما في "البرهان في علوم القرآن" (ص332) و"مناهل العرفان في علوم القرآن" (324): "يُشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قرآنًا واستفاض نقله بذلك، وتلقته الأمة بالقبول، كهذه القراءات السبع؛ لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع... ويجب منع القارئ بالشواذِّ وتأثيمه بعد تعريفه، وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه".
وقد اتفق على أن قراءات الأئمة العشرة متواترة، مقروء بِها، وعلى أن ما خالفها من اختيارات غيرهم شاذة، غير مقروء بِها.
فأما القراء العشرة ورواتهم فهم: نافع من روايتي قالون وورش عنه. وابن كثير من روايتي البزي وقنبل عن أصحابهما عنه. وأبو عمرو من روايتي الدوري والسوسي عن يحيى اليزيدي عنه. وابن عامر من روايتي هشام وابن ذكوان عن أصحابهما عنه. وعاصم من روايتي أبي بكر شعبة بن عياش وحفص بن سليمان عنه. وحمزة من روايتي خلف وخلاد عن سليم عنه. وعلي بن حمزة الكسائي من روايتي أبي الحارث والدوري عنه. وأبو جعفر يزيد بن القعقاع من روايتي عيسى بن وردان وسليمان بن جماز عنه. ويعقوب بن إسحاق الحضرمي من روايتي رويس وروح عنه. وخلف بن هشام البزار من روايتي إسحاق الوراق وإدريس الحداد عنه.
وفي القراءات الشاذة أيضًا أربعة أئمة: ابن محيصن محمد بن عبد الرحمن المكي من روايتي البزي السابق وأبي الحسن بن شنبوذ. واليزيدي يحيى بن المبارك من روايتي سليمان بن الحكم وأحمد بن فرح _ بالحاء المهملة - . والحسن البصري من روايتي شجاع بن أبي نصر البلخي والدوري السابق ذكره. والأعمش سليمان بن مهران من روايتي الحسن بن سعيد المطوعي وأبي الفرج الشنبوذي الشطوي.
غير أنه توجد قراءات أخرى تروى عن الصحابة وغيرهم غير القراءات العشر المجمع على تواترها, وغير القرءات الأربع الشواذ المذكورة.
قال شهاب الدين أحمد الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر" (ص9): "قال عبد الوهاب بن علي السبكي: القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي، والثلاث - التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف - متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلومٌ من الدين بالضرورة أنه منَزَّل على رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهلٌ، وليس تواتر شيء منها مقصورًا على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلمٍ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، ولو كان مع ذلك عامِّيًّا جلفًا، لا يحفظ من القرآن حرفًا".
ومما يجب أن يُعلم ويؤخذ في الإعتبار أن أكثر أئمة القراءات, والذين نقلوا الرواية بها؛ هم أئمة في الحديث والفقه واللغة, ويُروى عنهم في كتب السنن.
ثم دارت أسانيد القراء العشرة على ثمانية من الصحابة هم:
1 - عثمان بن عفان.
2 - علي بن أبي طالب.
3 - أبي بن كعب.
4 - عبد الله بن مسعود.
5 - زيد ابن ثابت.
6 - أبو موسى الأشـعري.
7 - أبو الدرداء.
8 - عمر بن الخطاب.
ومبسوط ذلك في كتب القراءات, والله نسأل أن يبصرنا بأحكام ديننا, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.