لا أتعاطف مع أصوات مؤيدي الرئيس محمد مرسي التي تطالبه باللجوء إلى إجراءات استثنائية من أجل وقف موجة الاحتجاجات العنيفة والتي تتخللها عمليات بلطجة وعنف واضحة أو دفعه لمواجهة عنيفة مع الإعلام الناقد له وربما المتحرش بجهوده في السلطة وإدارة الدولة، ولا ينبغي أن يأخذنا الغضب والاستياء "المشروع" مما يحدث إلى الدخول في مرحلة تتعقد فيها الأمور وتصل إلى نقطة اللاعودة، فالإجراءات الاستثنائية ستسيء قطعًا إلى الرئيس مرسي وحكمه، لأنه لا يوجد أحد في العالم من حولنا يحترم الإجراءات الاستثنائية، خاصة إذا كانت على خلفية صراع سياسي وتجاذب حول السلطة، كما أن أي محاولة للتضييق على الإعلام ستكون تكلفتها السياسية أعلى كثيرًا من أي مردود يمكن أن تحققه، لأن المساس بالإعلام وحرية الرأي والتعبير خط أحمر في أي خيال ديمقراطي، ولن تجد من يتعاطف معك نهائيًا في الداخل أو الخارج، إلا المؤيدين وأنصار الرئيس، أيضًا، وربما هو الأهم في تلك المعضلة، فإن الرئيس مرسي يدرك جيدًا ـ كما يدرك كثيرون في مصر ـ أن أدوات الدولة ليست على نسق واحد من الثقة بالسلطة التنفيذية أو الولاء للقيادة السياسية، بل إن بعض أجهزة الدولة ومؤسساتها الحساسة منقسمة على نفسها في ذلك الموقف، وهو ما يجعل أي إجراء غير حكيم من القيادة السياسية مزلقًا نحو الهاوية للدولة ومؤسساتها، لأن الكل سيخبط في الكل، وما لا يدركه كثير من المتحمسين أن التحدي الذي يواجهه الرئيس ليس دائمًا في "الشارع"، وإنما في بنية الدولة ذاتها وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة، ويكفي أن ننظر إلى الانقسام الحاد في موقف المؤسسة القضائية من منصب النائب العام، ورفض قطاع واسع للطريقة التي تم بها تنصيب المستشار طلعت عبد الله، وكثير من هؤلاء لا يعترضون على شخص المستشار طلعت، فتاريخه ليس فيه ما يشين أبدًا، بل كان جزءًا من تيار الاستقلال في القضاء، وإنما الأزمة في طريقة اختياره والتي رأى قطاع كبير من البيت القضائي أنها جاءت بطريقة استعلائية لم تحترم القواعد القانونية كما لم تحترم إرادة القضاة ومجلسهم الأعلى، وإذا كان البعض من رجال النيابة والقضاء اعترضوا علانية وبعضهم تظاهر، فإن هناك كثيرين لن يكون اعتراضهم واحتجاجهم في التظاهر، وإنما في إجراءات أيضًا وربما أحكام فيها مساحة واسعة من الاجتهاد، وبالتالي لن يكون مفاجئًا أن يتم تفريغ معظم قرارات النائب العام من مضمونها عمليًا عندما تتم إحالتها إلى القضاء وأحيانًا عبر رجال النيابة العامة أنفسهم، ويمكن للقارئ الاسترسال في استنتاج توابع لهذا الانقسام يصعب الشرح فيها خلال هذه السطور، فعندما تأتي القيادة السياسية لتتخذ إجراءات استثنائية في ظل هذه الأوضاع المعقدة فإنها لن تتخذها إلا عبر هذه الأدوات المنقسمة على نفسها، وبالتالي فالنتيجة العملية هي تعقيد الأمور أكثر وربما الصدام المروع والحتمي بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية بما يؤذن بانهيار الدولة.
أعود لأؤكد بأن الأزمة هي سياسية في عمقها، لا هي أمنية ولا قانونية، فالجميع استباح الأمن والقانون، وأن المخرج منها لن يكون إلا بعقل سياسي وحزمة إجراءات سياسية، وأعتقد أن هذا ما يفكر فيه الرئيس مرسي، وهذا ما يجعله يتمسك بالحكمة والصبر وطول البال، ليس عن ضعف، فالمسألة لا تحسب هنا بضعف أو قوة، وإنما بإدراكه الصحيح لتعقيدات المشهد وحساسيته العالية، وأن أي خطوة غير محسوبة قد تفجر الأوضاع بما يصعب احتواؤه بعد ذلك، ولذلك أتمنى أن تخف ضغوط أنصار الرئيس عنه في تلك المرحلة، فهو أدرى بصعوبتها، وهو أدرى بخلفياتها التي لا تقال ولا تعلن، وكما يقولون "اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار"، فتلك مسؤوليته هو، والقرار الذي يصدر سيكون قراره وتوابعه القانونية والرسمية لن يتحملها أحد غيره، تفكيك حزمة التحديات التي تواجه الرئيس لن تأتي فجأة، ولا بين عشية وضحاها، ولا عبر قرار أو إجراء سريع أو استثنائي، وإنما عبر جهد صبور وحكمة كبيرة لا تستسلم لحظوظ النفس ونفس طويل وقدرة أعلى على تحمل توابع الانفلات السياسي والأمني، وتوفيق الله له من قبل ذلك ومن بعده.